الذِّكر المحفوظ نفي لصفة الجنون عن النبي
لطالما شكّلت الآية التاسعة من سورة الحِجْر، “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ”، عمادًا رئيسيًّا في الخطاب اللاهوتي الذي يثبت أنّ النصّ القرآني محفوظ من كلّ تحريف أو تبديل. وقد استقرّ هذا الفهم في الوجدان الديني العام، حتى بات يُتعامل مع هذه الآية بوصفها الدليل القاطع، دون نقاش، على صيانة القرآن من العبث البشري.
غير أن هذا الاستشهاد، وإن شاع رسوخُه، يكشف عند التمحيص عن مواطن خَلَل في الفهم السائد، لا بسبب نَصِّ الآية نفسها، بل بسبب آلية تلقّي النصوص، وطريقة تأويلها في كتب التفسير، حيث يتمّ غالبًا عزل الآيات عن سياقاتها، وتفسيرها بوصفها وحدات مستقلة قائمة بذاتها.
صدق التجربة النبوية
إن أبرز ما يُلاحظ في هذا السياق هو الولع التفسيري بالفصل والتجزئة، حيث تُفَسَّر كلّ كلمة أو آية بمعزل عن سِيَاقِها البنيوي والدلالي، ومن غير النظر إلى ما قبلها وما بعدها، أو إلى ما ترمي إليه السورة في كُلِّيَّتِها. وهكذا تمّ عزل الذِّكر في الآية المذكورة عن موضعه داخل سورة الحِجْر، ثم حُصِرَ معناه حصرًا تقريريًّا في القرآن الكريم، بإجماع أغلب الفقهاء والمفسّرين. غير أنّ قراءةً أكثر تفاعُلًا مع السياق العام للآيات، وأكثر وعيًا بالحركة البلاغية الداخلية للنص، تكشف معنى مغايرًا، لعله أقرب وأدق.
ففي الآية السادسة من السورة نفسها، نقرأ: “وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ”، وهي آية تكشف بجلاء طبيعة الاتهام الذي وُجِّه إلى النبيّ. إنهم يطعنون فيمن نُزِّل عليه، أي النبي، فيصفونه بالجنون. والجنون كما هو معلوم حالة معنوية داخلية. فلا يُعقل أن يكون الجنون مقابلًا لنص مادي، أي القرآن، بل لا بد أن يكون الذكر هنا مرادفًا لحالة ذهنية أخرى، والمعنى الأقرب هنا سيكون هو الوحي، أي النبوة نفسها؛ أي تلك الحالة الذهنية والروحية التي يقول بها النبي، ويكذّبها الخصم بوصفها جنونًا.
القرآن واجه الولع التفسيري بالفصل والتجزئة حيث تُفَسَّر كلّ كلمة أو آية بمعزل عن سِيَاقِها البنيوي والدلالي
على هذا الأساس، تبدو الآية التاسعة لا بصيغة دفاع عن نص مدوَّن، بل تأكيد على صدق التجربة النبوية ذاتها، والحفظ هنا هو أقرب إلى حفظ النبي نفسه من النقص العقلي الموسوم به في تهمة الجنون: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ”. إنها ليست وعدًا بحفظ نص، بل بصون الحالة النبوية التي كُذِّبت ووصِفت بالجنون، فكان الرد بأن من نزّل الذكر على هذا المتَّهم بالجنون هو الله، وما هو باختلاق مجنون أو هلوسة عقلية. بل إن الآية التالية تدل على فعل النبوة أكثر مما تدل على الكتاب، حيث جاءت لإثبات الرسالات الأخرى وما يتعرض له المرسلون من رفض وإنكار: “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ”.
ويؤيّد هذا المعنى التحليلُ اللغويّ لجذر ذَكَرَ، إذ إنّ الذِّكر يتصل بالحضور والوعي والاستدعاء، ويُقابِل النسيان والغفلة. ومنه اشتُقّ الذِّكر بمعنى التذكير بالحق أو بالحقيقة العُليا، وهي وظيفة النبوّة في جوهرها. وفي مواضع قرآنية أخرى، مثل سورة الطلاق، يُستخدم الذكر للدلالة على الرسالة بأكملها، لا على الكتاب فحسب: “قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ”. فهنا، الذِّكر هو الرسول نفسه، أي أن الذكر يُجسِّد حالة الوحي والاصطفاء، لا النص فقط.
الآن، لنأخذ الآيتين معًا في سياقهما متحدتين معا: “وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ”، ثم: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ”. تحمل الآية الأولى طعنًا مباشرًا في النبي، لا في الذكر نفسه. فالمشركون يطعنون في صاحب التجربة النبوية، ويصفونه بالجنون. وهنا تتدخل الآية اللاحقة بوصفها ردًّا مباشرًا لا يقتصر على نسب الذكر إلى الله، بل يتجاوز ذلك إلى وعد بالحفظ، “وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ”، لكن لمن هذا الحفظ؟ أهو للنص المنزل، أم لمن أُنزل عليه النص، الذي وُصف بالجنون؟
التفسير التقليدي، الذي اعتاد تقطيع الآيات والنظر إلى كل منها منعزلة، يرجّح أن الضمير يعود على الذكر، أي القرآن. لكن هذا التأويل يصطدم بسياق الآيات، إذ لا شيء في هذا الموضع يستدعي الدفاع عن النص نفسه، بل عن النبي الذي وُضع موضع الاتهام. السياق كله قائم على الرد على الشبهة الموجهة إليه، لا إلى نص القرآن.
بل إن الحفظ، في هذا السياق، يظهر كضمانة لحالة النبي النفسية والعقلية، ردًّا على تهمة فقدان العقل. وليس غريبًا أن يُستخدم فعل الحفظ في القرآن بهذا المعنى، كما في قوله: “فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا” في قصة يوسف، أو قوله ” يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ” في سورة الرعد، حيث الحفظ ليس للنصوص، بل للأنفس.
ثم إن التلازم المفهومي بين “الذكر” و”العقل” أرسخ دلالة من التلازم بين الذكر والقرآن. فالذكر بوصفه وحيًا لا ينفصل عن حالة التلقي النبوي، وعن صفاء العقل الذي يشكك فيه الكفار. ومن هنا، فإن وعد الحفظ لا يُفهم بوصفه تعهّدًا بصون الكتاب، بل تعهّدًا بحماية من أُنزل عليه، ونفيًا صريحًا لتهمة الجنون.
التفسير التقليدي، الذي اعتاد تقطيع الآيات والنظر إلى كل منها منعزلة، يرجّح أن الضمير يعود على الذكر، أي القرآن. لكن هذا التأويل يصطدم بسياق الآيات
سياق الآيات
إذا ما أُخذت الآية التاسعة، مستقلة، كدليل على حفظ القرآن من داخله، كما يقول التراث الفقهي، فإنّ مأزقًا منطقيًّا يبرز إلى السطح: لا يصحّ الاستدلال على صدق نصّ باستخدام نصّ من داخله، ما دام الخصم ينكر أصلًا صِدقيّته. فالبرهان الذي لا يخرج من النصّ لا يمكن أن يُقنِع من يُشكِّك في النصّ ذاته. وهذا يجعل الاحتجاج بالآية لإثبات حفظ القرآن احتجاجًا دائريًّا، يدور في فلكه ولا يتجاوز حدوده.
لكن الأخطر من ذلك أن الروايات المتعلقة بتاريخ جمع القرآن تشير إلى واقع أكثر تعقيدًا من التصوّر المثالي الشائع. يكفي أن نُشير إلى إشكالية ترتيب السور في المصحف، الذي لا يتبع ترتيب النزول، بل يخضع لمعيار آخر غير واضح، اعتباطي، مع أولوية تقديم السور الطوال، وإزاحة القصيرة إلى آخره. هذا الترتيب غير الزمني يُربك المعنى، ويُضعف تدفُّق الخطاب، لأن كثيرًا من الدلالات لا تستقيم إلا في سياقها الزمني والحدثي، كما في شأن الناسخ والمنسوخ، أو في تراتبية الخطاب الدعوي.
ومن مظاهر هذا الاضطراب أيضًا، غياب البسملة عن سورة التوبة، وهي السورة الوحيدة التي لا تبدأ بها. وقد فُسّر هذا الغياب بأقوال فضفاضة كما هي عادة التفاسير، غير أن الملاحظة الأخطر هنا هي وجود أقوال بأنّ السورة إنما هي متمّمة لسورة الأنفال، أي أنهما في الأصل سورة واحدة.
والأمر نفسه يُقال عن سورتي الفيل وقريش، إذ توجد روايات عن بعض التابعين تُفيد بأنهما كانتا سورة واحدة. كذلك ما رُوي عن عبدالله بن مسعود، أحد أبرز قرّاء الصحابة، أنه لم يكن يكتب المعوّذتين في مصحفه، وكان يعدّهما رقيتين لا سورتين. هذا الاعتراض من صحابي بهذا الوزن لا يمكن تجاهله.
إنّ هذه الأمثلة تُضعف من سردية الحفظ المطلق للنص، وتُعيد توجيه النظر إلى أن المقصود بالحفظ ليس النصّ المكتوب بحدّ ذاته، بل حامل الوحي الذي وُصِف بالجنون. إن الآية التاسعة، في ضوء هذا السياق، تبدو وعدًا إلهيًّا، وردّا إلهيا، بحماية نبيّ الله من السخرية والتكذيب والطعن في قواه العقلية، فذاك أقرب إلى سياق الآيات، كما أنه يجب ألا ننسى أن سورة الحجر هي من بين السور المبكرة وقد نزلت في السنة الرابعة من البعثة، أو قبل ذلك، ومن الصعب الحديث عن “الذكر” في تلك الفترة المبكرة دليلا على “القرآن” الذي ما تزال سوره محدودة العدد، كما أن آية الحفظ لو كان القصد منها حفظ القرآن فقد كان الأولى لها أن تأتي في مرحلة متأخرة جدا من نزول الوحي، دلالة على ختم النبوة واكتمال الوحي، كما جاءت الآية: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا”.