"ميديا السوداء" أسطورة مسرحية تنبض بروح الأرض الأسترالية
يأتي نص “ميديا السوداء” للأسترالي ويسلي إينوك، ليس فقط ليكون نصا مجددا في أسطورة إغريقية شهيرة وإنما ليسلط الضوء على أستراليا وخصوصية المجتمع وأزماته وتاريخه وليدفعنا نحن العرب لإعادة التفكير في المسرح، في دوره، وإلى أي مدى كان ناطقا بخصوصيتنا ومعبرا عن أزماتنا وصراعاتنا ويجعلنا ندرك إلى مدى يمكن للفن أن يكون أداة للمقاومة.
تمثل مسرحية “ميديا السوداء” للكاتب والمخرج الأسترالي ويسلي إينوك تجربة فريدة في مسرح ما بعد الاستعمار، إذ لم يقم بإعادة إنتاج أسطورة ميديا للكاتب الإغريقي يوربيديس، بل صاغ أسطورة جديدة تنبض بروح الأرض الأسترالية وثقافة سكانها الأصليين.
وضع إينوك شخصياته في فضاء الصحراء والريح، ووظف الجوقة والطقس ليحوّل الحكاية إلى محاكمة جماعية للعنف، للحب والخيانة، وللجرح الاستعماري العميق وما أورثه من قوى وانكسارات مؤلمة.
"ميديا السوداء" صرخة كبيرة ومؤثرة ضد النسيان ضمن نشاط ونضال للعديد من الشعراء والفنانين الأبوريجينيين وقوميات أخرى
ويسلي إينوك، بصفته كاتبًا ومخرجًا أبوريجينيًا، طبع نصه ببصمات خاصة. والقارئ لهذا النص سيجد الحضور الروحاني للغة الشعرية، وسيلمس قوة الرموز الجمعية، وقدرة بديعة على النقد الذاتي داخل المجتمع الأبوريجيني نفسه، إذ يُظهر جيسون رجلًا أسود ممزقًا يعيد إنتاج العنف الذي ورثه من الاستعمار. أما ميديا فتصبح رمزًا للمرأة/الأرض، ضحية وحارسة في آن واحد، تختار التضحية بابنها لتكسر دائرة العنف.
من المهم جدًا أن يُقرأ هذا النص في سياق الحضارة العريقة للسكان الأصليين لهذه القارة، حضارة تمتد لآلاف السنين، تأسست على أساطير “زمن الحلم”، لغات متعددة، فنون صخرية وموسيقية، ورؤية كونية ترى الأرض ككائن حي وروح خالدة. لقد تعرّض هؤلاء السكان الأصليون لمحاولات إبادة منظمة منذ الغزو البريطاني عام 1788: الكثير من المذابح والحروب العنيفة، فرض العمل القسري، سرقة الأجيال عبر عمليات “تبييض” أطفال السكان الأصليين وتربيتهم بعيدًا عن أهلهم وثقافتهم في مؤسسات خاصة لنزع هويتهم. ورغم كل ذلك فإن هذه الثقافة قاومت ونجت، ولا تزال حيّة في الأغاني واللوحات والطقوس.
إذن، من هنا ندرك أهمية مسرح ما بعد الاستعمار، لأنه فعل مقاومة معرفية وجمالية، يفضح زيف الروايات الاستعمارية التي صوّرت السكان الأصليين كهوامش بلا تاريخ، ويؤكد أن المسرح قادر على أن يكون طقسًا وذاكرة وصوتًا حيًا للأرض وأبنائها.
“ميديا السوداء” بهذا المعنى ليست مجرد مأساة شخصية، بل صرخة كبيرة ومؤثرة ضد النسيان، ضمن نشاط ونضال للعديد من الشعراء والفنانين الأبوريجينيين وقوميات أخرى، يسعى كله إلى استعادة الهوية والكرامة الثقافية والإنسانية.
قداسة الأرض وسحر التراجيديا
لنتأمل بداية هذا النص الساحر، تزجُّ بنا البداية في عمق صحراء ممتدة لا حدود لها، تسير ميديا بخطى واثقة، ترافقها ريح تتنقل بين الجدران كأنها أصوات أسلاف لم يغادروا المكان. تحمل طفلها، تحميه من صخب وعنف الغيب، لكنها تعلم أن مصيره سوف يتقاطع مع قدرها. تصرخ متحدية “أنا ابنة هذه الأرض، وريثة دمها وسرّها، لن تُسفك قطرة من دمي فوق رملها العطش.”
يدخل جيسون مثقلا بصراخه الداخلي، كأن الريح تضرب رأسه. رجل متوتر بين ذاكرة أب عنيف وقلق أن يعيد إنتاج الدائرة ذاتها. تنشب الخلافات بينه وبين ميديا حول تفاصيل يومية، لكنها تكشف أن هذا الحلم المشترك هشّ وفي طريقه إلى الاندثار. يتحوّل الحب القديم إلى مرآة صدئة سرعان ما تتصدع، وإلى لغة شجار وملامح ندم.
تتوقف الأزمنة في مقاطع “الإظلام”، وتتحول الحياة إلى لوحات متقطعة: طفل يلهو بالرمل وقارب صغير تحت الطاولة، ميديا ترقص وحدها، جيسون يفتح الثلاجة ليخرج زجاجة بيرة ثم يكسرها، كرسي يتحطم، حقيبة سفر تُغلق وتُفتح، أفعال متعددة نشطة وديناميكية ذات دلالات متعددة تمس الحاضر والمستقبل وليست أسيرة الماضي ولا تقليد المناخات الأسطورية الإغريقية. كل صورة تكثّف لخلق ما يمكن أن نصفه بمسرح انهيار داخلي أكثر من كونه حدثًا عابرًا.
تدخل الجوقة، أصوات جماعية تستحضر قداسة الأرض وتذكّرنا بخطيئة النسيان. تقول للجمهور “هذه قصة الشر الذي نحمله جميعًا، قصة العنف وما فُعل بهذه البلاد.” المشهد يعكس مكانًا متربًا على أطراف الصحراء، يصوّر مجتمعًا مأزومًا يراقص الوهم ويعيد إنتاج أوجاعه. وفي وسط هذا الخراب يعود جيسون ويظهر ببدلة رسمية، مثيرًا السخرية، لكنه يجذب عين ميديا التي حلمت ببيت وحديقة بعيدة عن غزو الرمل. بينهما تبدأ رقصة الهروب الأولى.
تحلم ميديا بنساء يملأن الصحراء حتى الأفق، أمهات وجدات وجموع من الوجوه الداكنة تنظر إليها. تتمنى ألا يكون حلمها عزاءً، بل استدعاء للقوة الكامنة في الذاكرة الجمعية.
لكن العنف يتسلل مع توالي الأحداث، ومع تقدمها نرى جيسون ينهار. الجوقة تهمس في أذنه أن يترك المرأة التي ضحت بأهلها وأرضها، الماضي يلتف حوله، وهو يصرخ “أنا لست أبي،” لكن الدائرة تُحكم قبضتها.
حين يبدأ في التخلّي عنها تستعيد ميديا إرثها الروحي، وتناجي الأرواح طلبًا للقوة. وفي ذروة المأساة تختار أن تحرر ابنها من مصير التكرار والخضوع والهزيمة، تطهره بالماء ثم تقتله. وعندما يواجهها جيسون تصرخ “أنقذته منك.”
النهاية ليست حلا، يمكن أن نفهمها على أساس أنها أشبه بانفتاح جرح: ميديا تحترق مع البيت وتذوب في الريح، لتعود كقوة أرضية خالدة. هنا يكمن سحر النص وقوته؛ تفنن الكاتب الأسترالي ويسلي إينوك في خلق تراجيديا فلسفية تجعل من الأسطورة القديمة أسطورة جديدة، حيث تتحول المأساة إلى فعل مقاومة، وتظل الأرض الكائن الأسمى، الشاهد الذي لا يموت، خطابات مشهدية وخلق إرث حضاري جديد للأجيال القادمة، ليس من أجل أن تتسلى به ولكن لتكمل المسيرة في استعادة الكينونة والهوية الوطنية.
زيف الروايات الاستعمارية

تأتي مسرحية “ميديا السوداء” لويسلي إينوك كعمل تتحد فيه قوة الشكل وعمق الموضوع، حيث لم يكتفِ الكاتب باستعارة الأسطورة القديمة بل نسج منها نصًا جديدًا ينبض بالدهشة والجمال والروحانية.
أبرز ما يميز النص هو تلك المشهدية الديناميكية التي تتوالى فيها الصور كأنها لقطات سينمائية أو لوحات متقطعة، مثال على ذلك: الطفل وهو يلعب تحت الطاولة، زجاجة بيرة تتحطم، امرأة ترقص وحدها، حقيبة سفر تُغلق وتُفتح. هذه الصور ليست تفاصيل عابرة في النص، بل جزء من بنية درامية متماسكة تُجسد الانهيار الداخلي للشخصيات، وتمنح المتلقي إحساسًا بأنه يعيش المأساة لحظة بلحظة.
شخصية ميديا تُقدَّم بعمق إنساني وروحي؛ فهي البطلة الأسطورية وهي ابنة الأرض الأسترالية، تحمل إرث الأسلاف وفي الوقت نفسه جراح امرأة محاصرة بخيانة الزوج وضغط الواقع بميراث استعماري مرعب. إذن ينجح النص في تصوير قوتها التي تؤدي بنا إلى نهاية كارثية؛ بكل قدرتها تمكنت من تحويل الألم إلى فعل مقاومة، حتى حين تنتهي إلى قتل ابنها، فإن هذا الفعل يتجاوز كونه انتقامًا ليصير محاولة لكسر دائرة العنف الموروثة، ثم تُحرق نفسها لتكون رمادًا وريحًا. أما جيسون فيظهر رجلًا هشًا، يطارده إرث ماضٍ عنيف، يتمزق بين طموحه وإخفاقاته، بين حبه وكراهيته، حتى ينكشف في النهاية كصورة للإنسان المستعمَر الجبان والخاضع الذي أعاد إنتاج القهر الاستعماري.
النص لا يكتفي ببناء الشخصيات، لكنه حقيقة يخلق حميمية مع القارئ والمشاهد؛ فحتى ونحن نقرأ النص بعيدًا عن خشبة المسرح، نجد أنفسنا منجذبين إلى تفاصيله، مشدودين إلى صوته الشعري والرمزي، ومضطرين إلى التفكير في تلك الحضارات والهويات التي حاول المستعمر الإنجليزي محوها بالعنف والقتل والحرق والاغتصاب. وبينما كانت مطابع لندن وبيرمنغهام تنشغل بطباعة دواوين رومانسية ونصوص نقدية عن القيم والجمال، كانت أستراليا تشهد أبشع المذابح بحق سكانها الأصليين دون أن يلتفت العالم إلى هذه الجرائم.
طريق النضال والكرامة

تتجلى قيمة ويسلي إينوك وأمثاله من المبدعين الذين اختاروا طريق النضال والكرامة، إذ يحوّلون المسرح إلى فضاء لفضح زيف الروايات الاستعمارية، ويكتبون نصوصًا لا تقوم على خطابات حماسية جوفاء ولا على بنى جامدة أو بكائيات أو عروض رقص وتهريج، بل على فسيفساء فنية تمزج بين الدهشة والروح والفلسفة والجمال. إن “ميديا السوداء” عمل إبداعي يستحق بجدارة صفة مقاوم، يذكّرنا بأن المسرح قادر على أن يكون مرآة للحقيقة ووسيلة لاستعادة الهوية والكرامة الإنسانية.
إن قراءة نصوص مثل “ميديا السوداء” لويسلي إينوك تضعنا نحن العرب أمام ضرورة ملحّة لإعادة التفكير في معنى المسرح ودوره. لقد عرف المسرح العربي منذ الخمسينات والستينات من القرن الماضي محاولات جادّة لفضح وحشية الاستعمار وإدانة قمعه، لكن الكثير من هذه التجارب لم تجد امتدادًا عميقًا، واليوم نشهد تراجعًا واضحًا في الشكل والمضمون. ما يُقدَّم في الغالب صار أقرب إلى عروض للمشاركة في مهرجانات تتكاثر كل عام بنفس اللجان والنقاد والمشاركين، أغلب هذه المهرجانات تُفرّخ لجانًا وبيانات وشعارات أكثر مما تُنتج نصوصًا متجذّرة في الذاكرة والتجربة.
تحوّل المسرح العربي، في الكثير من مساحاته، إلى نشاط ترفيهي يخصّ دوائر شللية ضيّقة، بعيدًا عن الفعل النقدي المقاوم الذي يواجه الأسئلة الكبرى للهوية والكينونة.
من هنا، تأتي أهمية الانفتاح على تجارب مسرحية عالمية مثل تجربة إينوك وغيره من كتّاب ما بعد الاستعمار، كونها تفتح أمامنا أفقًا جديدًا لفهم الفن كأداة مقاومة، وكتابة جرح الاستعمار في ذاكرة المسرح. هذه النصوص تذكّرنا بأن المسرح ليس زينة ولا بيانًا سياسيًا، هو فضاء للبوح الجماعي، وأداة لتجديد الهوية الوطنية.
يمكننا أن نستلهم من هذه النماذج، ودون الوقوع في التقليد والقصّ واللصق، من أجل محاولة جادة لاستعادة دور المسرح العربي كمختبر روحي وجمالي قادر على بناء الوعي ومواجهة الزيف وصون الكرامة الثقافية والإنسانية.