"درايف" يفضح صناعة المؤثرين كأداة استهلاكية
في فيلمه "درايف"، يقدّم المخرج الكوري الجنوبي بارك دونغ – هي تجربة سينمائية تختزل العصر الرقمي والشهرة الافتراضية وصناعة الوعي الجماهيري والتحكم فيه. وعبر قصة مؤثرة شهيرة تجد نفسها مختطفة داخل صندوق سيارة، يدفع الفيلم بالمشاهد إلى مواجهة قاسية مع واقع يصعب فيه التمييز بين الحقيقة والعرض، وبين النجاة والحفاظ على الصورة الجماهيرية.
ينخرط الفيلم الكوري الجنوبي “درايف” في سلسلة طويلة من الأفلام العالمية التي تناولت ظاهرة المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وكل هذه الأعمال تحاول تفكيك حضورهم ورصد أثرهم في تشكيل قيم وسلوكيات مجتمعية معاصرة. فمنذ صعود هذه الفئة، أصبح اليوتيوبر أو المؤثر شخصية مثيرة للجدل، حيث يُقدَّم أحيانًا كنموذج للحرية الفردية وصانع محتوى ملهم، وفي المقابل يُصوَّر أيضًا ككائن هش، فارغ، أو متورط في سعي محموم وراء الشهرة والمال.
في هذا الفيلم، الصادر عام 2024، نجد البطل/الضحية يو ـ نا، مؤثرة على يوتيوب ذات مئات الآلاف من المتابعين، تتحول فجأة من رمز للقوة الرقمية إلى رهينة محتجزة في صندوق سيارتها. هنا يضعنا المخرج بارك دونغ ـ هي أمام مفارقة لاذعة نوعًا ما: من يمتلك آلاف العيون المترقبة لظهوره والمعجبة بجماله وشخصيته يصبح عاجزًا عن إثبات حقيقة وضعه، إذ يظن غالبية الجمهور أن بثها المباشر مجرد خدعة أو حملة دعائية مبتكرة.
هذه المفارقة تكشف الوجه المظلم لعالم السوشيال ميديا، حيث نعيش غياب الثقة، وفقدان الحدود بين الحقيقة والوهم، وقبول الخداع والتصفيق للكذب والنفاق، وانهيار المعنى أمام سيل من الصور المعدّة للاستهلاك.
نموذج هوليوودي ساذج
السينما العالمية قدمت قبل هذا الفيلم تجارب متعددة، بعضها يفضح هوس التقليد والسعي وراء حياة “الإنستغراميين”، وبعضها صوّر الوجه العنيف والمظلم للتلاعب عبر الإنترنت، فيما ركّز جزء منها على الوحدة القاسية خلف بريق المؤثرين. في كل هذه الأعمال، نجد أسئلة تحاول فهم هذا الكائن الجديد الذي لم يعد نجمًا سينمائيًا أو رياضيًا، بل شخصًا عاديًا تحوّل بفعل الخوارزميات إلى رمز استهلاكي.
الإضافة التي يقدمها “درايف” تكمن في ربط الظاهرة بجشع المال وقبح الاستغلال. نفاجأ بأن الخاطف لا يطلب فدية سرية، بل يجبر الضحية على “تحويل حياتها المهددة إلى محتوى مباشر،” ليصبح الموت نفسه سلعة، والمأساة عرضًا مشوقًا يُباع للجمهور. هذه الصورة تفضح منطقًا متناميًا وواقعًا يتجذر بقوة: فكل شيء قابل للتسليع، حتى الخوف والدموع. وهكذا يتحول المؤثر من مُسيطر على جمهوره إلى مسجون تحت رحمته ورحمة شركات الدعاية، فهو ليس قدوة، بل مُوجِّه للرغبات ومادة للاستهلاك.
إن هذا الفيلم القادم من كوريا الجنوبية، البلد السينمائي المنافس كان سيكون متميزًا أكثر لو أنه تمسك بأصالته وتجنب النموذج الهوليوودي الساذج، وربما سعى مخرجه إلى تعميق النقاش حول هشاشة هذه النجومية الرقمية، وتذكيرنا بأن السوشيال ميديا ليست فقط فضاءً للتسلية، بل ساحة تعكس منظومة أكبر من الأطماع والتلاعب وانهيار الثقة. وهو بذلك يواصل ما بدأت تطرحه السينما العالمية، حيث أن المؤثر ليس بالضرورة صانع تغيير إيجابي أو مبدعًا مميزًا، بل قد يكون مرآة لمجتمع مهووس بالصورة، يلهث خلف وهم الجماهيرية، ولا يتورع عن تحويل المأساة ذاتها إلى “ترند” عابر.
حاول المخرج تقديم “درايف” كعمل إثارة وتشويق، لكنه في الحقيقة اعتمد على أنماط سردية مألوفة كثيرًا في هذا النوع من الأفلام، الأمر الذي جعله يفتقد إلى عناصر قوة متينة تجعله عملاً استثنائيًا أو فارقًا. ومع ذلك، يمكن أن نجد بعض العناصر الإيجابية التي حاول المخرج والكاتب بارك دونغ ـ هي أن يبني عليها، حتى وإن لم تكتمل بالشكل المطلوب.
مأزق وجودي
أول ما يُسجَّل للفيلم هو فكرة ربط ظاهرة المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي بمأزق وجودي حاد، أي هذا التحول من رمز للسيطرة والشهرة إلى ضحية محتجزة داخل صندوق سيارة، تُجبر على أن تبث مأساة حياتها مباشرة. هذه المفارقة في حد ذاتها جذابة، وتستدعي تفكيرًا نقديًا في طبيعة النجومية الرقمية، وفي هشاشة علاقتها بالجمهور. لكنها بقيت على السطح ولم تُعمَّق بما يكفي.
ثانيًا، بذلت الممثلة بارك جو ـ هيون جهدًا في أداء دور الضحية المؤثرة “يو ـ نا” بإقناع نسبي، إذ حاولت نقل قلق الشخصية وارتباكها، غضبها وعزلتها، كما استطاعت أن تظهر تدريجيًا تفتت قناع القوة الذي تضعه المؤثرة أمام الكاميرا. هنا برز جزء من البُعد الإنساني للشخصية، غير أن السيناريو لم يمنحها مساحة كافية لتطور داخلي حقيقي، يربط بين ماضيها كمتنمّرة تجاه مراهق من معجبيها انتهى إلى الانتحار، وحاضرها كضحية تسقط في فخ الانتقام.
ثالثًا، هناك محاولة لخلق مفاجأة درامية عبر إدخال شخصية الشرطية التي تتابع القضية، والتي تكشف الأحداث أنها أمّ الشاب المراهق الذي أنهى حياته بعد أن تجاهلته المؤثرة وسخرت منه. في البداية بدا هذا المسار مثيرًا للاهتمام، إذ يفتح بابًا لقصة انتقامية ذات بعد إنساني، لكنه لم يُبنَ بذكاء وجاء مُبتورًا. فالمفاجأة لم تُؤسس على توتر كافٍ، ولم يُستثمر هذا الخيط السردي في حبكة متماسكة، ما جعل الأثر النهائي باهتًا.
رابعًا، من العناصر الإيجابية كذلك الإيقاع السريع الذي حافظ عليه الفيلم في أغلب مشاهده. فالمخرج أراد منذ البداية أن يسابق الزمن نحو النهاية، حيث يعيش المشاهد تجربة الاختناق مع البطلة. وهذا الجانب الإيقاعي أنقذ الفيلم من الوقوع في الملل، لكنه لم يُسعفه ليتجاوز الرتابة العامة للسرد.
غير أن فرص التميز كانت كبيرة وضاعت؛ وكان بالإمكان دفع الفيلم نحو رعب نفسي أعمق، بحيث يستغل المكان الضيق (صندوق السيارة) كفضاء كابوسي يضاعف الرعب والهلع. كما كان بالإمكان تطوير الخط البوليسي ليمنح الأحداث بعدًا من الغموض والتحقيق، أو دفع القصة في اتجاه مؤامرة انتقام أكبر، لتشمل أكثر من شخصية. لكن كل هذه المسارات بقيت مجرد إشارات لم تُستثمر.
حتى شخصية الشرطية/الأم، التي كان يمكن أن تمنح الفيلم ثقلًا دراميًا، ظهرت متأخرة ودون بناء كافٍ، فبدت المفاجأة سطحية. كما أن قضية المؤثرة نفسها لم تُحفر بعمق: لم نرَ مأساة المراهق الذي انتحر، ولا تفاصيل عن قسوة التنمر الذي تعرض له، بل اكتُفي بتلميحات عابرة جعلت الذنب الأخلاقي للبطلة غير مُقنع تمامًا.
انعكاس للعالم المعاصر
كشف الوجه المظلم لعالم السوشيال ميديا، حيث نعيش غياب الثقة، وفقدان الحدود بين الحقيقة والوهم، وقبول الخداع والتصفيق للكذب والنفاق
في النهاية، يمكن القول إن عناصر القوة في هذا الفيلم قليلة ومحدودة. وسنلاحظ أن الفكرة الأولية مثيرة وجيدة، وكذلك الأداء الجيد للبطلة، ثم الإيقاع السريع، وتوظيف المفارقة بين النجومية الرقمية والهشاشة الإنسانية. لكن غياب العمق في السيناريو، والاكتفاء بالأنماط المكررة، وعدم استغلال خط الأم/الضحية، جعل الفيلم يفوّت فرصًا عديدة للتفوق، فما كان يمكن أن يكون فيلمًا صادمًا وذا أثر طويل المدى انتهى كعمل عابر، يُذكّر بأفلام أخرى مشابهة أكثر مما يضيف إليها.
في خاتمة الحديث عن هذا العمل، نجد أنفسنا أمام عمل لا يقدّم مجرد حكاية عن مؤثرة تقع في فخ الاختطاف، بل يفتح نافذة أوسع على صناعة كاملة باتت تتحكم في وعي الجمهور وتوجهاته. هذه المؤثرة، مثل كثير من نظرائها، ليست سوى نتاج ماكينة ضخمة، تُعيد إنتاج الشهرة كسلعة، وتُحوِّل حياة الأفراد ومآسيهم إلى محتوى استهلاكي سريع الزوال. الفيلم، حتى وإن لم يرتقِ إلى مستوى الإثارة والرعب العميق، يذكّرنا بأن ظاهرة “المؤثرين” ليست بريئة ولا عفوية كما تبدو، بل تقف خلفها أيادٍ خفية تدير اللعبة وتستثمر في جشع الإنسان وولعه بالصورة واللحظة العابرة.
إن ما يقدمه الفيلم من خلال مأساة البطلة يو- نا ليس سوى انعكاس لعالمنا المعاصر، حيث تُدار هذه “النجومية الرقمية” كأداة للهيمنة الناعمة، وأحيانًا كلعبة سياسية تهدف إلى تشتيت الشعوب وتخديرها وصرفها عن قضاياها الكبرى: التلوث الذي يهدد الكوكب، الحروب التي تفتك بالملايين، المجاعات التي تقوّض كرامة الإنسان، والظلم الذي يتسع يومًا بعد يوم. بينما ينجذب المتابعون إلى خدع بصرية، ترندات لحظية، وتفاهات تُسوّق تحت شعار “الإلهام”، يُترك الواقع أكثر قسوة وظلامًا.
ولا يختلف المشهد في عالمنا العربي كثيرًا، حيث نرى نماذج عديدة من مؤثرين بلا فكر ولا فلسفة، غايتهم جمع المال وتكريس الاستهلاك، بينما يُغفلون قضايا جوهرية تمس الإنسان والمجتمع. هؤلاء يتحولون إلى أدوات لإعادة إنتاج التفاهة، وإلى ستار يُحجب خلفه النقاش الجاد والوعي النقدي.
من هنا ومع كل ملاحظاتنا، نرى تشجيع هذه النوعية من الأفلام والتجارب فلها قيمة رمزية، حتى وإن تعثر بعضها سرديًا. وهذا الفيلم حاول تنبيهنا إلى أن صناعة المؤثرين هي جزء من منظومة كبرى علنية وخفية، تُعيد صياغة علاقتنا بالحقيقة والحرية والوعي.
وإذا لم نتعامل مع هذه الصناعة بوعي نقدي يقظ، فسنبقى أسرى لعبة استهلاكية تسلب منا قدرتنا على التفكير الحر، وتدفعنا إلى أن نعيش داخل صندوق مغلق، ننتظر من يفتح لنا نافذة لنرى أنفسنا من جديد.