مذكرات الرحالة والمرشد اليمني اليهودي حييم حبشوش نافذة على اليمن في القرن الـ19

حييم حبشوش صوت يمني يواجه خطاب الاستشراق الأوروبي.
الثلاثاء 2025/09/30
حبشوش صوت محلي أصيل يتصدى للتشويه الاستشراقي

الكثير من المستشرقين الذين جالوا في الشرق قدموا عنه صورا نمطية ما تزال راسخة إلى يومنا هذا، لا إنكارا لأدوار هؤلاء في رصد وتوثيق أجزاء هامة من تاريخ المناطق التي زاروها، ولكن ما دونوه في صورهم ورسومهم ونصوصهم يحتاج أحيانا إلى تصويب، وتخليصه من نظرة الاستعلاء. ولا يكون هذا إلا بخطاب محلي يعيد سرد التاريخ بمنظور أصحابه.

يُعَدّ كتاب “رؤية اليمن مذكرات الرحالة والمرشد اليمني اليهودي حييم حبشوش” نصًا فريدًا في تاريخ اليمن واليهود اليمنيين، كتبه الصائغ والمثقف اليهودي الصنعاني حييم حبشوش (1839–1899).

العمل جاء نتيجة رحلة حبشوش مع المستشرق الفرنسي جوزيف هاليفي عام 1869–1870، حيث جابا مناطق عدة في اليمن بحثًا عن النقوش السبئية والحميرية. غير أن حبشوش لم يكتف بتسجيل الرحلة كدليل، بل حوّلها إلى سرد شخصي يخلط بين اليوميات، الإثنوغرافيا، والفولكلور، ليعكس صورة اليمن وأهله من الداخل.

ضد نمطية الاستشراق

 الكتاب من الشواهد على الصراعات المستمرة بين قيم العاطفة والروحانية الشرقية ومنطق الغرب الذي كثيرًا ما يُقصي الآخر
الكتاب من الشواهد على الصراعات المستمرة بين قيم العاطفة والروحانية الشرقية ومنطق الغرب الذي كثيرًا ما يُقصي الآخر

الكتاب كُتب بعد نحو عقدين من الرحلة، بدفع من المستشرق النمساوي إدوارد غلاسر، لكنه تجاوز مجرد “تقرير ميداني” ليتحول إلى مشروع أدبي – أنثروبولوجي. حبشوش أراد أن يقدّم لليمنيين واليهود اليمنيين صورة إنسانية أمام القارئ الأوروبي، وأن يتصدّى لما كان يتوقعه من تشويه في كتابات هاليفي. لذا جمع بين الوصف التفصيلي للمجتمع اليمني (عادات، أزياء، قبائل، وضع المرأة، علاقات المسلمين واليهود) وبين تحليل العلاقة المتوترة بينه وبين هاليفي، حيث امتزج التعاون بالريبة والخلافات الثقافية والأخلاقية.

ما يميز هذا الكتاب أنه يُعطي صوتًا محليًا أصيلًا في مواجهة خطاب الاستشراق الأوروبي. فهو يروي قصصًا عن الوساطة القبلية، الطقوس الدينية، الشعر الشعبي، والأمثال، كما يُدخل ملاحظاته حول قضايا حساسة كالموقف من السحر، الطهارة، وحتى الإجهاض وقتل الشرف. أسلوبه يمزج بين العبرية المزخرفة في البداية واللغة العربية الدارجة لاحقًا، ما يعكس تداخل الثقافتين.

أما عن المؤلف، فحبشوش كان شخصية متعددة الأبعاد: صانع نحاس، مثقف، وجامع نقوش قديمة، سعى دومًا للانفتاح على المسلمين والاتصال بالمستشرقين الأوروبيين. بعد تجربته مع هاليفي، كتب أيضًا “حليخوت تيما” (طرق اليمن)، مؤرخًا لليهود اليمنيين ومعاناتهم في ظل قرارات مثل “مرسوم المراحيض”. توفي عام 1899، لكن نصه ظلّ شاهدًا مبكرًا على وعي محلي مقاوم لهيمنة السرد الاستشراقي، وعلى محاولة جريئة لرسم “رؤية يمنية” بعيون ابنها.

قدّم المترجم الأميركي ألان فيرسكن عمله رؤية اليمن لحَييِم حبشوش بوصفه نصًا نادرًا وذا أهمية بالغة في فهم تاريخ اليمن واليهود اليمنيين. يوضح أن اكتشافه للكتاب جاء بمحض الصدفة أثناء دراسته في جامعة برنستون، حيث أسَرَتْه فرادته ما جعله ينكب على ترجمته. يرى فيرسكن أن النص يتجاوز كونه مذكرات رحلة، ليصبح شهادة محلية تعكس المجتمع اليمني في القرن التاسع عشر، وعلاقته المعقدة مع المستشرقين الأوروبيين.

يبرز المترجم أن قيمة الكتاب لا تكمن فقط في المادة التاريخية والإثنوغرافية، بل في كونه يمنحنا صوتًا يمنيًا يهوديًا أصيلاً مقابل الخطاب الاستشراقي الذي لم يكن دومًا صادقًا، وهذا يجعل هذا الكتاب وثيقة نادرة لمواجهة الصور الاستشراقية النمطية. لذلك حرص على بذل جهود مضنية من أجل أن تكون ترجمته مميزة للنص الأصلي، وأن تُظهر طرافة أسلوب حبشوش الذي يستعين في الكتاب أيضا بالسخرية والحكايات الشعبية.

كما أن فيرسكن يشير إلى الصعوبات البحثية التي واجهها، إذ اعتمد على مخطوطات ومصادر متناثرة في مكتبات ومراكز متعددة بباريس، فيينا، القدس، ونيويورك. وقد شكر عددًا كبيرًا من الباحثين والأمناء الذين أتاحوا له الاطلاع على الأرشيفات، مثل مجموعة غلاسر في الأكاديمية النمساوية للعلوم. أما اليمن نفسه، الذي كان محور الكتاب، فلم يتمكن من زيارته بسبب الحرب الدائرة، مما أضفى شعورًا مؤلمًا بالانفصال بين النص وميدانه الأصلي.

الكتاب كُتب بعد نحو عقدين من الرحلة، بدفع من المستشرق النمساوي إدوارد غلاسر، لكنه تجاوز مجرد “تقرير ميداني” ليتحول إلى مشروع أدبي – أنثروبولوجي

يرى المترجم أن صدور الكتاب بالإنجليزية عام 2018 يمثّل إضافة معاصرة إلى الدراسات الشرق أوسطية واليهودية، لأنه يفتح نافذة على اليمن في لحظة تاريخية قلّما وُثّقت من الداخل. ومن خلال هذه الترجمة، يأمل أن يُسهم في إبراز ثراء التجربة اليمنية – اليهودية، ويعيد إحياء نص ظل طويلًا خارج دائرة الاهتمام الأكاديمي.

يتمحور كتاب رؤية اليمن حول تجربة حييم حبشوش مع المستشرق الفرنسي جوزيف هاليفي خلال رحلتهما في اليمن (1869–1870)، لكن النص تجاوز السرد الجغرافي وأصبح شهادة ثقافية واجتماعية. ينقسم إلى محورين أساسيين: الوصف الإثنوغرافي للمجتمع اليمني والعلاقة المتوترة بين حبشوش وهاليفي.

تركز الفصول الأولى على الرحلة عبر القرى والمدن، جمع النقوش السبئية والحميرية، ومشاهدات عن القبائل والطقوس والعادات. ثم ينتقل السرد إلى قضايا حساسة مثل علاقات المسلمين واليهود، وضع المرأة، السحر، الطهارة، الإجهاض، والقتل بدافع الشرف. وتظهر أيضًا قصص عن الوساطة القبلية، الشعر الشعبي، والأمثال.

يجمع الكتاب بين المذكرات والأنثروبولوجيا والفولكلور، في أسلوب يتراوح بين العبرية والعربية، ويضم الكثير من الاقتباسات القرآنية والتوراتية، إضافة إلى الشعر والسرد ورؤية حبشوش الخاصة، مثل دهشته لبعض الاكتشافات الغريبة وتعجبه من أمور لم يكن يتصورها، وحكايات حدثت خلال الرحلة كشفت له المستشرق هاليفي. وتأتي خاتمة الكتاب لتؤكد وعي حبشوش بضرورة تقديم “رؤية يمنية” أصيلة، تقاوم التمثيلات الاستشراقية وتبرز المجتمع بكل تناقضاته الإنسانية.

الفتاة اليهودية الحبلى

 قيمة الكتاب لا تكمن فقط في المادة التاريخية بل في كونه يمنحنا صوتًا يمنيًا يهوديًا أصيلاً مقابل الخطاب الاستشراقي
قيمة الكتاب لا تكمن فقط في المادة التاريخية بل في كونه يمنحنا صوتًا يمنيًا يهوديًا أصيلاً مقابل الخطاب الاستشراقي

من أكثر المقاطع إثارة في كتاب رؤية اليمن لحييم حبشوش، حادثة الشابة اليهودية في إحدى القرى اليهودية الصغيرة، حُكم على الفتاة بالموت على يد أهلها بدافع “الشرف” بعد أن حملت دون زواج. هذه اللحظة تكشف تصادمًا عميقًا بين رؤية حبشوش، المنتمي إلى ثقافة شرقية روحانية ومجتمعية، ورؤية المستشرق الفرنسي جوزيف هاليفي، القادم من الغرب بعقلانية صارمة ونزعة استعلائية.

حبشوش لم يقف متفرجًا، بل حاول إنقاذ الفتاة عبر اقتراحين: الإجهاض لإخفاء آثار الفضيحة أو الزواج منها ليمنحها حماية اجتماعية. كلا الخيارين عنده كانا وسيلة للحفاظ على حياتها وكرامتها، في انسجام مع تصوره الإنساني القائم على قيم الرحمة والتكافل. لكن هاليفي، المتشبع بروح القانون والعقلانية الأوروبية، رأى في هذه الأفعال تهديدًا للأخلاق والغاية العلمية لرحلتهما ومضيعة للوقت. استنكر بشدة موقف حبشوش، وأجبره على التخلي عن الفتاة وتركها لمصيرها المأساوي.

هذه الحادثة تكشف أكثر من مجرد صراع أخلاقي فردي؛ إنها تعكس التوتر التاريخي بين يهود الشرق ويهود الغرب. حبشوش كان نموذجًا للانفتاح الروحاني والتشبث بالقيم الشعبية حتى لو بدت متناقضة أو “ساذجة” في نظر الإنسان الغربي، بينما هاليفي مثل العقلانية المنفصلة عن العاطفة، والاعتقاد بتفوّق الرؤية الغربية “المتحضرة”. هذا التناقض غذّى صورًا نمطية استمرت طويلًا: أن يهود الشرق غارقون في الطيبة والخرافة، بينما يهود الغرب عقلانيون وحداثيون.

إن استحضار هذه القصة اليوم يمنحها بعدًا أوسع: فهي لم تكن لحظة صراع شخصي، بل أشبه بمرآة لفجوة أعمق في فهم الإنسانية. حبشوش قد يُقرأ بوصفه حالمًا يسعى للرحمة والعدالة، في حين بدا هاليفي أسير منظومة معرفية متعالية تحجب عنه التعاطف. وهكذا يظل هذا الكتاب من الشواهد المهمة على الصراعات المستمرة بين قيم العاطفة والروحانية الشرقية ومنطق الغرب الذي كثيرًا ما يُقصي الآخر بحجة العقل والتمدّن وقيمة الوقت والعمل.

يقدّم كتاب رؤية اليمن لحييم حبشوش أكثر من مجرد شهادة تاريخية؛ حيث يعكس ملامح مجتمع يمني متنوع، كان اليهود جزءًا أصيلًا من نسيجه على مدى قرون. القراءة المتأنية لهذا النص تجعل القارئ يواجه حقائق مؤلمة، مثل قانون المراحيض الذي فرضه بعض الأئمة، حيث أُلزم اليهود بحفر المراحيض وتنظيفها، في ممارسة لا إنسانية كشفت عن قسوة التمييز الديني والاجتماعي. إن مثل هذه السياسات لم تُسِئ لليهود وحدهم، بل أساءت لصورة اليمن ذاته ولتاريخه الذي طالما عُرف بالتعايش.

إن إعادة دراسة التراث اليهودي اليمني ضرورة ملحّة، فطمس مساهمات اليهود أو إنكارها هو تشويه لذاكرة وطنية كبرى. لقد كان اليهود مواطنين يشاركون في الحرف، التجارة، والفنون، وأسهموا في إثراء الثقافة اليمنية عبر الموسيقى والشعر والحرف اليدوية. إنكار هذا الدور لا يخدم أحدًا، بل يكرّس صورة مجتزأة وباهتة لتاريخ اليمن.

التعايش الذي عاشه اليمنيون – بمختلف دياناتهم – لآلاف السنين يفتح لنا نافذة أمل، إذ يذكّر بأن السلام ليس مستحيلًا. فاليمن الذي استطاع أن يحتوي اختلافاته سابقًا، يمكنه أن يعيد بناء دولته اليوم على أساس المواطنة المتساوية، بعيدًا عن التهميش والصراعات المذهبية.

إن عودة الدولة اليمنية إلى مسار التنمية تحتاج إلى حكمة تعيد الاعتبار لأصالتها التاريخية، فتحتضن كل مكوّناتها من دون استثناء. بهذا فقط يمكن أن ينهض اليمن من محنته، مستندًا إلى تراث تعايش عريق يذكّرنا بأن التعددية لم تكن تهديدًا، بل مصدر قوة وإبداع. إن كتاب رؤية اليمن يذكرنا بواجبنا تجاه هذا التاريخ، وبأن استعادة روح الانفتاح والاعتراف المتبادل قد يكونان المدخل الأصدق لمستقبل أكثر عدلًا وسلامًا.

8