لوركا بين الشعر والمسرح.. ذاكرة الحرية المفقودة في حاضر مهدد بالقمع

لغة تكشف المستور جاعلة الموت والقدر جزءًا من كل مشهد شعري ومسرحي.
الجمعة 2025/10/03
رمز عالمي ألهم أجيالًا من الشعراء الثائرين

تبرز إعادة قراءة مؤلفات غارثيا لوركا اليوم كفعل مقاومة ضد ثقافة الزينة الفارغة والخضوع، مقاومة كل التيارات العنصرية والفاشية والنازية المرعبة التي قد تعيد أوروبا إلى تخلف القرون الوسطى، تأتي إعادة قراءة لوركا اليوم بمثابة دعوة إلى مسرح حيّ يعيد وصل الشعر بالفعل، ويضعنا في مواجهة أسئلتنا الوجودية والإنسانية الكبرى.

يُعدّ فيدريكو غارثيا لوركا (1898–1936) واحدًا من أكثر الأصوات حضورًا في الأدب الإسباني والعالمي. شاعرٌ غنّى للغجر والقمر والدم في الرومانس الغجري، وواجه قسوة المدينة الحديثة والعنصرية في شاعر في نيويورك. لكن مسيرته لم تتوقف عند الشعر، فقد تحوّل إلى كاتب مسرحي مبدع، قدّم نصوصًا ريفية مشحونة بالرموز مثل عرس الدم ويرما وبيت برناردا ألبا، وأخرى تجريبية وسريالية مثل الجمهور وهكذا بعد خمس سنوات. اغتياله المبكر على يد الفاشيين الإسبان أثناء الحرب الأهلية جعله أيقونة ثقافية، وصوته ما زال حيًّا يحذّر من عودة الاستبداد.

اليوم، ومع تنامي التيارات العنصرية واليمينية المتطرفة في أوروبا، وصعود الفاشية والنازية الجديدة، يبدو استرجاع إرث لوركا أكثر من مجرد وفاء لشاعر مقتول؛ إنه فعل نقدي ضروري لمواجهة حاضر مهدّد بعودة القمع والدكتاتوريات وربما الحروب الأهلية. فالفاشية التي أودت بحياته ليست مجرد تاريخ بعيد، بل شبح يتجدد كلما ضعفت قيم الحرية والتعدد.

لوركا لم يكن شاعرًا إسبانيًا فحسب، بل تحول إلى رمز عالمي ألهم أجيالًا من الشعراء. في العالم العربي، حضر بقوة في نصوص محمود درويش، عبدالوهاب البياتي، وأدونيس، حيث استُعيد رمزًا للشهيد، وقرينًا شعريًا يعبّر عن المقموعين والمنفيين. غير أن النقد العربي، رغم احتفائه الواسع بلوركا الشاعر، قلّما توقّف عنده ككاتب مسرحي، تاركًا نصوصه المسرحية – وخاصة التجريبية منها – في الظل.

إن إعادة قراءة مسرح لوركا، خصوصًا نصه الإشكالي الجمهور، تمنحنا فرصة لتأمل قضايا الحرية، الجسد، والأقنعة الاجتماعية، في لحظة أوروبية مهددة بعودة الأوهام الشمولية. لوركا، إذن، ليس ذكرى أدبية فحسب، بل ذاكرة حيّة للحرية المهدورة، ومفتاح لفهم حاضرنا المأزوم.

صدمة الحداثة وصمت الاستعمار

فيدريكو غارثيا لوركا يُعدّ واحدًا من أكثر الأصوات حضورًا في الأدب الإسباني والعالمي

في عام 1929، سافر فيدريكو غارثيا لوركا إلى الولايات المتحدة ليعمل محاضرًا زائرًا في جامعة كولومبيا. هذه الرحلة التي بدت فرصة ذهبية، تحولت سريعًا إلى صدمة وجودية. لوركا القادم من غرناطة وجد نفسه وسط مدينة هائلة، “مدينة الحديد والنار” كما وصفها، حيث تلاقت الرأسمالية المتوحشة مع البؤس الإنساني، والفوارق الاجتماعية الحادة مع عنصرية قاتلة. من هذه التجربة خرج لوركا بديوانه الاستثنائي “شاعر في نيويورك”، فقد صوّر انهيار الإنسان أمام وحشية المدينة، وكتب عن العنف، التهميش، والعنصرية ضد السود والمهاجرين، بل وفضح آلية تحول الرأسمال إلى قوة سحق جماعية.

ورغم أن لوركا عُرضت عليه فرص مغرية للبقاء، بينها منصب أكاديمي مرموق، إلا إنه رفض وأعلن رفضه العيش في هذا العالم القاسي. لم يحب اللغة الإنجليزية، ولم يتآلف مع فضاء نيويورك، فسافر إلى كوبا حيث عاش فترة قصيرة أقرب إلى حلم استوائي حرّ، قبل أن يعود إلى إسبانيا.

إلا أن المفارقة الكبرى تكمن في أن لوركا، رغم احتكاكه بشعراء من أميركا اللاتينية وتأثره ببعض روادها الذين كتبوا بجرأة عن مرحلة ما بعد الاستعمار الإسباني، وعن تجارة الرق والإبادات المروعة التي ارتكبتها الإمبراطورية الإسبانية في القارة الجديدة، لم يكتب شيئًا عن هذا الجانب. لقد دافع عن المهمشين، ناصر المثليين، ووقف إلى جانب المرأة المقهورة، لكنه صمت تمامًا عن الإرث الاستعماري لبلاده.

هذه نقطة ضعف قلّما يتطرق إليها النقاد، لكنها تكشف نقصًا واضحًا في إنسانيته الشاملة. وهو نقص لم يكن فرديًا بل مشتركًا بين العشرات من رموز الحداثة الأوروبية، التي نادرًا ما نسمع أصواتها في مواجهة جرائم الاستعمار الأوروبي بحق شعوب وقارات بأكملها.

إن إعادة قراءة لوركا اليوم تستلزم الإعجاب بجذوة إنسانيته، لكن أيضًا التذكير بصمته الذي يبقى شاهدًا على قصور جيل كامل ومخجل من أيقونات أوروبا الحديثة.

مسرح لوركا والجمهور

يُعدّ لوركا واحدًا من أهم مجددي المسرح في القرن العشرين، ويمكن القول إن نصه الإشكالي الجمهور شكّل ذروة تجربة سريالية مهمة.

ومع أن القارئ العربي عرف لوركا أساسًا كشاعر، فإن ترجمات عبدالرحمن بدوي لبعض مسرحياته، وخاصة “عرس الدم” كانت من أوائل المحاولات لتعريف القارئ العربي بالكاتب المسرحي الكبير. غير أن هذا الكتاب لم ينتبه له أحد، ولم يُكتب حوله نقد يُذكر، مما أبقى لوركا مسرحيًا شبه مجهول في الثقافة العربية، بينما ظل المسرحيون العرب أسرى شكسبير والمأساة الإغريقية.

لوركا يُعدّ واحدًا من أهم مجددي المسرح في القرن العشرين

الجمهور نص صعب، متشظٍ، ينتمي إلى المسرح “تحت الرمال” كما سماه لوركا نفسه. الدارس للنص سيدرك تقنيات لوركا التي حطّمت الأشكال التقليدية، وخلقت قوسًا من الرموز والأقنعة والخيول والأصوات اللاواعية. هذا النص يكشف الكثير من مميزات لوركا المسرحية، نذكر أهمها:

المسرح الشعري: اللغة تتحول إلى شعر، والحوار أقرب إلى نشيد رمزي. عمل لوركا على خلق شعرية خلاقة وزج الروح الشعرية في النص.

التجريب السريالي: الشخصيات أقنعة أو رموز، الزمان والمكان مفككان، والمشهد أقرب إلى حلم/كابوس.

ثيمة الحرية والرغبة: المسرح فضاء لكشف المكبوت الجنسي والاجتماعي، وخاصة المثلية وقمع الجسد.

الموت والقدر: كما في أغلب نصوصه الريفية، يبقى الموت حاضرًا كقوة حتمية.

الهوية والأقنعة: شخصيات تتقنع، تتبدل، تكشف وتخفي، في إشارة إلى زيف المجتمع وضرورة كشف المستور.

التمرد على الجمهور: لوركا لا يكتب لإرضاء الجمهور بل لمواجهته، والجمهور نص عن الصراع بين الحقيقة والزيف على الخشبة. المسرح واللامسرح.

إذن، مسرح لوركا وإن وُصف بالشعرية في روحه وتقنياته، فإنه يبتعد عن الزخارف اللفظية والبلاغة المصطنعة وأساليب الزينة المفضوحة. لقد قدّم ثورة جمالية وأخلاقية سعت إلى هدم السائد وطرح أسئلة الحرية والجسد والمصير.

نحن كمثقفين وشعراء ومسرحيين عرب بحاجة إلى اكتشاف نصوص لوركا المسرحية وإعادة قراءتها، وهذا يعني إعادة طرح سؤال: هل نحن مستعدون لمسرح الصدمات وما بعد الصدمة وفضح الأقنعة؟

أغلب مهرجاناتنا المسرحية الرسمية تميل إلى مسرح لا يقول شيئًا، لا يحرّك روحًا ولا ينشّط خيالاً أو جدلاً، مسرح يخلو من الفلسفة والصدمة والفكر ويحتفي بالزخارف البلاغية والأضواء الزائفة.

دراسة مسرح لوركا وغيره من الأصوات المبدعة تجعلنا نشعر ببُعدنا عن ركب المسرح العالمي، فما نعيشه غالبًا ما يكون مجرد مظاهر كاذبة نسميها “مسرحًا عربيًا”.

الجمهور: مسرح تحت الرمال

1

يُعد نص “الجمهور” (1930) واحدًا من أكثر أعمال فيدريكو غارثيا لوركا غموضًا وتجريبًا، حتى أنه لم يُنشر إلا بعد وفاته بسنوات طويلة. وصفه بنفسه بأنه مسرح “تحت الرمال”، أي أننا مع مسرح يكشف المكبوت والمخفي، ويواجه المجتمع بفضائحه وأقنعته ورغباته الدفينة. النص كثير التشظي ومراوغ، مليء بالأقنعة والخيول والأصوات غير البشرية، يختلط فيه الحلم بالكابوس، وتتداخل الرمزية بالشعر، ليقدّم مسرحًا يقترب من السريالية دون أن يخضع لها بالكامل.

تبدأ المسرحية بمشهد عبثي: مدير مسرح يواجه خيولًا بيضاء تصرخ وتقاوم، ثم يدخل “الجمهور” نفسه ليصبح موضوع النص. لوركا تعمد أن يحوّل الخشبة إلى فضاء لمساءلة العلاقة بين المسرح والحياة، بين الحقيقة والكذب، بين الحرية والرقابة. الشخصيات ليست ثابتة: تتبدل، تتقنّع، تتكلم بلسان الرغبات الممنوعة، كاشفةً عن قمع الجسد، المثلية، والزيف الاجتماعي.

استرجاع إرث غارثيا لوركا هو فعل نقدي ضروري لمواجهة حاضر مهدّد بعودة القمع والدكتاتوريات وربما الحروب الأهلية

تحضر في النص أهم سمات لوركا المسرحية: الشعرية شديدة التكثيف التي تجعل الحوار أقرب إلى أنشودة، السريالية التي تفتت الزمان والمكان، وثيمة الموت ـ الثيمة الأقوى في إبداعاته والتي لا تفارقه، إلى جانب التمرد على الجمهور، إذ يكتب نصًا ولا يرضي الذوق العام بل يواجهه بصدمة ولا يطلب حتى دعم الجمهور وهو يواجه الرقيب ويتمرد عليه.

نود أن نشير إلى نقطة مهمة وهي أنه بالرغم من لقاء لوركا بالسرياليين في باريس، واعتبره بعضهم أنه واحدًا منهم، لكن لوركا فضّل البقاء بعيدًا عن المجموعات والنظريات. ربما أنه لم يشأ أن يكون تابعًا لحركة محددة، سعى لكتابة نصوص سريالية خاصة به، مستندة إلى تجربته الداخلية وفضائه الأندلسي. ربما كان هذا خيارًا إبداعيًا، وربما خوفًا من أن تتحول النظرية إلى قيد يحد من جموحه وتمرده الفني.

الجمهور إذن نص يتجاوز التصنيفات: مسرح شعري – سريالي يفضح الأقنعة ويعرّي المكبوت، ويجعل من الخشبة مرآة للحرية المفقودة، ومختبرًا للكتابة التي ترفض الانصياع.

الشعر مع التجريب المسرحي

إعادة قراءة لوركا اليوم تستلزم الإعجاب بجذوة إنسانيته، لكن أيضًا التذكير بصمته الذي يبقى شاهدًا على قصور جيل كامل

يضعنا مسرح فيدريكو غارثيا لوركا أمام عالم متشابك تتقاطع فيه التجربة الشعرية مع التجريب المسرحي. في نصوصه الريفية مثل عرس الدم ويرما وبيت برناردا ألبا، نلمس ملامح التراجيديا الشعبية حيث العائلة، الأرض، والقدر تحاصر المرأة وتختبر حدود الحرية. بينما في نصوصه التجريبية كـ الجمهور وهكذا بعد خمس سنوات، نواجه انكسارات الشكل التقليدي، سيلًا مربكًا من الرموز والأقنعة، وفضاءً أقرب إلى الحلم والكابوس.

يلتقي لوركا الشاعر ولوركا المسرحي في اعتماده على اللغة الشعرية كوسيلة للكشف عن المستور، وفي إصراره على جعل الموت والقدر جزءًا مهمًا من كل مشهد. غير أن لوركا المسرحي يتميز بقدرته على تحويل الشعر إلى حركة درامية وأحيانًا يتجاوز الدراما كمن يبحث عن معنى المسرح، كما تتميز نصوصه بتوظيف الرمز والسريالية في بناء الفضاء المسرحي، بينما يظل لوركا الشاعر أكثر التصاقًا بالغنائية والبعد الرمزي المباشر.

إذن نستنتج من كل هذا أن فرادة لوركا تتجلى في قدرته على المزاوجة بين الجزئي والكوني: حوار عابر بين جارتين يمكن أن يضيء صراعات متعددة، ومشهد سريالي في مسرحية تجريبية يكشف عن أعمق أقنعة المجتمع. بذلك صار مسرحه مختبرًا لا يكتفي بالتمثيل بل يسائل الحقيقة والحرية والرغبة. ومع ذلك، يبقى نقصًا لافتًا في إبداع لوركا أنه لم يتطرق إلى قضية الاستعمار الإسباني، ولم يُبدِ تعاطفًا مع الملايين الذين أفناهم الجشع الاستعماري.

9