"أنياب الانقراض" رواية عن تحوّل العلم إلى وسيلة يائسة لترميم ما دمّره الإنسان
رواية "أنياب الانقراض" نص جميل يحمل عمقا فلسفيا، ويكشف أن الإنسانية برمّتها في مأزق واحد، مع الممارسات والثقافة التي جعلت من التقدّم غطاءً للدمار، غير أن الكاتب الأميركي وقع في خطأ جوهري بتبرئة الغرب من دوره المركزي في الكارثة البيئية العالمية.
يُعدّ الأدب، في أحد وجوهه الأعمق، محاولة دائمة لإعادة قراءة العالم من منظور إنساني يوازن بين الجمال والمسؤولية. ومع تفاقم الكوارث البيئية وازدياد الوعي بخطر انقراض الأنواع واحتضار الكوكب، لم يعد الأدب مجرد حكاية عن الإنسان في الطبيعة، بل صار موقفًا من وجود الإنسان ضدّ الطبيعة أو معها. من هنا تظهر أهمية ما يمكن تسميته بـالأدب البيئي أو الإيكولوجي، الذي لا يكتفي بتوثيق الكارثة، لكنه يذهب أبعد من ذلك حيث يسائل جذورها الأخلاقية والاقتصادية.
إذن الكتابة لم تعد فعل تخييل فقط، بل فعل شهادة وتحذير ورؤية لما بعد الإنسان. وفي هذا الإطار، تأتي رواية “أنياب الانقراض”، 2024 للكاتب الأميركي ري نايلر بوصفها نموذجًا من النماذج الجديدة للرواية البيئية المعاصرة.
الرواية نصّ يُعيد التفكير في علاقة العلم بالطبيعة، وفي معنى أن نُعيد إحياء ما قتلناه بأيدينا. فبين سيبيريا الجليدية وكينيا الدامية، يقيم نايلر مختبرًا روحيًا وفلسفيًا يستعيد فيه الماموث رمزًا لذاكرة الطبيعة، ويجعل من الإنسان نفسه كائنًا مستنسخًا من أخطائه القديمة. الرواية تحوّل العلم إلى مرآة أخلاقية، وتعيد للأدب دوره كضمير للعالم المهدَّد بالفناء.
لكن رغم جمال هذا النص وعمقه الفلسفي، يعاني العمل من نقص جوهري في الرؤية: فالكاتب الأميركي يُبرّئ الغرب من دوره المركزي في الكارثة البيئية العالمية. فالصيد الجائر في إفريقيا لا يقوم به “الآخرون” وحدهم، بل تغذّيه المافيا الدولية وشبكات المال الغربية، حيث الدولار والجنيه الإسترليني واليورو تموّل السوق السوداء للعاج والأنواع المهددة. ومع ذلك، لا يذكر نايلر هذا البعد الاقتصادي والسياسي، وكأن الشرّ يقتصر على آسيا وأفريقيا وروسيا.
ملخّص الرواية
الأحداث المركزية تتمثل في اصطياد الماموثات، وإعادة إحيائها، وتمردها بقيادة داميرا، والمواجهة الأخيرة بين الطبيعة والإنسان
تتبع الرواية مسار داميرا خسماتولينا، عالمة روسية كرّست حياتها لحماية الأفيال في إفريقيا من الصيد الجائر ولكن بعد مقتلها على يد عصابات العاج، يُعاد إحياء وعيها بعد قرن داخل جسد ماموثة مستنسخة، لتقود قطيعًا في محمية سيبيرية. يعجز القطيع عن البقاء من دون ذاكرة، فتُصبح داميرا، بعقلها الإنساني، الوسيط بين ما كان وما يُعاد خلقه.
تتقاطع قصتها مع فتى روسي يُدعى سفياتوسلاف، ابن صياد، يعيش الصراع بين إرث العنف وغريزة النجاة.
الرواية تنتقل بين الماضي والمستقبل، بين الموت والعلم، بين الخلاص الفردي والسقوط الجماعي، لتؤكد أن الكائنات لا تموت فقط جسديًا، لكنها تموت حين يُمحى وعيها وذاكرتها.
إنّ الخطر الذي تصوّره رواية “أنياب الانقراض” ليس شأنًا محليًا يخص إفريقيا أو آسيا وحدهما، بل هو شرّ كوني تتقاسمه الإنسانية بأكملها. فالكوارث البيئية المعاصرة هي نتيجة منظومة واحدة من الجشع والاستهلاك والاستعمار الاقتصادي، لا تخص شعبًا دون آخر. لهذا، يصبح من الضروري أن يتخلى الأدب العالمي، وخاصة الغربي، عن نزعة التبرئة الذاتية التي تضع اللوم دائمًا على “الآخر” الإفريقي، الآسيوي، اللاتيني وكأن الغرب نفسه لم يكن شريكًا في تخريب الكوكب واستنزاف موارده وإبادة مخلوقاته.
لقد آن الأوان لأن يتحوّل الأدب إلى ضمير كوني يتجاوز الحدود العرقية والثقافية، فيعترف بمسؤولية الجميع عن الخراب المشترك، ويبحث في إمكانيات النجاة الجماعية لا في توزيع الذنوب. فالإبداع الحقيقي لا يقوم على إدانة الشعوب، بل على مساءلة القيم التي تحكم علاقتنا بالطبيعة والمال والقوة.
إنّ المستقبل يتطلّب كتابة جديدة أكثر صدقًا وشمولًا، تُسمّي الأشياء بأسمائها ولا نظل نتعامى عن الشركات الغربية ونجاملها رغم علم الجميع أن الكثير منها تموّل التدمير البيئي، إلى أنظمة الاستهلاك التي حولت الأرض إلى سوق للربح والموت.
علينا إذن أن نكتب، لا لنبرئ أحدًا، بل لنكشف أن الإنسانية برمّتها في مأزق واحد، وأنّ إنقاذ الكوكب لا يكون بتحميل الآخرين الخطيئة، بل بمراجعة أنفسنا وممارساتنا وثقافتنا التي جعلت من التقدّم غطاءً للدمار.
سرديةً متشابكةً بين الماضي والمستقبل
وسائل الترفيه، وثقافة الثراء السريع ليست علامات تحضّرٍ وسعادة، بل بوادر انقراضٍ بطيء يبتلع المعنى قبل أن يبتلع الحياة
تقدّم رواية “أنياب الانقراض” للكاتب الأميركي راي نايلر بنيةً سرديةً متشابكةً بين الماضي والمستقبل، بين الوعي الإنساني والتجربة الحيوانية، لتكشف مأساة هذا الكوكب عندما يتحوّل العلم إلى وسيلة يائسة لترميم ما دمّره الإنسان.
تدور الأحداث في أفريقيا وموسكو، ثم تتنامى لتبدأ عملية “نسخ الوعي”، قبل أن تنتقل إلى غابات سيبيريا التي تتحوّل إلى مسرحٍ أسطوري لإحياء الماموثات المنقرضة في عالمٍ مستقبلي تهيمن عليه التكنولوجيا.
الشخصية المحورية داميرا خِسماتولينا، عالمة إثولوجيا روسية كرّست حياتها للدفاع عن الأفيال في إفريقيا ضد الصيادين والمافيات التي تتاجر بالعاج. بعد مقتلها على يد عصابة صيد، يُعاد إحياؤها رقميًا عبر تقنية “نقل الوعي” لتستيقظ داخل جسد ماموث أنثى تقود القطيع في البرية وتعيد إليهم ثقافتهم، وخاصة ثقافة محبة الحياة والرغبة في النجاة. هذه المفارقة الميتافيزيقية تُحوّلها من إنسانة مناضلة إلى رمز كوني للأمومة والذاكرة والانتقام البيئي.
إلى جانبها، يبرز سفياتوسلاف، فتى روسي مراهق يرافق والده الصياد ضمن عصابة تسعى لاصطياد الماموثات الجديدة. يرمز الصبي إلى البراءة المشوّهة داخل ثقافة العنف والإدمان على الكحول، وإلى الصراع بين الوراثة الأخلاقية والخلاص الفردي. أما العلماء الذين أعادوا الماموثات إلى الحياة، فيجسّدون التناقض الأخلاقي في العلم الحديث؛ فهم ينقذون الكائنات من جهة، ويكرّرون الأخطاء القديمة ذاتها من جهة أخرى، مثل ما يُسمّى “الصيد القانوني” الخاص بفئة الأثرياء، الذي يُبرَّر بتمويل المحمية والأبحاث عبر التضحية بجزء من القطيع.
الأحداث المركزية تتمثل في اصطياد الماموثات، وإعادة إحيائها، وتمردها بقيادة داميرا، والمواجهة الأخيرة بين الطبيعة والإنسان. المكان يبدو أكبر من كونه خلفية، إذ يتحوّل إلى كيان حيّ؛ فالتايغا السيبيرية تصبح مسرحًا للثأر والبعث، تتقاطع فيها أصوات الحياة والموت.
تنتهي الرواية بانتصارٍ رمزي للطبيعة، إذ تنفصل داميرا عن ماضيها البشري لتتوحّد مع قطيعها، مُعلنةً أن الأرض لن تُشفى أو تنجو من الدمار إلا عندما يكفّ الإنسان عن شهوة القتل والتدمير وسفك الدماء.
تقنيات سردية حديثة
الأحداث المركزية تتمثل في اصطياد الماموثات، وإعادة إحيائها، وتمردها بقيادة داميرا، والمواجهة الأخيرة بين الطبيعة والإنسان
اعتمدت رواية “أنياب الانقراض” على تقنيات سردية حديثة حاول الكاتب ري نايلر أن يمزج بين الخيال العلمي والواقعية التأملية، حيث وظف الزمن الخطي المتشظي ليمنحنا نصًا فلسفيًا. سنلمس أن السرد يبدأ من الحاضر المأزوم بيئيًا، ثم يتنقّل بين الماضي القريب والمستقبل، ليُحدث شبكة من الأزمنة المتداخلة من أجل الكشف عن تطور الوعي الإنساني وسقوطه في فخ الجشع العلمي. هذا التداخل الزمني قد يربك بعض القراء لكنه يتميز بأنه يضاعف الشحنات التأملية، إذ يصبح الزمن ذاته شاهدًا على الفناء والبعث.
كما سنلمس نجاح الكاتب في نسج تقنية مشهدية تصويرية، وربما تكون من أبرز سمات هذه الرواية؛ يكتب راي نايلر بعيون سينمائية وعمل على تحوّيل الأحداث إلى مشاهد وصور نابضة بالحركة والصوت والضوء، لنتأمل مثلًا وصفه للتايغا السيبيرية أو لمشهد استيقاظ داميرا داخل جسد الماموث يُقدَّم كلوحة بصرية كثيفة الإيحاء، تُقرّب القارئ من التجربة الحسية للكائنات.
تلاعب الكاتب بالمنظور السردي، متنقلًا بين ضمير الغائب لتأمل الطبيعة وضمير المتكلم لإظهار وعي داميرا وهي تعيش انقسامها بين الإنسان والحيوان، وهذا منح الرواية بنية تعددية الأصوات ذات عمق نفسي.
بنى السرد كذلك على التقابل بين العقل والعاطفة، الإنسان والطبيعة، العلم والأخلاق، وهذا جعل اللغة تميل إلى الإيقاع التأملي أكثر من الوصفي.
ومن خلال هذا المزج بين الزمن الخطي والمشهدية السينمائية، صاغ الكاتب نصًا روائيًا يُشبه فيلمًا فكريًا عن علاقة الإنسان بمصيره وكوكبه.
السلام هو أعظم اختراعٍ ينتظره المستقبل
رسالة الأدب – كما توحي بها هذه الرواية وأعمالٌ أخرى مشابهة – تبقى تذكيرًا بواجبنا في التصالح مع الكوكب ومع ذواتنا
في ختام هذه القراءة، يمكن القول إن رواية “أنياب الانقراض” لا يجب أن تُقرأ فقط كتحذيرٍ من كارثةٍ بيئيةٍ محتملة، بل كمرآةٍ عميقةٍ لضميرنا البشري في لحظةٍ مفصليةٍ من تاريخه. فهي تُعيد طرح سؤال الوجود من منظورٍ بيئيٍّ وأخلاقيٍّ في آنٍ واحد، ولعلّ من أهم الأسئلة التي تثيرها:
ماذا تبقّى من الإنسان حين يصبح قادرًا على استنساخ الحياة، لكنه عاجزٌ عن احترامها؟
هذه المفارقة التي حاول راي نايلر أن يزرعها في صميم نصّه، تفتح الباب أمام تأملٍ أوسع في مستقبل الأرض كبيتٍ مشترك، لا كحقل تجارب أو مسرحٍ لهيمنة القوة والتكنولوجيا.
نؤكد على نقطةٍ مهمةٍ يجب التذكير بها دائمًا، وهي أنّ ما فات الرواية – رغم قوتها الجمالية والفكرية – هو الغوص في البنية العميقة للشرّ الإنساني، ذلك الشرّ الذي لم يولد في أفريقيا أو آسيا وحدهما، بل في قلب الحضارة الصناعية الغربية التي صدّرت للعالم منطق الاستهلاك والربح السريع. فالعنف ضد الكائنات لم يكن جريمة الشعوب الآسيوية أو الإفريقية أو شعوب أميركا اللاتينية فقط، بينما يُصوَّر الغربي الأبيض بوصفه “حارس الحياة” الذي يعيد بعلمه ومختبراته ترميم الكون. ما نعيشه اليوم ليس صراع حضارات، بل مرض كوني متجذّر في العقل البشري منذ بدأ الإنسان يتوهّم أنه “السوبرمان” ومالك الأرض لا جزء منها.
اليوم، بعد قرونٍ من الحروب والمجازر البيئية، باتت الحاجة ماسّة إلى وعيٍ كونيٍّ جديد يعترف بأنّ مصيرنا واحد، وأنّ التقدّم لا قيمة له إن لم يُقِم سلامًا بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان وأخيه الإنسان. فوسائل الترفيه، وثقافة الثراء السريع، والتنافس الاستهلاكي المحموم، ليست علامات تحضّرٍ وسعادة، بل بوادر انقراضٍ بطيء يبتلع المعنى قبل أن يبتلع الحياة.
لذلك، تبقى رسالة الأدب – كما توحي بها هذه الرواية وأعمالٌ أخرى مشابهة – تذكيرًا بواجبنا في التصالح مع الكوكب ومع ذواتنا، لأنّ السلام هو أعظم علمٍ واختراعٍ ينتظره المستقبل.