من إبستين إلى فلسطين: الفوضى الموجَّهة وصناعة الإدراك
وقع بين يديّ قبل سنوات طويلة كتاب للفقيه الراحل محمد الشيرازي بعنوان “الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام”. كنت أقلب صفحاته بفضول، حتى استوقفني سؤاله الافتتاحي: هل نحن نعيش في عالم العقلاء أم عالم المجانين؟ للوهلة الأولى، استغربت الفكرة، بل شعرت أنها أقرب إلى الاستفزاز الذهني منها إلى الطرح الجاد.
لكنه أوضح أن الجنون لا يقتصر على من يقفز في الشارع أو يمزّق ثيابه، بل يشمل أيضًا من يضر نفسه ويضر الآخرين دون أدنى شعور بالمسؤولية. وتساءل بمرارة: كيف ندّعي العقل ونحن نبني المستشفيات، ونربّي الأطباء لإنقاذ الأرواح، ثم نعدّ في الوقت نفسه وسائل التدمير الجماعي التي تخلّف الملايين من الجرحى والمشردين؟ وهل يمكن لعاقل أن يسمي هذا عمل العقلاء؟
اليوم، وبعد ما شهده العالم خلال السنوات الأخيرة، أجد أن هذا السؤال لم يكن نابعًا من تأمل فكري فحسب، بل كان يلامس جوهر بنية النظام الدولي. ويمكن فهمه ضمن ما أسمّيه “نظرية الاضطراب المُوجَّه” التي ترى أن الفوضى ليست انحرافًا عن النظام، بل أداة إستراتيجية تُدار بعناية لإعادة توزيع النفوذ والسيطرة على الموارد.
القوى الكبرى تمارس ما يُعرف بـ”دبلوماسية الفوضى”، حيث يتم تفكيك الأنظمة الإقليمية القائمة وإعادة تركيبها في صيغ تُبقي التبعية وتضعف السيادة الوطنية. أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، مثلًا، لم تُستغل فقط لتبرير الحرب على الإرهاب، بل لفرض مبدأ “الحرب الوقائية”، وإعادة صياغة القوانين الدولية بما يكرّس الهيمنة.
القوى الكبرى تمارس ما يُعرف بـ”دبلوماسية الفوضى”، حيث يتم تفكيك الأنظمة الإقليمية القائمة وإعادة تركيبها في صيغ تُبقي التبعية وتضعف السيادة الوطنية
ومنذ 7 أكتوبر 2023، يتكرر ذات المشهد في فلسطين، حيث تُستثمر الكارثة الإنسانية في إدارة الإدراك الجماعي، عبر التحكم في الرواية الإعلامية وصناعة الإجماع الغربي حول “شرعية” القوة العسكرية، وأن لها الكلمة العليا. هذه الإستراتيجية لا تستهدف قضية بعينها، بل تُهيئ المسرح لإعادة تشكيل الشرق الأوسط برمته.
هنا تأتي شيطنة المقاومة كأداة محورية، تمامًا كما حوّلت شبكات الفساد والابتزاز العالمية المتمثّلة في قضايا مثل فضائح (جيفري إبستين) ضحاياها إلى أدوات صامتة عبر التشويه والترهيب، إنها ذات العقلية التي لا يصعب عليها تشويه الحقائق ورمي المقاومة بالتهم لتحييد أيّ قوة مستقلة، حيث يُعاد تعريف الشرعية ليصبح الخضوع للخارج وحده المعيار للصواب من الخطأ، وتُجرَّم محاولات الاستقلال باعتبارها تهديدًا للاستقرار الدولي.
في هذا الإطار، الفوضى ليست مجرد انحراف، بل نظام مدبّر يتحكم في الوعي الجماعي، ويحوّل الجنون إلى أداة للهيمنة وإعادة تشكيل الواقع السياسي، لقد تحول “الاضطراب المُوجَّه” إلى عقيدة لا تكشف آلية صناعة الفوضى فحسب، بل تُظهِر كيف تتحول الكوارث الإنسانية إلى رأس مال سياسي لتحقيق ثلاثة أهداف:
– التشويه المنظّم للمقاومة: تحويل الفعل التحرري إلى “إرهاب” ضمن حملات تشويه متعددة، تمهيدًا لاستباحة الجغرافيا العربية تحت شعار مكافحة التطرف، وتدخل المنظمات الدولية لتبرير العدوان بدلا من ردعه.
– العدوان عبر الأمان المطلق: استغلال الأزمات لفرض عقيدة الأمن الموسع التي تختزل القيم الإنسانية في “الشرعية الدفاعية” للقوة المهيمنة، مُحوِّلة القتل الجماعي إلى “ضرورة تكتيكية”، لكن من يتورط في فضائح إبستين لا يستغرب تورطه في إبادة شعب فلسطين.
– التدمير الذاتي: تدمير المسلمين بيد المسلمين، عبر إحياء آليات التخوين الداخلي، والتصفيق لتصفية الآخر، وتغذية الفتنة المذهبية، حتى وصل الحال إن بعض العرب والمسلمين لم يترددوا من الإعلان عن فرحتهم الكبيرة بالقضاء على بعض قادة المقاومة على يد العدو الإسرائيلي.
إن إدراك هذه الديناميكيات هو الخطوة الأولى لفهم كيف تتحول الفوضى إلى نظام والجنون إلى أداة للهيمنة. فالسلطة كما يقول ميشيل فوكو لا تُمارس فقط بالقمع، بل عبر إنتاج معارف تحكم سلوكنا، إذًا المعركة الحقيقية ليست فقط على الأرض، بل في وعي الشعوب، وحيث لا وعي، يفقد العقل بوصلة الحقيقة ويغدو عالم المجانين هو السائد.