نهاية الأمة: من خرائط الاستعمار إلى استعمار الذاكرة
 
في عام 1916، جلس سايكس وبيكو على طاولة ليرسما حدوداً لم يفهماها. لم تكن اتفاقية، بل تقاسم غنائم بين قوتين استعماريتين، أشبه بجراحة استعمارية تُجرى على جسد لا يعرفانه. ولم تكن الطاولة تحمل قرآناً أو وثيقة شرعية، بل خرائط ومصالح فقط.
ومع ذلك، تلقّى جزء كبير من العالم الإسلامي هذا التقسيم كما لو كان قدراً مكتوباً، لا مؤامرة قابلة للرفض. لكن الضرر الأكبر لم يكن في رسم حدود جديدة، بل في ترسيخها داخل الوعي العربي، ومع الوقت، تحولت الخرائط إلى هويات مغلقة.
اليوم، بعد أكثر من قرن، نعيش آثار تلك اللحظة. نبدأ من سوريا، ونرى كيف تحوّلت من ساحة صراع على السلطة إلى ساحة صراع على الوجود نفسه. وكل طرف دخلها زاعماً التحرير، خرج منها وقد خلّف علماً جديداً ومنطقة نفوذ. ما يجري ليس تقسيماً مادياً فقط، بل تمزيق متدرج للذاكرة الوطنية.
أما العراق، فهو النموذج الأوضح لتآكل الفكرة المركزية للدولة. لم تعد المشكلة في مَن يحكم، بل في طائفة مَن يحكم. وهو انحدار يبدأ بالمؤتمرات وينتهي بالمؤامرات. فالمواطن لم يعد يرى نفسه جزءاً من أمة، بل من كتلة مذهبية. وما بدأ كمشروع ديمقراطي، انتهى باستباحة الأرض تحت غطاء الشرعية الدولية.
الأخطر من تقسيم الأرض هو تقسيم العقل. فبعد قرن من سايكس – بيكو، لم تعد الحدود مجرد خطوط على الورق، بل تحولت إلى "خرائط ذهنية" تُفعَّل يومياً
لكن الأخطر من تقسيم الأرض هو تقسيم العقل. فبعد قرن من سايكس – بيكو، لم تعد الحدود مجرد خطوط على الورق، بل تحولت إلى “خرائط ذهنية” تُفعَّل يومياً عبر ثلاث أدوات:
الإعلام الذي يكرّس الانتماءات الضيقة ويحوّل النقاش العام إلى معركة هويات.
التعليم الذي يُعيد ترميز التاريخ على أسس طائفية ومناطقية، ويُضعف الإحساس بالوحدة.
السياسة التي تبني الولاءات على الطائفة لا على المواطنة، وعلى الزعيم لا على المشروع.
هكذا، لم يعد المواطن يسأل: ما هو الحق؟ بل: مَن قاله؟ سني أم شيعي؟ علماني أم إسلامي؟ شمالي أم جنوبي؟ حتى الغضب صار معلباً، لا يُفتح إلا ضمن حدود الانتماء.
غزة، في هذا السياق، ليست استثناءً، بل خلاصة مكثفة لهذا الانهيار. فهي لم تُحاصر فقط بالجدران، بل أيضاً بخطاب سياسي يجعل مقاومتها قضية فلسطينية خاصة، وكأنها جزيرة مفصولة عن جسد ميت. لكنها أكثر من أرض محاصرة، إنها ساحة معركة على الهوية، وعلى ما تبقى من شرعية المشروع العربي.
ثم جاء تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 7 فبراير 2025، قبيل لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في واشنطن، ليعيدنا إلى البداية، حين قال إن الشرق الأوسط يُعاد تشكيله. لم يكن يهدد، بل يعلن استكمال مشروع بدأه الغرب منذ قرن. والفرق أن الفاعل العربي لم يعد محايداً، بل غائباً غياباً إستراتيجياً يسمح بإعادة إنتاج التفكك وكأنه أمر طبيعي. هذا التصريح لم يكن موقفاً عابراً، بل مرآة لحجم الفراغ العربي.
السؤال الحقيقي الآن: هل ما زال ممكناً تخيّل أمة خارج حدود سايكس – بيكو الذهنية؟ أم أن الخرائط لم تعد تُرسم في غرف مغلقة فقط، بل استقرت داخل العقول واستوطنت اللغة؟
 
    
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
        
      
     
        
      
    