مريم قوش.. شاعرة ترفع أسئلتها المؤلمة من داخل حرب الإبادة في غزة
تطرح الشاعرة مريم قوش سؤالا وجوديا يتردد صداه في أذهان المفكرين المتابعين لمحرقة غزّة بلا إجابة تُذكر: هل من قيمة لكل الذي نكتبه؟ هل للكتابة، أو الصحافة، قيمة طالما أنها لم تحقق الحد الأدنى من الحراك البشري أو الإنساني؟
ومن منا تغيب عن ذاكرته كلمات الصحافي في تلفزيون فلسطين قبل عام ونصف العام، سلمان البشير، بعد استشهاد زميله مراسل تلفزيون فلسطين محمد أبوحطب رفقة أحد عشر فردا من عائلته عقب قصف جوي إسرائيلي استهدف منزلهم في خان يونس. حينها خلع الصحافي سلمان البشير سترته وخوذته وهو يجهش بالبكاء، وقال “لا حماية، لا حماية دولية إطلاقا، لا حصانة من أي شيء، هذه الدروع لا تحمينا ولا تلك القبعات. هذه مجرد شعارات نرتديها، ولا تحمي أي صحافي على الإطلاق. معدات الحماية هذه لا تحمينا.” قال هذه الكلمات المؤثرة على الهواء مباشرة وسط بكاء بَيِّن من المذيعة ضحى الشّامي. وبتجرّد أكثر هذا حال الفلسطيني، ماضيه نكبة ونكسة وانقسام وحاضره مجزرة ومجاعة ومستقبله مكبّل ومشلول.
الوقوف في البرزخ
مريم الشاعرة والمثقفة تقاوم النكبة بالقصيدة والتعليم، تقوم بعمل تطوعي لتدريس الطالبات الغزاويات لكنهن يتعرضن للقصف
السؤال الذي طرحته مريم قوش صعب حقيقة ومحرج لكل صاحب قلم وفكر، ولا تكمن صعوبته في فحواه بل من المكان الذي يُطرح منه، من غزّة التي تتعرض لمقتلة جماعية شاملة وكاملة منذ ما يقارب عامين. وقطاع غزّة يستشهد أمام مرأى العالم بأسره حسب تعبير مريم. هناك كتب الفلسطينيون عن الدم والجوع والموت والخيام والمطر والعراء والُيتم، وتمزقت كلماتهم وهم يدوّنون عن مآسي الناس تحت الموت، وعن الخيبة والخذلان، منذ اندلاع الحرب قُتلت الكاميرا مرارا، وقُتل العشرات من الصحافيين والإعلاميين والشعراء والكتاب والمفكرين.
لكن كل ذلك لم يغير واقعا، بل كل يوم تزداد شراهة المحتل في سفك الدماء على مرأى من عيون العالم، المشكلة ليست في الكتابة ولا في الكاميرا ولا في مايك المراسل الميداني، المأساة في الموت المتكرر كل يوم، مريم لا تخشى على نفسها، فقد أخذت نصيبها من الحزن والخذلان والموت، لكن على العالم أن يخشى على نفسه، فلعنة هذا الظلم والدّم ستلاحق كل البلاد وكل الأجيال القادمة.
تشبّه مريم قوش الشعور الذي يساور سكان غزّة بشعور الإنسان الذي يقف في البرزخ، ليس حيا، ليس ميتا، لا بوسعه الرجوع إلى الحياة قليلا، ولا بوسعه المضي ولو خطوة إلى الأمام، لا تشعر بشيء سوى ذهول الانتظار. ينتظر الناس دورهم الحتمي في مسلسل الإبادة؛ لعله بعد ساعة، لعله بعد يوم، لعله بعد قرار بدء المفاوضات، لعله بعد فشلها، لعله قبل المظاهرات الإلكترونية والترند المندد بموتهم ولعله بعد ما لا يدرون، الفلسطينيون في منتصف الجسر، لا يفعلون شيئا سوى انتظار الإبادة.
تستخدم مريم لغتها الجزلة وموهبتها الشعرية في تدوين الوجع اليومي؛ “قلب المدينة كلها سيتوقف من الخوف والحزن وطول الانتظار، حينما تموت المدينة، احملوا ما استطعتم من أشلائها في أكياس الزمن المهترئ، وقبل أن تزنوه، قولوا: كانت هنا حضارةٌ موؤودةٌ قتلناها بصمتنا مرتين.”
وفي تصريح لافت لـ”العرب” اعتبرت الشاعرة الغزيّة مريم قوش أن أسوأ ما أنتجته الحداثة هو المظاهرات الإلكترونية والترند، بعدما أصبح الواقع الوهمي أوسع من الواقع الحقيقي، وبدل أن تنزل الجماهير العربية الغفيرة إلى الشوارع مطالبة بإنهاء الحرب، أصبحت تكتفي بالترند والتفاعل واللايكات، وبدل أن تسعى لمناهضة الحرب بالطرق المعروفة كالإضراب المدني والاعتصام الشعبي والمقاطعة التجارية، أصبحت الإنترنت وسيلة أولى وأخيرة للتنفيس عن غضب الشعوب.
المدرسة مأوى ومقبرة

ولدت مريم قوش في مخيم النصيرات في عام 1988 وتعلّمت في مدارس غزة، درست البكالوريوس في الجامعة الإسلامية والماجستير في النقد والأدب في جامعة الأقصى. وأصدرت مجموعتها الشعرية الأولى “سبع عجاف” في عام 2017.
لا يمكن تتبع تجربة الشاعرة مريم قوّش، المتوّجة بالعديد من الجوائز المحلية والعربية والعالمية، دون التوقف مطوّلا عند تجربتها الأدبية والشخصية في الحرب التي تشنّها إسرائيل ضد كلّ ما ينبض بالحياة في غزّة، مريم التي عاشت وما زالت إلى حد كتابة هذه السطور تعايش التجربة الأقسى في زمننا الحاضر، تنزف حقيقةً لا مجازا في قصيدتها “وحدي أنزف”.
تكتب: “اسمي دخانُ الوقتِ،/ ذاكرتي انتفاضُ الرملِ في وجع الركامْ/ صمتي أنين دمِي.. ووحدَك يا دمي/ والطيرُ يهرب من شظايا الريحِ،/ وحدك يا دمي/ والنازحون من الفناء إلى الفناءِ/ بلا بصيرةْ/ والموت ممتلئٌ يعبّئ جمرةَ النسيان في/ وجع الخيامْ/ وحدي ووحدكَ يا دمِي.. والنزف نزفي/ آه يا وحدي. وقد كُشف اللثامْ.”
تقول الشاعرة لـ”العرب” إن كتاباتها ازدادت في الحرب، شعرا ونثرا، وهي تكتب القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، ولربما تزايد نشاطها الكتابي إبان حرب الإبادة الشاملة يعود إلى عدة أسباب، أهمّها تخفيف القلق والخوف والهروب إلى الكتابة للنسيان أو بالأحرى تناسي فظائع الحرب وهدير الطائرات في السماء وزئير الدبابات على الأرض، وترك شهادة حيّة على الحدث، لأنها شعرت بأن التوثيق أمانة أدبية وأخلاقية.
غني عن البيان أن مريم قرأت غالبية القصائد العربية لرؤوس الشعراء العرب من امرئ القيس إلى شعراء الحداثة، لكنّها تأثّرت كثيرا بقصائد بدر شاكر السّياب بالدرجة الأولى وعلي جعفر العلّاق وأدونيس ومحمود درويش. ومن الشّاعرات الأموية ولّادة بنت المستكفي.

في المدرسة التي تعجّ بالنازحين استوقفتها فتاة في منتصف العشرين، سألتها بلهفة: أنتِ مريم؟ صافحتها وهي تخفي خجلها من لهفتها، تخجل مريم من لهفة البسطاء كما تقول بتواضع، وتقسم بأنها تستحي من أسئلتهم التي هي أبسط من الخيال، وأعقد من مسلمات اللغة. جلست بجانبها صامتةً طويلا، ثم ما لبثت أن قالت: لا أريد منك أن تكتبي قصتي، لكن أريد أن أخبرك أن الشّهيد الوسيم الذي كتبتِ عنه قبل شهور، هو أخي.
وقالت الطفلة: مريم، أريد أن أسالك، هل الشهداء يشعرون بالألم حينما يروننا ذابلين من الحزن؟ لم تجد مريم ما تقوله لقد خجلت اللغة، وانطفأ قلبها من الذبول.
مريم الشاعرة والمثقفة، تقاوم النكبة بالقصيدة والتعليم، تقوم بعمل تطوعي لتدريس الطالبات في غرفة صفية متآكلة. وصفت مريم أحد الأيام الدراسية بفظاعة الألم ومنتهاه، فقد كتبت على السبورة: بسم الله الرحمن الرحيم. لغة عربية. قواعد: الفعل المعتل.
ثم التفتت إلى الطالبات، وبدأت بالحديث: في الحصة الماضية تعلّمنا الفعل الصحيح وأقسامه، من تذكرني بالفعل الصحيح؟ وقبل أن ترفع الطالبات أياديهن للإجابة، ارتفع صوت انفجار في المدرسة، ثم امتلأت الغرفة الصفية بالبارود والردم ورائحة الموت، للحظة أدركت المعلمة والطالبات أنهن على مشارف الهلاك. لعل اللغة العربية تخلق في المدرسة قواعد جديدة للغة، فلا الصحيح صحيحا، ولا المعتل معتلا.
هرع الجميع إلى خارج الغرفة الصفية، بعد أن غمرت رائحة البارود المكان، كانت قذيفة في المبنى المدرسي، هذا المبنى البائس المتفحّم الذي يشترك فيه النازحون والطلاب. هذا المبنى الذي أصبح مأوى، ومدرسة، ومحرقة، ومقبرة.
وقفت مدرّسة اللغة العربية في منتصف الساحة المدرسية، أطفال يصرخون، طلاب يبكون، أهال يركضون بلا وعي، غبار ودخان يلعق هدوء المكان، واللغة عربية تتكسر.
الشعر وكسر الحصار
لم يكن غريبا أن تتأهل مريم لقائمة تضم خمسة عشر اسما لجائزة كتارا لشاعر الرسول، فمريم حصدت من قبل العديد من الجوائز، وحصلت على جوائز إقليمية ودولية.
وفي عام 2019 نالت جائزة جابوتش للأدب العالمي التي تنظمها وزارة الثقافة اليابانية وترجمت قصائدها إلى اللغة اليابانية. وفي العام ذاته حصلت على جائزة البحر الأبيض المتوسط للشعر من روما. كما نالت مريم جائزة دولة فلسطين التشجيعية للمبدعين الشباب عن ديوان “كما تمشي القطا” لعام 2021، وفي العام ذاته حصدت جائزة فلسطين الدولية عن ديوان “رسائل إلى البرتقالي”.
وفي عام 2022 حصلت على جائزة البحر الأبيض المتوسط للشعر. وفي عام 2023 حصلت على جائزة أنطون سعادة الأدبية عن ديوان “انتماء للنهار”. وفي العام ذاته حصلت على المركز الثاني في جائزة البردة من دولة الإمارات العربية المتحدة. كما اجتازت مريم المقابلة الأولى لبرنامج أمير الشعراء في أبوظبي بنجاح باهر، وتم اختيارها من بين مئات الشعراء لتكون ضمن قائمة الأربعين، وأوشكت على تحقيق حلمها الأثير لكن الحرب الهمجية على غزّة كانت الحائل الوحيد دونه.
نشاط الشاعرة الكتابي تزايد إبان حرب الإبادة الشاملة سعيا لتخفيف القلق والخوف والهروب إلى الكتابة لتناسي فظائع الحرب
ومنذ الإعلان عن قائمة الشعراء المتأهلين لجائزة كتارا لشاعر الرسول ومريم تفكر في قدرة الشعر على فكّ الحصار وهل ستكون القصيدة سبيلها للخروج من جحيم غزّة، كل يوم ترد الرسائل على هاتفها: مريم.. هل وصلتِ إلى الدوحة؟ هل سافرتِ؟
ومريم تحاول أن تمضغ القهر وتجيب: ما أزال أنتظر. هل يتخيل أحد في العالم شعور ذلك القهر وحدّة الغصة ومرارة الانكسار مرة أخرى أمام الحصار، هل يتخيل أحد في العالم مرارة أن يقضي الفلسطيني عمره وهو ينتظر.
فقدت الشّاعرة الغزيّة الوقتَ كله وهي تنتظر كما فقدت والدها في الحرب، فبينها وبين المسرح معبرٌ مغلقٌ وسنتان من الحرب وحصار ودبابات وأحزمة نارية ونزوح وخيام وأسئلة وجودية وعدمية تقف ما بين الحياة والموت.
تتأمل مريم تجربتها القصيرة زمنيا، والطويلة وجدانيا، ويعود بها سؤال أزلي لا يغادرها، هل تستطيع القصيدة الحقيقية أن تكسر الحصار؟ وهل يحقق لها الشعر ما لم تحققه لها السياسة وما لم يصنعه الواقع؟ تنظر مريم لتجربتها وتبتسم. لعلها استطاعت، ولعلها عجزت، لا تدري.. لكنها حاولت ان تطرق الخزان حسب تعبير الشهيد الكبير غسان كنفاني.