محمد عون.. الرجل الذي قال "لا" دفاعا عن ثروة النفط الليبية

وزير النفط الليبي الذي يمثل ظاهرة إن لم تكن استثنائية فهي نادرة وتجسد مقولة "إن النزاهة ليست خيارا، بل هي قدر".
الاثنين 2025/10/20
خبير وجد نفسه في قلب العاصفة

منذ سقوط القذافي، غرق المشهد الليبي في صراعات لا تنتهي، لكن قلة من المسؤولين تجرؤوا على مواجهة الفساد. المهندس محمد عون، وزير النفط، كان أحد هؤلاء. برفضه الصفقات المشبوهة، تحوّل إلى رمز دفاع عن ثروة النفط الليبية، وعن حق الشعب في موارد بلاده.

لا يوجد خلاف حول حجم المتاهة السياسية التي تجتاح ليبيا وعمقها، منذ سقوط نظام معمر القذافي وتصارع الأجندات السياسية وتداخل الولاءات. إلّا أن هذا لم يحل دون بروز أسماء قليلة من وقت إلى آخر ترفض الانحناء للعاصفة، متمسكة بثوابت تبدو للكثيرين رفاهية، خاصة في زمن الحرب. من بين هذه الأسماء المهندس محمد عون، الذي تحول بفضل من مواقفه من وزير ومسؤول حكومي إلى ما يمكن أن نصفه بظاهرة إن لم تكن استثنائية فهي نادرة وتجسد مقولة “إن النزاهة ليست خيارًا، بل هي قدر” في سياقها الأكثر قسوة. إنها قصة رجل، خبير تقني بامتياز، وجد نفسه مرغمًا على خوض معركة شرسة ضد فساد مؤسسي متغلغل، وصراعات نفوذ لا ترحم، في قطاع هو شريان حياة البلاد: النفط.

ثروة صنعت مصير أمة

1961

الانطلاقة الفعلية لرحلة النفط مع أول شحنة خام غادرت ميناء السدرة حاملةً معها وعوداً بمستقبل مزدهر

لفهم عمق التحدي الذي واجهه محمد عون، يجب العودة إلى الوراء، إلى منعطف تاريخي حاسم خلال خمسينيات القرن الماضي، عندما بدأت معالم خريطة جديدة لليبيا تتشكل تحت الرمال والصحراء الشاسعة. فبعد عامين فقط من استقلالها، أصدرت المملكة الليبية عام 1955 قانوناً نفطياً كان بمثابة البوابة التي ستدخل منها البلاد إلى عالم الطاقة العالمي. لكن اللحظة الفاصلة جاءت في عام 1959، عندما أعلنت شركة “إسو” الأميركية اكتشافها التاريخي لحقل الوطيا النفطي العملاق، لتبعها اكتشاف حقل السرير، مُطلقاً بذلك رحلة تحول جيوسياسي واقتصادي ستغير مصير ليبيا إلى الأبد.

لم تكن الانطلاقة الفعلية لهذه الرحلة إلا مع أول شحنة نفط خام غادرت ميناء السدرة عام 1961، حاملةً معها وعوداً بمستقبل مزدهر. وفي عام 1968، تأسست شركة النفط الوطنية الليبية (NOC) كتجسيد للطموح الوطني في السيطرة على هذه الثروة الوليدة. لكن المنعطف الحاسم جاء مع انقلاب 1969، حيث أطلق معمر القذافي مرحلة جديدة من “التحرر الاقتصادي” تمثلت في تأميم القطاع النفطي تدريجياً، كانت ذروته في عام 1973 مع تأميم أصول شركة بيكر هوغ. خلال عقد السبعينيات، بلغ الإنتاج ذروته القصوى عند 3 ملايين برميل يومياً، محققاً أحلام الوفرة المالية، لكن العقوبات الدولية في التسعينيات أعادت الظلال لتخيم على هذه الأحلام، فترجع الاستثمار واهترأت البنى التحتية، لتدخل ليبيا القرن الحادي والعشرين بقطاع نفطي عريق لكنه يعاني من الشيخوخة والإهمال.

من حقول النفط إلى قاعات السياسة

في قاعات المنظمة الدولية حيث تلعب السياسة والدبلوماسية دورًا لا يقل أهمية عن الجيولوجيا والاقتصاد أدرك عون أن النفط ليس مجرد سلعة بل هو ورقة سياسية بالغة الحساسية
في قاعات المنظمة الدولية حيث تلعب السياسة والدبلوماسية دورًا لا يقل أهمية عن الجيولوجيا والاقتصاد أدرك عون أن النفط ليس مجرد سلعة بل هو ورقة سياسية بالغة الحساسية

في هذه الأجواء التاريخي المعقدة، وُلد محمد عون في الأول من كانون الأول – ديسمبر 1950 في مدينة صرمان، تلك البلدة الصغيرة المتواضعة في غرب ليبيا التي تشتهر بالصلابة. نشأ في بيئة لم تكن تقدم لأبنائها سوى قيم الكفاح والعلم، وشب على رحابة الصحراء الليبية التي تخبئ تحت رمالها أغلى الكنوز. لم تكن رحلته من صرمان إلى قلب صناعة القرار في طرابلس مجرد صعود وظيفي، بل كانت رحلة تكوين شخصية قادرة على مواجهة التعقيدات.

تخرّج عون مهندسًا نفطيًا، ليبحث عن موطئ قدم في السبعينيات والثمانينيات في حقول النفط الليبية، حيث لا مكان للكسل أو الارتجال. هناك، بين آبار حوض سرت الذي يضم عمالقة حقول النفط من حقل السرير إلى الوطيا والفارغ والظهرة، تشكلت عقليته القائمة على الدقة والكفاءة والنتائج الملموسة. في هذه الجغرافيا النفطية المعقدة، حيث تتربع حقول مثل الفيل في حوض مرزق كأحد العمالقة، أدرك عون مبكراً أن ثروة بلده ليست أرقام مجردة تسجل في قوائم الإنتاج، بل هي تاريخ ومسؤولية.

هذه الخبرة الميدانية كانت الأساس المتين الذي بنى عليه مسيرته. في التسعينيات، وهي فترة عصيبة على ليبيا بسبب العقوبات الدولية، تولى رئاسة مجلس إدارة شركة الزويتينة للنفط، إحدى الشركات التابعة للمؤسسة الوطنية للنفط التي تشكل العمود الفقري لليبيا النفطية. هناك، وليس في المكاتب المكيفة في العواصم، تعلم عون كيف تُدار صناعة النفط في ظل شح الموارد والضغوط الخارجية. لقد كان اختبارًا حقيقيًا للإبداع والإدارة الرشيدة، حيث كان الحفاظ على مستويات الإنتاج يشبه المعجزة.

لم تنحصر خبرة عون داخل الحدود. فانتقاله لتمثيل ليبيا في منظمة أوبك كان محطة فارقة. في قاعات المنظمة الدولية، حيث تلعب السياسة والدبلوماسية دورًا لا يقل أهمية عن الجيولوجيا والاقتصاد، أدرك عون أن النفط ليس مجرد سلعة، بل هو ورقة سياسية بالغة الحساسية. هناك، تفاوض بحنكة على حصص الإنتاج، مدافعًا عن مصالح بلده في سوق طاقة متقلب، مكتسبًا احترام نظرائه الدوليين كخبير متمكن وليس كموظف حكومي عابر.

المنعطف: وزارة النفط

انتقل من دائرة الخبرة التقنية والدبلوماسية إلى قلب الساحة السياسية المليئة بالألغام
◙ محمد عون انتقل من دائرة الخبرة التقنية والدبلوماسية إلى قلب الساحة السياسية المليئة بالألغام

مع تعيينه وزيرًا للنفط والغاز في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة في عام 2021، دخل محمد عون مرحلة مختلفة تمامًا. لقد انتقل من دائرة الخبرة التقنية والدبلوماسية إلى قلب الساحة السياسية المليئة بالألغام. وجد نفسه على رأس وزارة في بلد تشكل عائدات النفط والغاز فيه أكثر من 90 في المئة من إيرادات الدولة، وأكثر من 95% من عائدات التصدير، في اعتماد شبه تام يجعل من هذه الثروة شريان حياة وسبباً للصراع في آن واحد.

ومنذ اليوم الأول، أدرك عون أن المعركة لن تكون تقنية بحتة، بل هي معركة حوكمة وشفافية في مواجهة شبكة معقدة من المصالح. لقد شاهد عن قرب كيف تتحول ثروة البلاد إلى ساحة لتصفية الحسابات الشخصية والإقليمية، وكيف تُهدر المليارات عبر صفقات مشبوهة. كان أول تحذيراته ضد برامج “المقايضة” (البارتر) التي تحولت من وسيلة لسد احتياجات الوقود إلى واجهة قانونية للهدر والفساد، حيث أنفقت أكثر من 41 مليار دينار ليبي خارج الحسابات الرسمية للدولة. لم يكن رفضه لهذه الممارسات مجرد قرار إداري، بل كان موقفًا أخلاقيًا من رجل يرى ثروة شعبه تُنهب أمام عينيه.

◄ الصراع في ليبيا ليس بين شرق وغرب، بل هو صراع أعمق بين دولة القانون ودولة الفوضى، بين من يريد بناء مؤسسات ومن يريد إبقاءها ضعيفة لاستغلالها

وتبقى معركته الأكبر ضد الصفقات غير القانونية مع الشركات الأجنبية العاملة في إطار “اتفاقيات مشاركة الإنتاج”. في وقت كانت فيه ليبيا بأمس الحاجة إلى الاستثمارات، أعلن عون بصراحة أن “أي عقد يتم خارج الإطار القانوني هو باطل ولا قيمة له”. لقد كان يدرك أن السماح لهذه الصفقات، رغم ضغط الحاجة المالية، يعني بيع المستقبل لقاء فتات الحاضر، وتدمير سمعة ليبيا كشريك موثوق في أسواق الطاقة العالمية

صمود في وجه العاصفة

لم يمر هذا الموقف من دون ثمن. سرعان ما تحول عون من وزير إلى هدف في لعبة العروش الكبرى التي تدور حول ثروة ليبيا. ففي آذار – مارس 2024، تم إيقافه مؤقتًا بقرار من رئيس الحكومة، في خطوة رآها المراقبون محاولة لإسكات صوته. لكن ما ميز مسيرة عون هو تمسكه بالشرعية القانونية. لم يهرب أو يلجأ إلى الخطاب العاطفي، بل توجه إلى القضاء. وفي تموز – يوليو 2024، أعادته المحكمة إلى منصبه، في رسالة قوية أن القانون فوق الجميع.

لم تتوقف المحاولات. في شباط – فبراير 2025، عاد الدبيبة لإقالة عون تحت ذريعة “السن القانوني”، وهي حجة رأى فيها الكثيرون ستارًا لخلافات أعمق تتعلق بالصلاحيات والسيطرة على القطاع. مرة أخرى، وقف عون صامدًا، مؤكدًا أن إقالته “تجاوز للصلاحيات”. لقد حولت هذه الإقالات المتكررة والعودة المستمرة عبر القضاء محمد عون من شخص إلى “رمز”؛ رمز للمقاومة القانونية ضد التجاوزات الإدارية.

الاختبار الأكثر إيلامًا كان توقيفه في أيلول - سبتمبر 2025 في مطار معيتيقة على خلفية قضية قديمة تعود إلى عام 2006، أي قبل توليه الوزارة بسنوات طويلة. وصف عون هذا التوقيف بأنه “محاولة لإسكات صوته”، وهو ما بدا مقنعًا للكثيرين، خاصة بعد أن أسقطت المحكمة الحكم الغيابي وأفرجت عنه. هذه الحادثة لم تكن مجرد إجراء قانوني عادي، بل كانت رسالة ترهيب، حاولت تشويه صورة الرجل الذي أصبح صوتًا للضمير في قطاع يعج بالصفقات المشبوهة.

صراع على الكراسي

نزاهة عون لم تكن شعارًا أجوف، بل كانت أداة فعالة لحماية المال العام
◙ نزاهة عون لم تكن شعارًا أجوف، بل كانت أداة فعالة لحماية المال العام

وراء ضجيج الصراعات السياسية والإقالات، ثمة إنجازات ملموسة تظهر أن نزاهة عون لم تكن شعارًا أجوف، بل كانت أداة فعالة لحماية المال العام. ففي عام 2024، استطاعت الوزارة تحت قيادته استرداد مستحقات مالية للدولة بلغت 2.4 مليار دولار. كما حالت تحذيراتها المبكرة الشركات الدولية من الدخول في صفقات غير شرعية، مما حمى البلاد من خسائر ومشاكل قانونية مستقبلية.

90

في المئة من إيرادات الدولة مصدرها عائدات النفط والغاز التي تشكل أكثر من 95 في المئة من عائدات التصدير

الأهم من ذلك، أن عون رفع سقف الخطاب العام في بلد تمر في حلقة مفرغة حيث تحول النفط من أداة للبناء والتنمية إلى سلاح في الصراع. لم يعد الحديث عن الفساد مقصورًا على الناشطين ووسائل الإعلام، بل أصبح على لسان وزير في الحكومة. دعوته الصريحة في أيار – مايو 2025 إلى “محاسبة الفاسدين وتنحية الدبيبة” كانت لحظة تاريخية، كسرت حاجز الصمت والخوف الذي يحيط عادة بالمسؤولين في مراكزهم.

دروس من متاهة الفساد

إن تجربة محمد عون تثبت عدة حقائق صادمة تشهدها ليبيا اليوم: الأولى، أن النزاهة قد تكون عبئًا ثقيلاً في بيئة فاسدة، لكنها تظل البوصلة الوحيدة التي يمكنها إنقاذ السفينة من الغرق. الثانية، أن الصراع في ليبيا ليس بين شرق وغرب، بل هو صراع أعمق بين دولة القانون ودولة الفوضى، بين من يريد بناء مؤسسات ومن يريد إبقاءها ضعيفة لاستغلالها.

محمد عون ليس قديسًا، بل هو خبير تقني وجد نفسه في قلب العاصفة. قد يختلف البعض مع بعض قراراته أو أسلوبه، لكن من الصعب إنكار أن مسيرته تشكل نموذجًا للالتزام بالمصلحة الوطنية في وقت أصبحت فيه هذه المصلحة سلعة رخيصة.

في ليبيا التي تتوق للاستقرار، يذكرنا عون بأن معركة البناء تبدأ بمعركة الأخلاق، وأن حماية ثروات الشعب هي الخطوة الأولى نحو استعادة الدولة نفسها من براثن الصراع، وتحويل النفط من أداة دمار إلى أداة بناء كما كان مقدراً له أن يكون.

10