تيسير عبدالله مثقف بحجم قناة تلفزيونية وطنية

من تحت خيمته المحاصرة بالدمار والموت يعايش المأساة ويتحدث بواقعية وحُرقة تلامس قلوب الفلسطينيين.
الجمعة 2025/10/10
ناقد جريء يكشف الحقائق دون مواربة

يُعتبر الدكتور تيسير عبدالله من أهم وأنقى الأصوات المنبثقة من قطاع غزّة، ليس فقط لكونه من أبناء القطاع ولم يغادره؛ ويعايش المأساة منذ السابع من أكتوبر ويعيش في خيمة منذ ذلك الحين، بل لأنّه يتحدث بواقعية وحُرقة تلامس قلوب الفلسطينيين بلا مجاملة أو مزايدات.

لا أبالغ عندما أقول إن صفحته على الفيسبوك Taysir Abd تعادل قناة تلفزيونية وطنية فلسطينية، بحجم المتابعين والتأثير وتفاعل الناس معها، فالدكتور تيسير يترجم من الصحافة العبرية والغربية من أميركية وبريطانية ويحلل أهم ما جاء فيها، ويستعرض واقع الحال الفلسطيني الكارثي، ويكتب عن يوميات الإبادة ومعاناة الناس اليومية في تأمين الطعام والشراب وحتى القبور لدفن موتاهم في قطاع غزّة، وارتفاع الأسعار وانخفاضها.

وللأمانة، تنقل عنه الكثير من القنوات التلفزيونية العربية والأجنبية، مما جعل صفحته مُتابَعة من قبل المحطات الإخبارية ومن الكُتاب والصحفيين المهتمين بالقضية الفلسطينية. كما أن رأيه السياسي مهم لدرجة كبيرة دفعت بعض القنوات التلفزيونية وبعض المؤثرين على حذف منشورات انتقدها الدكتور تيسير؛ على الرغم من أنّه يرفض إجراء أي مقابلة تلفزيونية، وهنا نلاحظ أهمية وثقل رأيه السياسي الوازن الذي لا يمكن تخطيه.

ومن اليسير جدا الدخول لصفحته وملاحظة غزارة منشوراته اليومية التي قد تصل لأكثر من عشر منشورات، تتضمن ترجمته لأهم ما جاء في الإعلام العبري والعربي وتحليلاته السياسية ومتابعته لمجريات المفاوضات، وحجم المشاركة والتفاعل على صفحته.

لا شيء مجانيا

المساعدات المجانية قصص مؤلمة (عمل للفنان أحمد مهنا)
المساعدات المجانية قصص مؤلمة (عمل للفنان أحمد مهنا)

غني عن البيان، أن الحديث الأوّل في قطاع غزّة هو المجاعة التي أودت بحياة ما يقارب 200 فلسطيني ماتوا جوعا، وأكثر من 3000 فلسطيني ماتوا خلال محاولتهم الحصول على المساعدات الغذائية.

كما يجب الأخذ بعين الاعتبار، أنّ جشع التجار ومكاتب الصرافة واستغلالهم لأوضاع الناس المأساوية، ساهما بتفاقم المجاعة في قطاع غزّة. طبعا دون إسقاط السبب الرئيسي المتمثل في إغلاق الاحتلال للمعابر وقصف شاحنات المساعدات والسماح بدخول جزء بسيط منها للقطاع. وفي المقابل انخفضت الأسعار هذه الأيام، على إثر دخول المزيد من الشاحنات المخصصة للتجار، الذين بدأوا عرض بعض ما وصل إليهم من بضائع جرى تأمين جزء كبير منها عبر مجموعات مسلّحة تتبع بعض العشائر ممن حصلوا على أموال مقابل ذلك.

يرى الدكتور تيسير أنّ الأسعار بدأت تنخفض لأول مرة منذ شهرين، حيث انخفض سعر السكر إلى 50 شيكل اليوم. بالإضافة إلى انخفاض سعر الطحين والزيت وباقي السلع.

وبشكل مفصّل، انخفض سعر الطحين من 100 شيكل (29 دولاراً) مقابل الكيلوغرام الواحد، إلى بيع 5 كيلوغرامات منه بالسعر نفسه، في حين هبط سعر الزيت "السيرج" من 60 شيكلاً (نحو 18 دولاراً)، إلى 30 شيكلاً (نحو 9 دولارات)، كما انخفضت بعض أسعار الخضراوات مثل الطماطم إلى نحو النصف، كما انخفضت أسعار البطاطا والبصل وغيرهما لأكثر من النصف بكثير عن أسعارها السابقة، في ظل تأكيدات من التجار بالسماح لهم بإدخال مثل هذه الأصناف، إلى جانب فواكه، ودواجن، لأول مرة منذ استئناف إسرائيل الحرب في شهر مارس الماضي.

◄ الدكتور تيسير ينبري برأيه الصارم من بين غابات الركام والحطام والمجاعة المتفشية والموت العشوائي في قطاع غزّة

رغم أن البضائع المتوفرة حالياً هي جزء من بعض الأساسيات، والسكان في غزّة يحتاجون للكثير من البضائع، إلا أنها بادرة أمل على تحسن الوضع في الأيام المقبلة.

وفي سياق متصل، يؤكد الدكتور تيسير عبدالله أن انخفاض الأسعار لا يعني عودتها إلى سعرها الطبيعي. ولكن انخفاضها يعني هبوطها من سعرها الفلكي الذي كان يزيد على ثلاثين أو أربعين ضعفا. هبطت إلى خمسة أو ستة أضعاف، يبدو هذا شيئا مريحا نوعا ما، وأفضل من السابق. مع الأخذ بعين الاعتبار، وجود بعض المشكلات الصعبة في سبيل حصول المواطنين على السلع الغذائية.

أولا.. لا توجد مساعدات مجانية تصلهم، رغم أنها تأتي معظمها دون مقابل مالي. كما لا يوجد أي شكل من أشكال وصول المساعدات إلى المواطنين في خيامهم وأماكن سكنهم بشكل منظم. ثانيا عمليات النهب والسرقة مستمرة. ولعل هذه هي العمليات المجانية الوحيدة. ثالثا السلع التي استطاعت الوصول إلى الأسواق هي شاحنات التجار التي تباع بالمال وهي السبب في انخفاض الأسعار، وهي التي أحدثت تحولا في السوق اليوم طوال الأسابيع الماضية. ومراكز التوزيع الأميركية الإسرائيلية GHF والشاحنات الأممية التي تنهب في الطرقات. فشلت في إحداث أي تأثير في منع التجويع أو خفض الأسعار.

رابعا السلع الموجودة في الأسواق لا تزال محددة بأنواع معينة قليلة. وتكاد تعد على الأصابع. ولا يزال المواطنون محرومين منذ 2 مارس الماضي من جميع أنواع اللحوم والدجاج والبيض والفواكه والخضروات والمكسرات والحليب والقهوة… وقائمة طويلة من الأطعمة بالإضافة إلى المنظفات وأساسيات أخرى كثيرة.

لكن في مثل هذه الحالة، فقد تدحرجت المشكلة إلى جيوب المواطنين الخاوية. ما دامت المساعدات لا تصلهم بالمجان، ولا بد أن يشتروها من سلع التجار التي نجحت في الوصول إلى الأسواق. وفي الواقع لا يمتلك غالبية الناس أموالا بعد ما يقارب السنتين من الحرب. وتعرضهم لموجات من الغلاء والاستغلال. بالإضافة إلى صعوبة حصولهم على السيولة المالية التي تخصم منها مكاتب الصرافة 50 في المئة.

وفي المحصلة، سيبقى المواطنون يعيشون تحت الضغط والحرمان والتجويع إن كانت سلع التجار في الأسواق هي مصدرهم الأول للحصول على الطعام لعدم امتلاكهم الأموال اللازمة للشراء، وإن لم تنظم المؤسسات الدولية آليات لتسليم المساعدات مجانا كما كان يحدث في أوقات سابقة.

حماس وتسليع الأسرى

 حماس حركة براغماتية منفعية
حماس حركة براغماتية منفعية

لا يؤيد الدكتور تيسير الرؤية الأميركية - الإسرائيلية الجديدة التي يروّجها الغرب الآن، بأن حماس حركة متطرفة، لا يصلح معها إلا الكسر والقضاء عليها. بالعكس تماما، يرى أن حماس حركة براغماتية منفعية، ولديه أدلة كثيرة في هذا السياق، سأطرح بعضا منها على سبيل المثال:

أولا، استطاعت الحركة أن تنسج تفاهمات غير مباشرة مع الاحتلال برعاية العمادي لما يقلّ على العشر سنوات تقوم على تبادل المصالح. ثانيا، تغمض حماس عينيها عن الدول التي تمارس تطبيعا حقيقيا مع الاحتلال مثل قطر. وتهاجم دولا أخرى وتتهمها بالتطبيع وهي في الواقع لا تقيم علاقات مع إسرائيل مثل السعودية. وهذا يخضع لمصالحها أيضا وليس لمبادئ ثابتة. ثالثا، ليس عند حماس أي مانع من أن تستضيف حاخامات إسرائيليين ليؤدوا صلواتهم في غزة في سعيها للسلام، قد قامت بذلك مسبقا غير مرة.

لكن ما يحدث الآن هو استماتتها عند مطلبها ومصلحتها الأخيرة. بعد أن وجدت نفسها على شفا حفرة ستقضي عليها إن تنازلت عنه. وهذا المطلب هو استعادتها لحكم قطاع غزة. صحيح أنّه يبدو طلبا صعب التحقق في الوقت الحالي. وثمنه عشرات آلاف الضحايا من الأبرياء. لكنه لا يجعل من الحركة حركة متطرفة في أهدافها وميثاقها.

وفي المحصلة، يفضّل الدكتور تيسير وصف حماس “بالأنانية الزائدة” بدلا من “التطرف”، لأنها ستكون أكثر تسامحا وتقبّلا للآخر لو خرجت من أزمتها الحالية.

من يقرأ كلام الدكتور تيسير وهو ابن غزّة ومن العارفين بظواهر الأمور وبواطنها، يلحظ أمرا مهما، أن حماس لن توقّع على أي اتفاقية لا تضمن حكمها مستقبلا في قطاع غزّة، وهذا الأمر بالنسبة إلى الدكتور تيسير، محسوم ولا نقاش فيه، وهذا ليس فقط رأي الدكتور المُحتمي في خيمة، شأنه شأن مئات الآلاف من الفلسطينيين، بل هو رأي غالبية المحللين السياسيين. وفي ذات السياق لو اتفقنا مع وصف الدكتور تيسير بأن ما تقوم به حماس يندرج تحت عنوان ” الأنانية” لكنها ليست زائدة، بل هي “قاتلة”، وبسببها يُقتل ما يقارب مائة فلسطيني، قصفا أو جوعا أو خلال محاولتهم النجاة من المجزرة أو المجاعة.

◄ منشوراته تتضمن ترجمته لأهم ما جاء في الإعلام العبري والغربي مقدما تحليلات عميقة ومتابعة مستمرة للأحداث

لا يصدق الدكتور تيسير عبدالله أن عشرين أسيرا إسرائيليا حيا أو أقل من عشرين، متبقين في يد حركة حماس بغزة، قادرون على التأثير على مجريات العمليات العسكرية في قطاع غزة، حيث أنّهم حسب المعطيات يحددون الأماكن التي يجب ولا يجب أن يعمل فيها الجيش، ويحددون توقيت العمليات وشروطها.

وللدكتور تيسير رأي بالغ الأهمية في هذه القضية الساخنة، فحسب تعبيره، جرى “تسليع” أسرى الاحتلال، ومنحهم قيما متناقضة وفق الظروف ومتطلبات العمليات العسكرية. فالعمليات العسكرية وأهدافها، هي التي كانت دائما تحدد قيمة المختطفين وأهميتهم، وليس العكس.

في الوقت الذي كان في قطاع غزة بداية الحرب 251 أسيرا إسرائيليا. ضرب جيش الاحتلال بوحشية في كل مكان: في بيت حانون وبيت لاهيا والشجاعية والزيتون وغزة وخان يونس ورفح. وتسبب بمقتل العديد منهم. تسبب بمقتل أسرى استطاعوا الهروب من آسريهم في الشجاعية وهربوا إلى الجيش الذي قصفهم ظنا منه أنهم غزيون. وتسبب بمقتل أسرى في أنفاق رفح، وفي عمليات تحرير فاشلة.

لم يكن لأسرى الاحتلال في بداية الحرب هذه الهالة من القدسية والاهتمام. ولم يكن يتحدث عنهم بهذه الأهمية سوى عائلاتهم وأمهاتهم. لم تكن لـ251 أسيرا نفس الأهمية التي يتحدث بها المسؤولون الإسرائيليون اليوم عن العشرين المتبقين.

وفي مقارنة لافتة يشير الدكتور تيسير؛ إلى أن نتنياهو رفع سعر الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط في صفقة تفوق الألف أسير. بينما رفض بعد ثلاث سنوات فقط دفع أي ثمن في أربعة أسرى من بينهم جنديان اختطفا من ساحة القتال شرق رفح. ومع ذلك واصل تقديم المساعدات والأموال والتسهيلات لحركة حماس، وكأن ليس لديه أسرى في قبضتهم.

الخلاصة التي يريد الدكتور تيسير الوصول إليها، إلى أن الاعتقاد بأن للإسرائيلي الأسير قيمة كبيرة في حسابات حكوماتهم، ويمكن أن يدفعوا من أجله الكثير، هو من الاعتقادات الخاطئة التي وقعت فيها حركة حماس. كما كنا نعتقد أشياء كثيرة خاطئة قبل الحرب الأخيرة عنهم. مثل أنهم لا يخوضون المعارك الطويلة زمنيا، ولا يستطيعون دخول غزة بريا، وغيرها الكثير.

الأحداث أثبتت أن الأسير الإسرائيلي لا قيمة له بحد ذاته، الظروف العسكرية والسياسية والأمنية هي التي تحدد قيمته، والتي يمكن أن تستخدمه كأداة ومبرر لإطالة أمد الحرب والإبادة، حتى ولو كان على حساب فقده حياته، وعودته جثة متحلّلة.

رمز لتخليد الإبادة

مراقب للإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون
مراقب للإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون

من الذكاء أن تحارب عدوك بنفس أسلحته وتقارعه بذات أساليبه وطرائقه؛ وتستفيد من تجاربه الناجحة وتعمل على محاكاتها على أرض الواقع. وعليهِ؛ يطالب الدكتور تيسير بأن يكون للإبادة غير المسبوقة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني رمزا Symbol يعبر عن مأساتهم وكارثتهم بدون كلمات وبدون شرح وبدون تفسير.

ومن المؤمّل أن يتجاوز هذا الرمز الحدود وجميع اللغات، من يعلّقه على جاكيته أو صدره أو يرسمه على جدار يذكر العالم بإبادة 150 ألف مواطن بريء سقطوا بين قتيل وجريح في ظل حملة تجويع تاريخية سقط فيها القانون الدولي والأخلاق الإنسانية والعدالة الدولية.

من يحمله يذكّر بتدمير بقعة صغيرة أبيد فيها 10 في المئة من سكانها. وتم تدمير أكثر من 85 في المئة من منازلها وبيوتها في عملية إبادة وتدمير فاقت تدمير درسدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية.

◄ الدكتور تيسير يعتبر أن الفلسطيني مقصّر بحق نفسه ويدعوه لصناعة رمز يعبّر عن مأساته للعالم الذي لا يفهم لغته

وفي ذات السياق، يعتبر الدكتور تيسير أن الفلسطيني مقصّر بحق نفسه. ولا يستطيع أن يخلّد حتى آلامه ويعبّر عنها في صور مختصرة للعالم الذي لا يفهم لغة الفلسطينيين لكنه يشعر بآلامهم وأوجاعهم. فمن المؤسف أن الاحتلال يخلّد كل أحداثه في رموز. وقد كان أسبق من الفلسطينيين في صنع رمزه لمختطفيه بالشريط الأصفر المعقوف. ونشره في الخارج ليحمله كل المتضامنين مع روايته. فالرواية ليست مجرد أحاديث وفضفضات. الرواية تتضمن رموزا محسوسة توحّد الجميع في العالم الذين يؤمنون بالعدالة والإنسانية والقضية الواحدة.

وبهذا يقدم الدكتور تيسير دعوة مفتوحة لجميع المهتمين لئلا تكون إبادة الشعب الفلسطيني خبرا عابرا، والعمل لإبداع رمز يعبّر عن مأساتهم ويكون شعارها في الحاضر والتاريخ الذي لا ينسى.

وكأي مثقف فلسطيني ينتقد حركة حماس، تعرّض الدكتور تيسير للتخوين والشيطنة والاتهام بالعمالة، مما دفعه للرد على صفحته الشخصية على الفيسبوك حيث قال “كثيرة هي الصفحات المشبوهة التي تعمل في الظلام. دون عناوين. أو أسماء لإدارتها وصحافييها. وهي تتقاطع مع الاحتلال الإسرائيلي وقوى الظلام. آخرها هذه الصفحة التي تحمل اسم ‘شبكة الصحافة الفلسطينية‘. البعض يظن من اسمها أنها شبكة ومعروفة. لكن في الحقيقة هي مجرد اسم وهمي لا أحد في فلسطين يعرفها. ولا يعرف عنها شيئا.”

ينبري الدكتور تيسير برأيه الصارم من بين غابات الركام والحطام والمجاعة المتفشية والموت العشوائي في قطاع غزّة، يطرح أفكاره بكل واقعية وجرأة، لا يهاب صواريخ الاحتلال ولا تخوين حركة حماس، يستلُّ آراءه بلا خوف أو وجل، وهنا أتذكر أنه قرأ مقالة لي تحدثت فيها عن إسكات حماس لخصومها السياسيين واستشهدت بأقواله، فراسلني على المسنجر وأبلغني أنّه في ظل التعاطف والإعلام الممول، أبدو كأني أدعو لدينٍ جديد.

وفي الواقع، أنّ ما يطرحه الدكتور تيسير هو الدعوة لدين جديد، يقدّس الحياة ويُعلي من قيمتها. بما فيها من دعوة للاحتماء بالشرعية الدولية وأن تكون سلامة الشعب هي أولوية حركة حماس فقط.

1

 

8