مالي والنيجر مسرحان لاستعراض نفوذ داعش والقاعدة

الضعف الحكومي وانشغال الداعم الروسي يسهلان سيطرة المتشددين.
الأحد 2025/07/13
القوات الحكومية تعجز عن وقف سيطرة الجهاديين

الانسحاب الغربي (الفرنسي والأميركي) من الحرب على الإرهاب كان بمثابة هدية للجهاديين سواء التابعين للقاعدة أو داعش لملء الفراغ الأمني في ضوء ضعف الحكومات المحلية وضعف الدعم الذي يحصلان عليه من روسيا المنشغلة بالحرب في أوكرانيا. هذه السهولة مكنت التنظيمين من مساحات جديدة ينتظر لاحقا أن تتحول إلى حرب نفوذ طاحنة بينهما.

تبدو السلطات في مالي والنيجر في أضعف حالاتها، وبانتظار ما سيسفر عنه صراع الإرادات ومسابقات النفوذ بين فرعي تنظيمي داعش والقاعدة، في ظل أمر واقع لا يملك أيّ طرف القدرة على تغييره، وبعد أن أفلت زمام المبادرة من يد الحكومة العسكرية في باماكو ونيامي.

امتلكت السلطة في الأولى (باماكو) هامشا من المناورة، قبل الانقلاب العسكري ورحيل الفرنسيين وتمركز الروس، ساعدها على التلويح بفرضية الاقتراب من فرع القاعدة وعقد تفاهمات معه على حساب تحييد فرع داعش وإخراجه من المعادلة.

وتغير المشهد حاليا بصورة فاجأت الكثيرين؛ حيث باتت الحكومة العسكرية في مالي مع غياب فرنسي وأميركي، وحضور روسي غير ناجز وشبه مستسلم، هي الطرف الأضعف في المعادلة.

ويتسابق الفرعان الجهاديان (داعش والقاعدة) على من يحسم الصراع نهائيا لصالحه، ما يعني أن مصير الدولة عنوانه محسوم لهما، والخلاف فقط يتعلق باسم الجناح الذي ينجح في الحسم، وهل هو فرع القاعدة (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين) أم فرع داعش (تنظيم داعش في الصحراء الكبرى).

◄ الفرعان الجهاديان (داعش والقاعدة) يتسابقان على من يحسم الصراع نهائيا لصالحه، ما يعني أن مصير الدولة عنوانه محسوم لهما

لم يترك الفاعلان خلال شهري مايو ويونيو مظهرا من مظاهر تأكيد السبق وحيازة القوة إلا وحرصا على إبرازه، في سياقات مرحلة تمهيدية تسبق سيناريوهات عديدة، تدور في الفلك الديني المتطرف.

وكبّد فرع القاعدة في منطقة الساحل الأفريقي (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين) القوات الحكومية في مالي وقوات فاغنر الروسية خسائر كبيرة ضمن هجمات متتالية، واختطف عددا من القادة المحليين في يونيو الماضي، وهو ما رد عليه فرع تنظيم داعش بشن هجوم أودى بحياة العشرات من الأشخاص في غرب النيجر لامتصاص واحتواء صدى عمليات فرع القاعدة.

كلما زاد فرع القاعدة تمدده داخل مالي، زاد فرع داعش من عملياته النوعية على طول الحدود بين النيجر ومالي ممعنا في حضوره النوعي باتجاه العاصمة نيامي، ما يُفسر كثافة هجمات التنظيمين في البلدين في يونيو الماضي وبداية يوليو الجاري.

أوحت العمليات والعمليات المضادة لفرعي تنظيمي القاعدة وداعش في الساحل والصحراء، أن ردود الأفعال على هجمات إرهابية لم تعد تأتي من قبل القوات الحكومية كرد انتقامي، كما كان يحدث في السابق، إنما يأتي الرد من التنظيم المسلح المنافس بتنفيذ عملية إرهابية أخرى، حتى لا يسمح أحدهما للآخر بكسب أرضية ونفوذ أوسع.

وعلى الرغم من التنافس الشرس بين التنظيمين، إلا أن تحالفات أحدهما وعملياته وطبيعة الطرف المستهدف أفادت الآخر، كونهما يُواجهان أعداء مشتركين.

لم يُرهِق فرع داعش نفسه كثيرا في مناوشات مع قوات فاغنر الروسية، في الوقت نفسه استفاد بشكل مباشر من الاستهدافات النوعية التي ينفذها فرع القاعدة وحلفاؤه بجبهة تحرير أزواد لفاغنر وضد ما يسمى بـ”الفيلق الأفريقي” المدعوم من موسكو.

نفذ المتمردون الأزواد، في منتصف يونيو الماضي، هجوما كبيرا بمنطقة كيدال شمالي مالي، ما أودى بحيات العشرات من الجنود الماليين وجنود “الفيلق الأفريقي”، وإلحاق خسائر كبيرة بالمعدات العسكرية.

ومن منطلق تداخل مناطق النفوذ بين فرعي داعش والقاعدة تمكن التنظيمان من الاستفادة دعائيا من عمليات الآخر، وروج داعش في دعايته المُوجهة لكسب مجندين جدد لنفسه على أنه من يحمي ثروات البلاد الوطنية في مواجهة استنزاف موسكو لها التي بدأت شركاتها تحل في مختلف المجالات محل الشركات الغربية.

استثمر فرع القاعدة عملياته وهجماته، وهي الأضخم والأكثر اتساعا وتنويعا في الأهداف، لصرف الانتباه عن تنظيم داعش وجعل السكان ينفضون عنه بالتوازي مع هدم الثقة في القوات الحكومية.

◄ على الرغم من التنافس الشرس بين التنظيمين، إلا أن تحالفات أحدهما وعملياته وطبيعة الطرف المستهدف أفادت الآخر، كونهما يُواجهان أعداء مشتركين

لم يترك فرع داعش في الساحل الأفريقي غريمه التكفيري (فرع القاعدة) ينعم وحده باستثمار عملياته، وزاحمه دعائيا بهدف التجنيد، من جهة طبيعة الرسائل السياسية أو الدينية العقدية.

ومع اختلاف التكتيكات التجنيدية، إلا أن التنظيمين كادا يتساويان في مستويات أعداد التابعين والمجندين، حيث أثمرت تكتيكاتهما المتناقضة عن نتائج متقاربة.

واستخدم فرع القاعدة سياسة العصا والجزرة، فهو يضغط بالترهيب والحصار والتجويع، ليحصل على استسلام مشروط وعقد تفاهمات بين وجهاء المنطقة تقضي بنيل شرعية السيطرة مقابل حماية المدنيين وتوفير الأمن والغذاء.

وعقدت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (فرع القاعدة بمنطقة الساحل) تفاهمات مع السكان المحليين بعد الموافقة على إنهاء حصار مدنهم في الوسط والشمال.

واستخدم فرع داعش سياسة أكثر قسوة وفتكا وترهيبا للسكان في سبيل إجبارهم على اعتناق أدبياته ومنحه السيطرة وشرعية تطبيق مناهجه المتطرفة.

ولا يكتفي التنظيمان المتنافسان بما يجبيانه من أموال من السكان المحليين في نظير حماية مصالحهم، والتعاون مع تشكيلات الجريمة المنظمة بهدف مضاعفة الموارد ومصادر التمويل، ويحرصان على تهديد الشركات الأجنبية للحصول منها على إتاوات بمبالغ ضخمة في مقابل حمايتها والسماح لها بالعمل.

استطاع فرعا القاعدة وداعش عبر تكتيكات متشابكة أن يكونا التنظيمين الأكثر حضورا ونفوذا، ونجحا في زعزعة الثقة بالحكومة العسكرية بشكل كبير، لدى قوات فاغنر وشركات أجنبية، فضلا عن السكان المحليين.

توازى مع هز الثقة في الحكومة وتصويرها عاجزة عن التعامل مع نفوذ هائل ومتصاعد للتنظيمين، زحف ميداني حثيث باتجاه العاصمتين نيامي وباماكو.

◄ فرع القاعدة في منطقة الساحل الأفريقي كبد القوات الحكومية في مالي وقوات فاغنر خسائر كبيرة ضمن هجمات متتالية، واختطف عددا من القادة المحليين في يونيو الماضي

وإذا كان فرعا داعش والقاعدة نجحا في ضرب حصار فعلي على عاصمة النيجر (نيامي) بعد قطع خطوط الاتصالات الأرضية التي تربطها بمقاطعات البلاد، فإن العاصمة المالية (باماكو) تعاني من حصار مشابه، بعد نشاط دؤوب خاصة لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين تضمن تعطيل الكثير من الأنشطة الاقتصادية واستهداف البنية التحتية مثل المرافق والطرق.

وكي يحظى غالبية السكان بالأمن والحماية وضمان الحصول على الغذاء، فليس أمامهم سوى عقد تفاهمات مع الجماعات المتمردة النافذة، ما أسهم بشكل كبير في إحراز تقدم ملموس في سياق تحقيق هدف تقويض سلطة الدولة في باماكو.

نجح فرعا داعش والقاعدة في مالي والنيجر في الحد من مقدرة الحكومة العسكرية على استعراض القوة، من خلال حصار قواتها وتعطيل طرق النقل وعزل عواصم المقاطعات عن العاصمة المركزية.

بات من الصعب في البلدين تأكيد الحكومة سلطتها، لأن قدرتها على توفير الأمن والخدمات الأساسية للمواطنين تضاءلت إلى الحد الأدنى، بالتوازي مع توفير المسلحين لها، وهو ما خلق العديد من مناطق الهيمنة والنفوذ الخاضعة لهم.

وبدأت المقاطع الدعائية لكل من القاعدة وداعش تؤتي ثمارها في البلدين وتلقى استجابات، بالنظر لما يوفرانه من أمن وغذاء للمناطق المحرومة والمهمشة، كما أن السكان يلمسون مدى تأثير وحضور التنظيمات التكفيرية التي تدير صراعاتها بأسلوب براغماتي وعسكري متطور.

من المُرجح أن يجد التنظيمان صيغة تفاهم بينهما بشأن توزيع مناطق النفوذ والسيطرة وعدم الدخول في صراعات خشنة تفتح نافذة للتراجع بعد التقدم الهائل الذي نجحا في إحرازه.

وسوف يصبح إنهاء مظاهر التنافس الميداني والدعائي بين الأجنحة التكفيرية هو الحل الأكثر أمانا بالنسبة إليهما لضمان المواصلة في طريق تشكيل خطر حقيقي يهدد سلطة باماكو ونيامي، وإحداث فراغ كبير في السلطة يمكن استغلاله.

نجح تنظيما القاعدة وداعش في خلق حالة من انعدام الأمن والاستقرار والتشكيك في شرعية الحكومات العسكرية في مالي والنيجر، إلا أن الطريق إلى المحطة التالية من السيطرة يحتاج إلى تفاهمات متينة بين الجهاديين وبعضهم بعضا.

6