سلام هشّ في غزة وائتلاف أكثر هشاشة في تل أبيب
واشنطن - شكّل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، الذي تمّ التوصل إليه تحت ضغط مباشر من واشنطن، نقطة تحوّل في المشهد السياسي الإسرائيلي، إذ فجّر خلافات عميقة داخل الائتلاف الحكومي الذي يقوده بنيامين نتنياهو، وأعاد طرح التساؤلات حول مدى صموده حتى موعد الانتخابات المقبلة.
ولم يكن الاتفاق الذي أنهى أكثر من عامين من الحرب في القطاع، مجرد خطوة عسكرية أو إنسانية، بل قرار سياسي ثقيل الوطأة على توازنات الحكم داخل إسرائيل.
ويواجه نتنياهو اليوم أحد أكثر التحالفات هشاشة في تاريخه السياسي الطويل، بعدما فقد أغلبيته البرلمانية عقب انسحاب حزب “شاس” اليميني المتطرف من الحكومة في يوليو الماضي، احتجاجاً على فشلها في تمرير قانون الإعفاء من الخدمة العسكرية لليهود المتدينين.
وجعل هذا الانسحاب الحكومة قائمة على دعم 60 نائباً فقط من أصل 120 في الكنيست، وهو ما يضعها على حافة فقدان الشرعية البرلمانية الكاملة.
ورغم أن العطلة الصيفية البرلمانية وفّرت لنتنياهو فترة هدوء مؤقتة حالت دون طرح اقتراحات حجب الثقة، إلا أن استئناف جلسات الكنيست في 20 أكتوبر شكّل بداية مرحلة سياسية أكثر توتراً.
وتستعد المعارضة لاستغلال الانقسامات داخل الائتلاف، بينما يواجه نتنياهو تحدياً مزدوجاً يتمثل في الحفاظ على تماسك حكومته، وفي الوقت نفسه الاستعداد لاحتمال الدعوة إلى انتخابات مبكرة قد تكون طوق نجاته السياسي.
الاتفاق لم يكن مجرد خطوة عسكرية أو إنسانية، بل قرار سياسي ثقيل الوطأة على توازنات الحكم داخل إسرائيل
ومثّل الاتفاق الذي وُقّع في 10 أكتوبر، بضغط من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تنازلاً مؤلماً بالنسبة لأحزاب اليمين المتطرف الداعمة لنتنياهو، التي ترى أن الجيش كان يجب أن يفرض سيطرته الكاملة على قطاع غزة.
ورغم أن هذه الأحزاب لم تغادر الحكومة رسمياً، فإنها رفعت سقف مطالبها للبقاء فيها، في محاولة واضحة لابتزاز رئيس الوزراء سياسياً.
ويصف المحلّل السياسي المستقل مايكل هورويتز هذا الوضع بأنه بداية لتآكل الائتلاف الحاكم، مشيراً إلى أن نتنياهو بات يركّز على التحضير للانتخابات المقبلة أكثر من الحفاظ على استقرار حكومته الحالية.
ويعكس هذا التوجه حساباً بارداً: إذا كان سقوط الحكومة محتوماً، فالأفضل أن يذهب نتنياهو إلى صناديق الاقتراع بشروطه الخاصة.
وتدعم تصريحات نتانياهو الأخيرة هذا التحليل؛ ففي مقابلة تلفزيونية في 18 أكتوبر، أعلن بوضوح أنه سيترشح لولاية جديدة مؤكداً ثقته بالفوز.
ورغم أن موعد الانتخابات المحدد هو نوفمبر 2026، إلا أن المراقبين يرجّحون إمكانية تقديمها إلى يونيو 2026 بمبادرة من نتنياهو نفسه، كما ألمح الصحافي المقرب منه أميت سيغال. غير أن الطريق نحو هذه الانتخابات لن يكون سهلاً.
نتنياهو بات يركّز على التحضير للانتخابات المقبلة أكثر من الحفاظ على استقرار حكومته الحالية
ويواجه نتنياهو ملفات داخلية معقدة، في مقدمتها مسألة الخدمة العسكرية لليهود المتدينين التي تسببت في أزمة مع حزب “شاس”. فالحزب يهدد بسحب دعمه الكامل ما لم يتم تمرير القانون الذي يمنح المتدينين إعفاءً من الخدمة، بينما يصرّ اليمين القومي وأعضاء في الليكود على فرض التجنيد الإجباري للجميع.
وتكشف هذه المفارقة هشاشة التحالف الأيديولوجي الذي يجمع بين اليمين القومي واليمين الديني المتشدد.
وفي المقابل، يلوّح وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، أحد أكثر رموز اليمين تطرفاً، بورقة الابتزاز السياسي، مهدداً بالتوقف عن التصويت مع الائتلاف إذا لم يُطرح مشروع قانون عقوبة الإعدام لمن يسمّيهم “الإرهابيين” قبل التاسع من نوفمبر. وهو تهديد يضع نتنياهو في موقف لا يحسد عليه بين ضرورة إرضاء حلفائه المتطرفين وضغوط واشنطن الرافضة لأي تصعيد تشريعي من هذا النوع.
وأما على مستوى السياسات الإقليمية، فإن وقف إطلاق النار في غزة فرض على الحكومة الإسرائيلية نقاشاً مؤجلاً حول اليوم التالي للحرب.
وبينما تدفع واشنطن نحو تسوية سياسية تضمن استقرار القطاع دون عودة إسرائيلية مباشرة إليه، يطالب شركاء نتنياهو في اليمين المتطرف بخيارات أكثر تطرفاً، تشمل ضم أجزاء من الضفة الغربية كتعويض عن “التخلي عن غزة”. غير أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعارض بشدة أي خطوة من هذا النوع، ما يزيد الضغط على نتنياهو من جهتين متناقضتين: واشنطن من الخارج، واليمين الديني القومي من الداخل.
نتنياهو يواجه ملفات داخلية معقدة، في مقدمتها مسألة الخدمة العسكرية لليهود المتدينين التي تسببت في أزمة مع حزب "شاس"
ولمواجهة هذه التحديات، يسعى الائتلاف الحاكم، إلى تمرير حزمة قوانين انتخابية تمنحه فرصة أفضل للفوز مستقبلاً.
وتشمل هذه الإجراءات خفض عتبة التمثيل البرلماني، ما قد ينقذ أحزاباً صغيرة مثل “الصهيونية الدينية” بقيادة وزير المال بتسلئيل سموتريتش، من السقوط في الانتخابات المقبلة، إضافة إلى خفض سن التصويت إلى 17 عاماً، وهو تعديل يخدم ديموغرافياً الأحزاب المتشددة التي تحظى بشعبية في أوساط الشباب المحافظين دينياً.
ورغم التوترات الداخلية والانقسامات الحادة، يظل نتنياهو رقماً صعباً في السياسة الإسرائيلية. فبحسب جميع استطلاعات الرأي، لا يزال حزب الليكود يتصدر نوايا التصويت، حتى مع تراجع شعبية الحكومة. كما أن محاكمته المستمرة في قضايا فساد لم تؤثر كثيراً على موقعه داخل الحزب، الذي سيعيد انتخابه زعيماً في نهاية نوفمبر المقبل دون منافسة تُذكر.
ويعكس المشهد الإسرائيلي اليوم أزمة حكم أكثر من كونها أزمة حرب. فبينما أنهى اتفاق وقف إطلاق النار جولة دامية في غزة، فقد أشعل حرباً سياسية داخلية قد تكون أكثر استنزافاً.
ويبدو أن نتنياهو، الذي اعتاد النجاة من الأزمات، يراهن مرة أخرى على مهارته في إدارة التوازنات، لكن هذه المرة على أرضية أكثر هشاشة، حيث تتقاطع المصالح الشخصية بالحسابات الانتخابية وبالضغوط الخارجية، في وقت تتآكل فيه ثقة الشارع الإسرائيلي بمؤسساته الحاكمة.
وفي النهاية، قد ينجح نتنياهو في تأجيل الانهيار، لكنه يواجه معضلة حقيقية: كل يوم يبقى فيه وقف إطلاق النار قائماً، تتعمق الانقسامات داخل معسكره.
ومع اقتراب صيف 2026، قد يجد نفسه أمام الخيار ذاته الذي طارد أسلافه — الذهاب إلى انتخابات مبكرة بوصفها مخرجاً اضطرارياً من مأزق لا يمكن الاستمرار فيه.