مارغريت تاتشر والطريق إلى 10 داوننغ ستريت

مائة عام على ميلاد المرأة التي أعادت لبريطانيا مجدها.
الأربعاء 2025/10/01
امرأة غيرت النسيج الاجتماعي والفيزيائي للندن

قبل مئة عام ولدت مارغريت تاتشر، ابنة بقال من بلدة غرانثام الصغيرة، لتصبح أول امرأة تحكم بريطانيا وأشهر زعمائها في القرن العشرين. بين بدايات متواضعة في متجر عائلي، وصعود مدوٍ إلى 10 داوننغ ستريت، صنعت “السيدة الحديدية” مجدًا جديدًا لبريطانيا، وأعادت تشكيل اقتصادها ومكانتها العالمية، تاركة إرثًا مثيرًا للجدل ما زال حاضرًا حتى اليوم.

عندما وصلت إلى لندن في مطلع ثمانينات القرن الماضي، كانت مدينة مختلفة جذريًا عن الصورة التي نعرفها اليوم. كانت العاصمة البريطانية تعاني من وهن عميق، أحياء مثل بريكستون، وهكني، وباترسي، وكلابهام، كانت تعتبر مناطق “محظورة” يتجنبها سائقو التاكسي بعد غروب الشمس. المباني المتقادمة، والجدران المغطاة بالغرافيتي، والأجواء الرمادية التي كانت تلف المدينة، كلها كانت تعكس أزمة هوية تعيشها بريطانيا. كان الفرنسيون يسخرون منها ويصفون بريطانيا بـ”بلد البقالين”، وكانت هذه السخرية تؤذي كبرياء الوطنيين، لكنها لم تكن بعيدة عن الواقع.

مارغريت تاتشر: إذا أردت قول شيء فاطلب من رجل.. وإذا أردت إنجاز شيء فاطلب من امرأة

في وسط هذه الأجواء، ارتفع نجم امرأة واحدة، ابنة بقال حقيقي من غرانثام، كانت قد وصلت إلى مقعد رئاسة الوزراء قبل عامين فقط. كانت مارغريت تاتشر تقدم وعدًا ببريطانيا جديدة، لكن ثمن هذا الوعد كان لا يزال مجهولاً.

دينيس، العائلة والمنزل

وُلدت مارغريت هيلدا روبرتس في 13 أكتوبر 1925 في بلدة غرانثام الصغيرة بمقاطعة لينكولنشاير. كان والدها، ألفرد روبرتس، بقالًا وواعظًا ميثوديًا، وقد غرس فيها منذ الصغر قيم الانضباط، والاجتهاد، والاعتماد على النفس، والتدبير المالي. كانت العائلة تعيش في شقة متواضعة فوق المتجر، دون حمام داخلي. هناك، في ذلك المتجر الصغير، تعلمت تاتشر أولى دروس الاقتصاد والعمل الجاد.

مسيرتها كانت سلسلة من كسر التوقعات. درست الكيمياء في جامعة أكسفورد، وهو مجال كان يهيمن عليه الرجال آنذاك، وأصبحت رئيسة جمعية المحافظين بالجامعة، وهي أول امرأة تتولى هذا المنصب. التقت برجل الأعمال الثري دينيس تاتشر، وتزوجته عام 1951. كان دينيس، الذي يكبرها بعشر سنوات، السند المالي والعاطفي الذي مكنها من دراسة القانون ومتابعة حلمها السياسي. أنجبا توأمين، مارك وكارول، في عام 1953.

دخلت البرلمان عام 1959 بصفتها نائبة عن فنشلي، وارتدت سمعة “سارقة الحليب” كوزيرة للتعليم في حكومة إدوارد هيث بعد إلغائها الحليب المجاني لتلاميذ المدارس. لكن إصرارها وحديديتها، في وقت كان فيه حزب المحافظين يبحث عن قيادة جديدة، أوصلاها إلى قيادة الحزب في 1975، ثم إلى مقر رئاسة الوزراء في رقم 10 داوننغ ستريت في عام 1979.

وراء صورة “السيدة الحديدية” العامة، كانت هناك امرأة أخرى، أكثر تعقيدًا وإنسانية. في لقاءاته العديدة معها، يصورها كاتب سيرتها تشارلز مور كشخصية مليئة بالتناقضات: صارمة لكنها عطوفة أحيانًا، عنيدة لكنها مرنة في اللحظات الحاسمة، وعطشى للاعتراف والحب بقدر عطشها للسلطة.

كان زواجها من دينيس ركيزة أساسية في حياتها. كان دينيس رجل أعمال ناجحًا، يحب لعبة الجولف وكرة القدم، ويستمتع باحتساء الجين. كان يفضل البقاء في الظل، مبتعدًا عن الأضواء، لكنه كان دائمًا سندًا لها، يقدم لها الدعم والنصيحة، ويمثل ملاذًا من ضغوط السياسة. كان يلقبها بـ”الرئيسة”. علاقتهما، رغم انشغالها الدائم، كانت متينة قائمة على الاحترام المتبادل والحب. بعد وفاته في عام 2003، بدأت صحتها تتردى بشكل ملحوظ، وكأن جزءًا منها قد رحل معه.

صحيفة التايمز: لقد أعادت لبريطانيا كبرياءها المفقود

كأم، كانت علاقتها بطفليها التوأم، مارك وكارول، معقدة. انشغالها الهائل بالعمل جعل حضورها في حياتهما اليومية محدودًا. نشأ مارك ليصبح رجل أعمال، وكانت علاقته بها وثيقة، بينما أصبحت كارول صحفية وعلاقتها بأمها أكثر اضطرابًا أحيانًا. كانت تاتشر تحاول التوفيق بين واجباتها كأم وكرئيسة وزراء، وكان الشعور بالذنب يلاحقها أحيانًا، لكنها كانت تعتبر أن خدمة البلاد هي دورها الأقدس.

في حياتها الخاصة، عاشت العائلة لفترة في منطقة إيست دولويتش في جنوب لندن. هذه المنطقة، التي كانت في ذلك الحين حيا متواضعا نسبيا، شهدت تحولا مذهلا على مر السنين، لتصبح اليوم واحدة من أكثر الأحياء رواجًا بين المهنيين الشباب، وهي تحولات تعكس بشكل مصغر التحول الذي أحدثته سياسات تاتشر في لندن كلها. لاحقًا، انتقلوا إلى منزل في منطقة تشيستر سكوير في بلموند.

مواجهة النقابات

عندما وصلت تاتشر إلى السلطة، كانت النقابات العمالية تمثل دولة داخل الدولة. “شتاء السخط” في 1978 – 1979، الذي شلت فيه الإضرابات الخدمات العامة وتركت الجثث دون دفن والقمامة تتراكم في الشوارع، كان شاهدًا على قوتها المفرطة.

تاتشر، المفعمة بأفكار الاقتصادي فريدريش هايك، كانت تعتقد أن النقابات تشكل عقبة في وجه الكفاءة الاقتصادية والتحديث. لم تكن تريد إصلاحها بل كسر شوكتها. سنت سلسلة من القوانين (1980، 1982، 1984) قلصت من قدرة النقابات على الإضراب، ومنعت الاعتصامات الثانوية، وفرضت اقتراعا سريا قبل أي إضراب.

لكن المعركة الكبرى كانت مع عمال المناجم، الذين اعتبروا جنود المشاة في حركة النقابات. استعدت حكومتها بعناية للمواجهة، بتخزين كميات هائلة من الفحم وتعيين القائد الصارم إيان ماكجريجور على رأس مجلس الفحم الوطني. عندما أعلن الاتحاد الوطني لعمال المناجم بقيادة آرثر سكارجيل الإضراب في عام 1984، كان الاستعداد مختلفًا.

الإضراب، الذي استمر لمدة عام كامل، كان أحد أكثر الفصول عنفًا ومرارة في التاريخ الاجتماعي البريطاني الحديث. شهدت خطوط الاعتصام اشتباكات دموية بين المضربين والشرطة. ووصفت تاتشر المضربين بأنهم “عدو داخلي” يجب هزيمته. رفضت التنازل، وفي النهاية، عاد عمال المناجم المهزومين إلى العمل. كانت الهزيمة رمزية: لقد كسرت تاتشر أقوى نقابة في البلاد، وغيرت توازن القوى بين العمل ورأس المال إلى الأبد، وفتحت الطريق أمام سياستها في تحرير الاقتصاد.

تشارلز مور: وراء المظهر الحديدي كان قلب يبحث عن الحب والاعتراف

الفوكلاند: صنع أسطورة

في أبريل 1982، غزت الأرجنتين، التي كانت تحت حكم الدكتاتورية العسكرية، جزر الفوكلاند النائية في جنوب المحيط الأطلسي. كان الكثيرون في الحكومة والبرلمان يتوقعون حلا دبلوماسيا أو تفاوضيا. لكن تاتشر رأت الأمر بشكل مختلف. بالنسبة لها، كان هذا اعتداءً على شعب بريطاني وإهانة للسيادة البريطانية. قالت كلمتها الشهيرة: “لا يمكن أن نسمح لعدوان بالنجاح. ذلك يرسل رسالة خاطئة للعالم أجمع”.

بثقة حديدية، أرسلت أسطولا بحريا ضخما في رحلة شاقة لمسافة 12 ألف كيلومتر. الحرب التي استمرت 74 يوما كانت محفوفة بالمخاطر. خسرت بريطانيا سفنا وطائرات وعددا من الجنود، لكن النصر في النهاية كان حاسمًا. الصورة التي التقطت لها وهي تبتسم مع رئيسة الأرجنتين المستقبلية كريستينا كيرشنر، في ذكرى الحرب لاحقا، كانت تعكس مدى أهمية هذا النصر في مسيرتها.

حرب الفوكلاند حولت تاتشر من رئيسة وزراء غير شعبية تواجه ركودا اقتصاديا إلى “أم الأمة” المنتصرة. أعادت الانتخابات العامة اختيارها في عام 1983 بأغلبية ساحقة، ورسخت صورتها كزعيمة عالمية لا تتزعزع. وكانت رؤية تاتشر الاقتصادية بسيطة وجذرية: تحرير السوق، تقليص دور الدولة، تشجيع الملكية الفردية. وتجسدت هذه الرؤية في قرارين محوريين:

الخصخصة: بيع الشركات المملوكة للدولة مثل British Telecom، وBritish Gas، وBritish Airways للقطاع الخاص. شجعت هذه الخطوة الملايين من البريطانيين على امتلاك أسهم لأول مرة، وخلقت “ثقافة رأسمالية شعبية”.

“الانفجار الكبير” (Big Bang) في 1986 كان إلغاء القيود التنظيمية في سوق لندن المالي. هذا القرار جذب البنوك الاستثمارية العالمية، والرساميل الهائلة، والمواهب المالية، محولا لندن من مركز مالي إقليمي متعب إلى عاصمة المال العالمية، تنافس وول ستريت.

◄ شخصية مليئة بالتناقضات

هذه السياسات، إلى جانب “حق الشراء” الذي سمح لمستأجري المساكن العامة بشراء منازلهم بأسعار مخفضة، غيرت النسيج الاجتماعي والفيزيائي للندن. الأحياء الصناعية البائدة تحولت إلى مراكز للإبداع والفن، ثم إلى مناطق سكنية راقية. بريكستون، التي كانت تعاني من التوترات العرقية والاضطرابات، أصبحت مركزا ثقافيا نابضا بالحياة. لندن الرمادية التي عرفتها في الثمانينات اختفت، وحلت محلها مدينة عالمية براقة، مليئة بناطحات السحاب الزجاجية، والمطاعم الفاخرة، والمعارض الفنية.

إرث من التناقضات

مع اقتراب الذكرى المئوية لميلادها في أكتوبر 2025، يبقى إرث مارغريت تاتشر واحدًا من أكثر المواريث إثارة للجدل في التاريخ البريطاني. هي المرأة التي أعادت لبريطانيا ثقتها بنفسها على المسرح العالمي، وكسرت الجمود الاقتصادي، وحولت لندن إلى عاصمة عالمية. لكنها أيضًا المرأة التي عمقت الفجوات الاجتماعية، ودمرت المجتمعات الصناعية في الشمال، وزرعت بذور الانقسام حول أوروبا الذي لا يزال يهيمن على السياسة البريطانية.

من خلال عيون تشارلز مور، نرى ليس فقط “السيدة الحديدية”، بل المرأة التي كانت تبحث عن الحب والقبول، التي كانت تضحك وتستمتع بوجود من حولها، التي عاشت حياة مليئة بالتناقضات بين القوة والهشاشة، بين الدور العام والاحتياجات الخاصة.

اليوم، عندما أسير في شوارع لندن البراقة، أرى ظل المدينة الرمادية التي عرفتها، وأتذكر المرأة التي كانت المحرك الأساسي لهذا التحول. مارغريت تاتشر لم تكن مجرد رئيسة وزراء، كانت قوة جيولوجية أعادت تشكيل مشهد بريطانيا السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وسواء أحبها المرء أم كرهها، فإنه لا يمكن فهم بريطانيا القرن الحادي والعشرين دون فهم مارغريت تاتشر وثورتها التي لا تزال تتردد أصداؤها حتى اليوم.

 

8