رحلة الخط العربي من جامع عقبة بن نافع إلى نجا المهداوي

تجارب حولت الفن إلى قوة ناعمة عبّرت عن هوية تونس المتجددة.
الخميس 2025/10/23
الخط فن معاصر يعيد صياغة الهوية التونسية

تحت شعار "تراثنا هويتنا وفن الخط حكايتنا"، قدّمت الورش والمعارض صورة للخط العربي بوصفه تراثًا غير مادي حيًّا، يروي مسيرة ممتدة في تونس منذ الخط الكوفي في جامع القيروان، وصولًا إلى التجارب التشكيلية في القرن العشرين، حيث بلغ ذروته مع نجا المهداوي. رحلة تكثّف تحولات جمالية وسياسية واجتماعية، جعلت من الخط العربي قوة ناعمة تعبّر عن هوية تونس المتجددة.

في 17 أكتوبر 2025 احتفلت تونس باليوم العالمي للتراث غير المادي من خلال تظاهرة فنية مميزة تحت شعار “تراثنا هويتنا وفن الخط حكايتنا”، نظمها المركز الوطني لفنون الخط بالشراكة مع قسم الإثنوغرافيا بالمعهد الوطني للتراث. تضمنت الفعالية ورشًا فنية حول معالجة الورق وتقنيات الخط العربي، إلى جانب معرض مفتوح لأعمال طالب تونسي متخصص في هذا الفن، بهدف إبراز الهوية التونسية المتجددة عبر الخط العربي كجزء أساسي من التراث غير المادي، جنبًا إلى جنب مع الطبخ واللباس والفنون الشعبية.

هذا الحدث ليس مجرد احتفال موسمي، بل هو تذكير حي بأن الخط العربي ليس مجرد وسيلة للكتابة، بل ذاكرة بصرية تختزن تاريخًا طويلًا من التحولات الثقافية والسياسية.

القيروان: مهد مغاربي

في تونس تُمكن قراءة مسار الخط العربي كرحلة ممتدة من القرن الثالث الهجري مع جامع عقبة بن نافع في القيروان، وصولًا إلى أعمال نجا المهداوي التي جعلت الحرف العربي لغة عالمية. هذه الرحلة ليست تاريخية فحسب، بل هي انعكاس للهوية التونسية متعددة الطبقات، حيث يتحول الحرف من رمز ديني إلى أداة فنية حديثة.

الاحتفال يمثل مفتاحًا لفهم كيف يظل الخط العربي أداة حية لتعزيز الهوية في ظل التحديات العالمية، ما يجعل الحديث عنه اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى، خاصة في ظل التحديات الثقافية التي تواجه الدول العربية.

مع تأسيس جامع عقبة بن نافع في عام 50هـ/ 670م، ثم التوسيع الذي خضع له في القرن الثالث الهجري تحت حكم الأغالبة، أصبح الخط الكوفي جزءًا أساسيًا من العمارة والزخرفة. هذا الجامع، الذي يُعتبر أحد أقدم المساجد في العالم الإسلامي، يحتوي على نقوش كوفية مغاربية تتميز بأسلوبها الزخرفي الفريد، حيث تندمج الحروف مع الزخارف النباتية والأشكال الهندسية. بدورها، المصاحف القيروانية الشهيرة، مثل “مصحف الجامع الكبير”، جسدت الخط الكوفي المشرقي والمغربي في أبهى صوره، مع استخدام الذهب والألوان الزاهية لتعزيز الجمال البصري.

◄ الخط العربي في تونس رحلة ممتدة من جامع عقبة إلى أعمال نجا المهداوي الذي حوّل الحرف إلى لغة عالمية

هنا ارتبط الخط بالسلطة السياسية والدينية، إذ كان وسيلة لتثبيت الهوية الإسلامية للدولة الأغلبية ثم الفاطمية. يعكس هذا الارتباط كيف استخدم الخط كأداة للدعاية السياسية، حيث كان يُنقش على الجدران ليذكر الزوار بشرعية الحكام. اجتماعيًا، ساهم في نشر التعليم الديني، ما جعل القيروان مركزًا ثقافيًا يجذب العلماء من المشرق والمغرب.

 اليوم، يظل هذا التراث دليلاً على قدرة تونس على استيعاب التأثيرات الخارجية دون فقدان هويتها المحلية، وهو ما يتردد صداه في الاحتفالات الحديثة مثل احتفالية أكتوبر 2025.

ازدهرت مدارس نسخ المصاحف والكتب العلمية في القيروان والمهدية خلال العصور الوسطى، خاصة تحت حكم الزيريين والحفصيين. الخط العربي أصبح اقتصادًا معرفيًا: صناعة الورق، تجارة المخطوطات، وازدهار الحرف المرتبطة بالزخرفة، حيث كانت المخطوطات تُزخرف بالذهب والألوان لتعكس الرفاهية الثقافية. سياسيًا، كان الخط أداة لإبراز شرعية الحكم، كما في المصاحف التي كانت تُهدى إلى المساجد كعلامة على التدين الرسمي.

اجتماعيًا، رافق الخط التعليم، حيث كان يُستخدم في تعليم القرآن والعلوم، ما ساهم في محو الأمية بين الطبقات المتعلمة. في رأيي، يمثل هذا العصر ذروة الاندماج بين الفن والمعرفة، حيث تحول الخط من مجرد كتابة إلى فن يعبر عن الروح الجماعية. ومع ذلك، كان محدودًا بالطبقات العليا، ما يعكس التفاوت الاجتماعي في ذلك الوقت. اليوم، يذكرنا هذا التراث بأهمية الحفاظ على المهارات التقليدية في وجه الرقمنة، كما أبرزت الورش الفنية في الاحتفال الأخير.

 تمازج أسلوبي

رحلة مثيرة خاضها الخط العربي في تونس
رحلة مثيرة خاضها الخط العربي في تونس

دخول التأثير العثماني في القرن السادس عشر جلب معه الخط الديواني والثلث، فامتزج بالخط المغربي المحلي ليخلق أساليب هجينة. الخطاطون التونسيون طوروا أساليب جديدة، ما يعكس تعدد المرجعيات السياسية والثقافية، حيث كان الخط يُستخدم في الوثائق الرسمية والمراسلات الدبلوماسية.

في هذه المرحلة، الخط لم يعد فقط دينيًا، بل دخل في العمارة المدنية والفنون اليومية. تحليليًا، يظهر هذا التمازج كيف أثرت الإمبراطورية العثمانية في تعزيز الهوية العربية – الإسلامية في تونس، لكنه أيضًا أدى إلى فقدان بعض الخصائص المحلية.

اجتماعيًا، ساهم في نشر الثقافة العثمانية بين مختلف الطبقات، ما جعل الخط أداة للتواصل اليومي. كان هذا العصر انتقاليًا حاسمًا، حيث بدأ الخط يتحرر من القيود الدينية نحو الاستخدامات العلمانية، ممهدًا للتطورات الحديثة التي نراها في الأحداث الثقافية الراهنة.

من التراث إلى التشكيل

مع بروز الحركة التشكيلية التونسية بعد الاستقلال عام 1956 شرع الفنانون في تحرير الحرف من قدسيته النصية؛ عبدالعزيز القرجي وآخرون أدخلوا الحرف إلى اللوحة التشكيلية كعنصر جمالي ورمزي، مستلهمين التراث ليعبروا عن الهوية الوطنية في مواجهة الاستعمار الفرنسي.

◄ نجا المهداوي حرر الحرف العربي من المعنى اللغوي مقدّمًا إياه كفن تجريدي عالمي يعرضه في المتاحف والمطارات

هنا يظهر البعد الاجتماعي: الحرف أصبح أداة هوية وطنية، حيث استخدم الفنانون الخط للتعبير عن المقاومة الثقافية. في تحليلي، يعكس هذا التحول تأثير الحداثة، حيث أصبح الخط جزءًا من الفن المعاصر، وهو ما ساعد في إعادة صياغة الهوية التونسية بعد الاستعمار. ومع ذلك، واجه تحديات مثل نقص الدعم الحكومي، ما يجعلني أرى أن هذا العصر كان فرصة ضائعة جزئيًا لتطوير صناعة فنية محلية قوية، وهو ما سعى إلى معالجته الاحتفال الذي أشرنا إليه في مستهل هذا المقال.

الحرف كلغة عالمية

نجا المهداوي يمثل ذروة هذه الرحلة. ولد في تونس عام 1937، درس في أكاديمية الفنون في روما وباريس، ثم عاد ليحرر الحرف من المعنى اللغوي، مقدّمًا إياه كفن تجريدي بصري يفهمه المتلقي حتى لو لم يقرأ العربية. أعماله، التي تجمع بين الحروف والأشكال الهندسية، معروضة في المطارات والمتاحف العالمية، مثل متحف اللوفر ومطار دبي.

اقتصاديًا، ارتبطت أعماله بسوق الفن العالمي، ما جعل الحرف العربي سلعة ثقافية ذات قيمة رمزية ومادية. في رأيي، يجسد المهداوي كيف يمكن للفن التونسي أن يصبح دبلوماسية ثقافية، حيث يروج للهوية العربية عالميًا دون الحاجة إلى اللغة. ومع ذلك، يثير تساؤلات حول ما إذا كان هذا التجريد يفقد الخط جذوره الثقافية، خاصة مع الاهتمام المتجدد بالتراث.

جماليًا: الخط العربي في تونس انتقل من الكوفي الصارم إلى التجريد المعاصر، محتفظًا بجاذبيته البصرية. سياسيًا: كان دائمًا أداة شرعية، من المصاحف السلطانية إلى الدبلوماسية الثقافية الحديثة. اجتماعيًا: رافق التعليم، الهوية، والذاكرة الجماعية، حيث ساهم في تعزيز التلاحم الثقافي. اقتصاديًا: من صناعة المخطوطات إلى سوق الفن العالمي، ظل الخط موردًا ورمزًا.

في تحليلي، يواجه الخط في تونس اليوم تحديات مثل انخفاض الاهتمام الشبابي بسبب الرقمنة، لكنه يمكن أن يكون أداة للتنمية الثقافية إذا دُعم بالسياسات الحكومية، كما يظهر في الفعاليات الحديثة.

رحلة الخط العربي في تونس تكشف عن قدرة التراث على التحول من نصوص مقدسة في القيروان إلى لوحات عالمية مع نجا المهداوي. إنها قصة هوية متجددة، حيث يصبح الحرف العربي ليس فقط ذاكرة جمالية، بل لغة بصرية ودبلوماسية ناعمة، قادرة على أن تضع تونس في قلب الحوار الثقافي العالمي. في رأيي، يجب على تونس الاستثمار في هذا التراث لتعزيز هويتها في العصر الرقمي، فالحرف ليس ماضيًا، بل مستقبل ينتظر الإحياء، كما أكد الاحتفال الأخير في أكتوبر 2025.

1

 

8