دليلة مفتاحي امرأة صنعت بموهبتها الفطرية ذاكرة الفن التونسي
الفنّ عالم لا يعترف إلا بمن صنع موهبته وصقلها بحرفية ليحافظ على سجله خالدا سواء على خشبة المسرح أو في الأعمال الدرامية أو السينمائية أو غيرها. لكن الأهم بالنسبة إلى أي فنان هو الحضور الطاغي الذي يميّز هذا الاسم الفني عن غيره بفضل الرتابة والموضوعية وحسن التدبير في جميع الأدوار التي يتقمصها والأعمال التي يقدمها للجمهور.
في المشهد الفني التونسي، هناك أسماء لا تُذكر إلا مقرونة بتاريخ طويل من العطاء ووجوه ارتبطت في الذاكرة الشعبية للمتابعين للمشهد الفني التونسي بأدوار صنعت وجدان أجيال. دليلة مفتاحي واحدة من هذه الأسماء، ممثلة مسرحية وتلفزيونية وسينمائية تمكنت من المحافظة على حضورها منذ أواخر السبعينات وحتى اليوم بفضل موهبتها الفطرية، التزامها الفني وقدرتها على التجدّد.
الموهبة الفطرية
◄ صدق فني قريب من الواقع
استطاعت دليلة مفتاحي أن تحافظ على بريقها لعقود طويلة متلحفة برداء التجديد والتعمق في الشخصيات التي تضيف لها في كل دور يعرض عليها.
تتألق الممثلة التي جمعت بين الموهبة الفطرية، التكوين المسرحي المتين والقدرة على التنقل بسلاسة بين أدوار متباينة من الشخصيات الشعبية البسيطة إلى الأدوار المركبة ذات البعد النفسي والاجتماعي. يقول عنها متابعون إن رحلتها الفنية ليست مجرد مسار مهني بل هي شهادة على تطور الدراما والمسرح في تونس منذ أواخر السبعينات حتى اليوم.
ولدت دليلة مفتاحي في 23 أبريل 1960 في فترة كانت تونس تعيش مخاض بناء هويتها الثقافية بعد الاستقلال، ومنذ نعومتها على غرار العديد من القامات الفنية الكبيرة، انجذبت إلى عالم الفن ووجدت في المسرح فضاءها الحرّ للتعبير عن الذات.
عام 1978، خطت مفتاحي أولى خطواتها الاحترافية مع الفرقة القارة بجندوبة، أين تشرّبت الانضباط الفني وأساسيات الأداء أمام جمهور متنوع. هذه التجربة كانت بوابة عبورها إلى العاصمة، حيث التحقت بالمسرح الوطني التونسي تحت إدارة المخرج الكبير المنصف السويسي، وهو ما منحها فرصة الاحتكاك بأسماء كبيرة وبنصوص مسرحية وازنة.
رغم شهرتها التلفزيونية، ظل المسرح بالنسبة إلى مفتاحي هو البيت الأول والملاذ الإبداعي الذي يحتضنها. عملت مع فرق مسرحية متعددة مثل المسرح العضوي، فرقة رجاء فرحات بالحمامات، والفرقة البلدية، وقدّمت أعمالا متنوعة مازجت بين الكلاسيكي والمعاصر.
المسرح بيتها الأول
المسرح بالنسبة إلى دليلة مفتاحي ليس مجرد محطة بل هو عالمها ومصدر قوتها كممثلة. ومن أبرز أعمالها المسرحية: “البوابة 52” وهو عمل سياسي رمزي وعرض “11/14” وهي مسرحية معاصرة أثارت إعجاب النقاد لجرأتها وعمقها.

عملها مع المسرح الوطني كان بمثابة مدرسة حقيقية، حيث تعلمت الانضباط الفني، تقنيات الأداء، وفن التعامل مع النصوص الكلاسيكية والمعاصرة.
تقول دليلة في لقاء إذاعي على راديو “ديوان أف.أم”، “ما يقلقنيش (لا يقلقني) ارتباطي بدور الأم، أما الممثل كي تربطوه (عندما يتم تقييده) في دور تخنقوه.. الممثل كيف (مثل) الفرس الجامح يشطح (يرقص) على الأوزان الكل، وأنت كيف تربطو في دور عبارة قتلتو”، وهو ما يعكس رفضها للقولبة الفنية، وتأكيدها على أهمية تنوّع الأدوار لإبراز قدرات الممثل.
رغم أن بدايتها كانت مسرحية، إلا أن التلفزيون كان المنصة التي جعلت اسمها مألوفا لدى الجمهور العريض. من أبرز أعمالها الدرامية التي ظلت محفورة في ذاكرة كل التونسيين ويُعاد تدويرها دون أن يغفل الجمهور عن متابعتها يوميا على الشاشة الصغيرة مسلسل “الدوّار” (1992) بدور منية، حيث جسدت شخصية ريفية بعمق إنساني. “ليّام كيف الريح” (1992) بدور لطيفة، عمل اجتماعي تناول تحولات المجتمع التونسي.
كما شاركت في مسلسل “الحصاد” (1995) وهو دراما اجتماعية عن حياة الفلاحين. وفي “الخطاب على الباب” (1997) حلت ضيفة شرف في عمل أصبح أيقونة في الدراما التونسية. في مسلسل “صيد الريم” (2008) قدمت دور منجية، أين برعت في تقمص دور الأم من خلال شخصية قوية في عمل نال استحسان التونسيين ومسّهم عن قرب لجرأته على نقد ظواهر اجتماعية. في “مكتوب” (2009 – الموسم 2) قدمت دور أم ابتسام، شخصية أم حنونة لكنها حازمة. وفي “ناعورة الهواء” (2014–2015) قدمت دور منجية، دراما سياسية مشوقة، وغيرها الكثير من الأعمال التي أبرزت شخصيتها الفنية وصقلت موهبتها المتجددة على الدوام.
لم تكتفِ دليلة مفتاحي بالأعمال الدرامية والمسرحية فحسب بل خاضت تجارب سينمائية مهمة أبرزها “الرديف 54” (1997) لعلي العبيدي، وهو فيلم سياسي يتناول أحداث الحوض المنجمي. “خرمة” (2002) لجيلاني السعدي، تناول قضايا اجتماعية حساسة. “آخر ديسمبر” (2010) لمعز كمون، وهو فيلم إنساني الطابع. “الأشجار الجريحة” (2010) لعبداللطيف بن عمار عمل تاريخي عن الحرب العالمية الثانية. “الذهب الأسود” (2011) للمخرج الفرنسي جان جاك آناود، إنتاج دولي ضخم.
حصيلة فنية تتقلّب بين الدراما والمسرح والسينما تنتج كلا متفاعلا وأثرا إبداعيا قل نظيره لفنانة من الرعيل الأول، يقول عنها متابعوها إنها تجسّد ملامح المرأة التونسية الثابتة بأصالتها وتاريخها وأسلوبها الفني النوعي الذي يوازن بين الخيال والواقع.
لا تعترف بالمستحيل
تتميز مفتاحي بقدرتها على التقمص الكامل للشخصية، تدخل في تفاصيلها النفسية والاجتماعية. وأهم ما يميزها أيضا التنوع، ذلك الانتقال السلس بين الكوميديا والتراجيديا بطريقة إبداعية قل نظيرها.
أما عن اللغة الجسدية فهي تجيد استخدام الإيماءات وتعبيرات الوجه بذكاء، فيما يظل الصدق الفني لديها مدفوعا بأداء بعيد عن المبالغة، وقريب من الواقع.
حصلت مفتاحي على عدة تكريمات تقديرا لمسيرتها ومنها درع “سميحة أيوب” التقديري في مهرجان شرم الشيخ المسرحي، وتم تكريمها في مهرجان بغداد الدولي للمسرح عام 2022 تقديرا لجهودها الإبداعية وعطائها المتواصل، كما تم الاحتفاء بها بشكل خاص في اليوم العالمي للمرأة حيث كرمها الرئيس التونسي قيس سعيد ومنحها وسام الجمهورية تقديرا لمجهودها الفني وعطائها المتواصل.
◄ ممثلة استطاعت أن تحافظ على بريقها لعقود طويلة متلحفة برداء التجديد والتعمق في الشخصيات التي تؤديها بحرفية
وصرّحت دليلة المفتاحي بأنها ترفض الظهور في البرامج التلفزيونية التي تفتقر للمحتوى الفني الحقيقي بقولها “أنا ما نمشيش لبرامج باش نحكي على فلانة نفخت فمها وفلانة هرب عليها راجلها… جيبوا صحفيين وناس مختصة موش كرونيكورات”، وهو موقف يبرز تمسكها بالجدية والاحترام في تناول الفن ورفضها للسطحية الإعلامية.
دليلة مفتاحي ليست مجرد ممثلة، بل هي جزء من الذاكرة الثقافية التونسية: أعمالها تعكس تحولات المجتمع، وتوثق جوانب من الحياة اليومية والسياسية، كما أنها ساهمت في تكوين أجيال جديدة من الممثلين عبر مشاركاتها في ورشات تدريبية.
واجهت، مثل الكثير من الفنانين، تحدّيات تتعلق بضعف الإنتاج، محدودية التمويل، وأحيانا الرقابة على النصوص، لكنها استطاعت الحفاظ على حضورها عبر اختيار أدوار ذات قيمة فنية.
إرث فني غابر
بعد أكثر من أربعة عقود من العطاء، يمكن القول إن دليلة مفتاحي تركت إرثا غنيا شخصيات محفورة في ذاكرة الجمهور ومساهمة كبيرة في تطوير الدراما التونسية، يضاف إلى كل ذلك الحضور القوي والطاغي على خشبة المسرح ودور السينما، فأينما حلت حضرت الفرجة والتشويق كمتلازمة لا يمكن نفيها.
دليلة مفتاحي مثال للفنانة التي جمعت بين الموهبة، الالتزام، والقدرة على التجدد. مسيرتها تعكس تاريخا فنيا وثقافيا لتونس، وتجعل منها مرجعا للأجيال القادمة. وفي زمن تتغيّر فيه الأذواق وتتبدل فيه أنماط الإنتاج، تبقى مفتاحي ثابتة على مبادئها الفنية، محافظة على مكانتها كأيقونة من أيقونات الفن التونسي.
تقول عن ذلك “أشعر أنني لم أؤدّ بعد الدور الذي أحلم به. ولا يمنعني ذلك من الشعور برضا نسبي يرتبط أيضا بانطباعات الناس الإيجابية”، وهو ما يعكس تواضعها الفني وطموحها المستمر لتقديم أدوار أكثر عمقًا وتحديًا.
أعمال مفتاحي ليست مجرد ترفيه، بل هي وثائق فنية تعكس تحولات المجتمع التونسي، من الريف إلى المدينة، ومن الحياة التقليدية إلى قضايا ما بعد الثورة.
دليلة مفتاحي ليست مجرد ممثلة، بل هي ذاكرة حيّة للفن التونسي. مسيرتها تعكس تاريخا من الالتزام والجمال الفني وتجعل منها مرجعا للأجيال القادمة.
