ترامب وصناعة السلام الوهمي
منذ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن خطته للسلام في الشرق الأوسط، المعروفة إعلامياً بـ”صفقة القرن”، برز خطاب سياسي وإعلامي يصوّره كـ”صانع سلام” يسعى إلى حل أحد أكبر النزاعات تعقيداً في العالم. لكن هذا التصور، الذي جرى الترويج له بكثافة، يخفي وراءه بنية سياسية تهدف إلى إعادة تشكيل القضية الفلسطينية وفق رؤية أحادية، تتجاهل الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني وتعيد تعريف السلام بما يخدم ضمنياً مصالح إسرائيل والولايات المتحدة.
لم تكن خطة ترامب محاولة جادة لحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، بل كانت مشروعاً لإعادة هندسة هذا الصراع. فقد جرى اختزال القضية الفلسطينية من كونها قضية تحرر وطني إلى مجرد أزمة إنسانية وأمنية. في هذا السياق، لم تعد المطالب الفلسطينية تتعلق بإنهاء الاحتلال أو تحقيق السيادة، بل تحولت إلى مطالب معيشية واقتصادية، مثل تحسين البنية التحتية وتوفير فرص العمل، في تجاهل صارخ لجذور الصراع.
هذا التحول البنيوي في تعريف القضية يعكس رغبة الإدارة الأميركية في تصفية البعد السياسي للصراع وتحويله إلى ملف يمكن التعامل معه عبر أدوات التنمية الدولية، دون الحاجة إلى الاعتراف بالحقوق الوطنية للفلسطينيين.
بان جلياً أن أحد أبرز ملامح خطة ترامب هو التركيز على “السلام الاقتصادي”، حيث جرى اقتراح مشاريع استثمارية ضخمة في الأراضي الفلسطينية، خاصة في قطاع غزة، بدعم من دول خليجية. وهذا الطرح يروّج لفكرة أن تحسين الظروف المعيشية يمكن أن يكون بديلاً عن إنهاء الاحتلال أو الاعتراف بحق العودة.
◄ خطة ترامب لم تكن محاولة جادة لحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي بل مشروعاً لإعادة هندسة الصراع حيث جرى اختزال القضية من تحرر وطني إلى أزمة إنسانية وأمنية بلا جذور سياسية
لكن هذا النموذج يتجاهل حقيقة أن التنمية الاقتصادية لا يمكن أن تكون مستدامة في ظل الاحتلال، وأن الحقوق السياسية لا تُشترى بالمشاريع. فالفلسطينيون لا يطالبون فقط بتحسين حياتهم اليومية، بل يسعون إلى الحرية والسيادة والعدالة، وهي قيم لا يمكن تعويضها بالمال.
في قلب خطة ترامب للسلام، يبرز هدف غير معلن لكنه جوهري: تعزيز التطبيع بين إسرائيل والدول العربية. فقد استُخدمت القضية الفلسطينية كمدخل لإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، حيث دُفعت دول عربية نحو توقيع اتفاقيات تطبيع دون أي مقابل حقيقي للفلسطينيين.
وهذا التوجه يعكس رؤية ترى في إسرائيل شريكاً إستراتيجياً في مواجهة إيران، وتعتبر القضية الفلسطينية عبئاً يجب التخلص منه. وهكذا، تحوّل السلام من كونه عملية لحل الصراع إلى أداة لإعادة ترتيب المنطقة سياسياً وأمنياً.
من أبرز سمات خطة ترامب أنها تجاهلت القيادة الفلسطينية، بل ووصفتها بأنها غير مؤهلة لصنع السلام. فقد فُرضت شروط مسبقة على الفلسطينيين، مثل نزع سلاح المقاومة والقبول بالسيطرة الأمنية الإسرائيلية، قبل حتى بدء التفاوض.
وهذا الإقصاء يعكس رغبة في فرض حل من طرف واحد، حيث يُحدَّد مستقبل الفلسطينيين دون مشاركتهم الفعلية. وهو ما يتناقض مع أبسط مبادئ العدالة الدولية، التي تقتضي إشراك أصحاب القضية في صياغة الحلول.
بعد إعلان الخطة، شهدت المنطقة تحولات ميدانية تهدف إلى تكريس الواقع الجديد. فقد جرى توسيع المستوطنات، وفرض سيطرة أمنية مشددة على الضفة الغربية، وتكثيف الحصار على غزة. وكل هذه الإجراءات تهدف إلى فرض أمر واقع يجعل من أي حل سياسي مستقبلي مجرد قبول بالواقع المفروض.
كما استُخدمت نتائج الحروب على غزة لتبرير إعادة رسم الحدود الأمنية، وتقليص مساحة المقاومة، وتفكيك البنية السياسية الفلسطينية. وهكذا، يتحول السلام إلى عملية هندسية تهدف إلى إعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا بما يخدم مصالح الاحتلال.
في مرحلة ما بعد الخطة، برزت مقترحات لتحويل غزة إلى منطقة نفوذ اقتصادي دولي، حيث تُدخل شركات أميركية وغربية وعربية لإعادة الإعمار، ضمن شروط أمنية إسرائيلية صارمة. هذا النموذج يسعى إلى فصل غزة عن السياق الوطني الفلسطيني، وتحويلها إلى كيان اقتصادي بلا سيادة.
لكن هذا الطرح يواجه تحديات كبيرة، أبرزها رفض الفصائل الفلسطينية لأي حل لا يعترف بحقوقها السياسية، إضافة إلى صعوبة تحقيق تنمية حقيقية في ظل الحصار والانقسام الداخلي.
◄ أخطر ما في الخطة أنها أعادت تعريف السلام دولياً: لم يعد يعني إنهاء الاحتلال وتحقيق العدالة بل مجرد وقف القتال وتوفير استقرار هش يمنح شرعية زائفة لواقع الظلم المفروض
من أخطر نتائج خطة ترامب أنها أعادت تعريف مفهوم السلام في الخطاب الدولي. فلم يعد السلام يعني إنهاء الاحتلال وتحقيق العدالة، بل أصبح يعني وقف القتال وتوفير الحد الأدنى من الاستقرار. هذا التحول المفاهيمي يضفي شرعية زائفة على مشاريع لا تحقق السلام الحقيقي بل تكرّس الظلم.
وقد ساهم الإعلام الدولي في ترسيخ هذا المفهوم، حيث جرى تصوير الخطة على أنها “فرصة تاريخية”، رغم أنها تتجاهل قرارات الأمم المتحدة وتنتهك القانون الدولي.
في سياق ما بعد الخطة، برزت محاولات لإعادة تشكيل القيادة الفلسطينية، عبر دعم شخصيات تعتبرها واشنطن “معتدلة”، وتهميش الفصائل الرافضة. وقد يُدفع نحو انتخابات تحت إشراف دولي مشروط، بهدف إنتاج قيادة تتماشى مع المشروع الأميركي.
لكن هذا المسار يواجه رفضاً شعبياً واسعاً، ويهدد بتفجير الوضع الداخلي، خاصة إذا فُرض دون توافق وطني.
إن تصوير ترامب كـ”صانع سلام” في القضية الفلسطينية هو خطاب دعائي يخفي مشروعاً سياسياً يهدف إلى تصفية القضية، لا حلها. فالسلام الحقيقي لا يُفرض من طرف واحد، ولا يتحقق عبر تجاهل الحقوق، بل يتطلب عدالة وشراكة واحتراماً لإرادة الشعوب.
وفي ظل استمرار الاحتلال وتكريس الوقائع الميدانية وتجاهل الفاعل الفلسطيني، تبقى خطة ترامب نموذجاً للسلام الوهمي الذي يعيد إنتاج الصراع بدلاً من حله.