التعلم من العدو.. كيف نعيد توجيه البوصلة لبناء شرق أوسط جديد
لطالما كانت أعظم الدروس التي تتعلمها الأمم لا تأتي من أصدقائها، بل من أعدائها. عبر التاريخ، إمبراطوريات عظيمة مثل روما وبيزنطة، مرورًا بالإمبراطوريات الإسلامية ثم الأوروبية، استفادت من تقنيات وعلوم خصومها، واستوعبت نقاط قوتهم، وطوّرت عليها لتبني بها تفوقها. هذا النهج ليس اعترافًا بتفوّق العدو بقدر ما هو اعتراف بواقعية المعركة.. فالأمم لا تنتصر بالشعارات، بل بالاستفادة من كل ما يمكن أن يخدم مشروعها، حتى لو جاء من عدوّها.
الولايات المتحدة لم تقتل علماء النازيين بعد الحرب العالمية الثانية، بل جلبتهم، ووضعتهم في قلب مشروعها النووي، وأنتجت بهم القنبلة الذرية. بل إن واشنطن استفادت حتى من الدعاية النازية؛ فغوبلز، وزير الدعاية في عهد هتلر، وضع أسسًا للتلاعب بالعقول، لم تذهب هباءً، بل درستها مراكز الأبحاث، واستوعبتها هوليوود، وطوّرتها لتصبح أدوات فعالة في صياغة الرأي العام والتأثير الثقافي.
إن إسرائيل، خلال سبعة عقود، استطاعت أن تبني مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا متماسكًا، بينما ظل المشروع العربي مترددًا، ممزقًا بين الشعارات والانقسامات. في ستة أيام فقط عام 1967، سيطرت إسرائيل على كامل فلسطين والجولان وسيناء. ومنذ 2023 وحتى 2025، نفذت عمليات نوعية غيّرت معادلة القوة في المنطقة، مستهدفة أذرع إيران في لبنان واليمن وسوريا وغزة، حتى وصلت ضرباتها إلى طهران والدوحة، وقتلت قادة بارزين من حماس وحزب الله. تغيير وجه الشرق الأوسط في أقل من عامين لم يكن مجرد نتيجة قوة نارية، بل كان تعبيرًا عن مشروع واضح طويل الأمد، حاز على دعم غربي، بدأ منذ وعد بلفور وتبلور في رؤية “إسرائيل الكبرى” التي يسعى نتنياهو ووزراؤه إلى تكريسها واقعًا لا مجرد حلم.
المشكلة الجوهرية لدى العرب ليست في غياب القوة، بل في غياب المشروع. الإسرائيلي يؤمن بدولته، برؤيته، ويعمل لتحقيقها، بينما العربي غالبًا ما يتحدث عن قضايا الأمة بلا أدوات حقيقية.
المشروع الفلسطيني يعاني من الانقسام، وانعدام التخطيط الطويل الأمد، وغياب رواية موحّدة أو هدف واحد.. الراية التي من المفترض أن تحمل لون “أسود.. أحمر.. أخضر.. أبيض” تشرذمت لألف راية وراية.. وأرزة لبنان تحولت لألف غصن وغصن.. وراية سوريا ضاعت بين ألف فصيل وفصيل.. واليمن السعيد أضحى هشًا ومقسمًا وتعيسًا.. ومقابل كل هذا، استثمرت إسرائيل في تفتت العرب وتناحرهم، وحرصت على تطوير التكنولوجيا، والتعليم، والأمن، والدعاية، وعرفت كيف تحول كل إنجاز علمي أو عسكري إلى مكسب سياسي ومعنوي يخدم صورتها أمام العالم.
التعلم من إسرائيل لا يعني الإعجاب بها بل استيعاب أن التخطيط والإصرار وحشد الرأي العام والإيمان بالمشروع وبناء سردية موحدة يمكن أن تغيّر ميزان القوة لصالح العرب
التعلم من إسرائيل لا يعني الإعجاب بها أو تبني ممارساتها الاحتلالية واللاإنسانية في غزة وسوريا ولبنان، بل يعني استيعاب كيف أن التخطيط، والإصرار، وحشد الرأي العام – وخاصة النخبة الاقتصادية والسياسية والحاكمة – والإيمان بالمشروع، وبناء سردية موحدة قادرة على تحريك شعب كامل، يمكن أن يغيّر ميزان القوة. العرب بحاجة إلى استراتيجيات بديلة، تقوم على بناء القوة الذاتية، والاستثمار في التعليم والذكاء الاصطناعي، وتعزيز الإعلام المقاوم بطريقة مهنية، وبناء تحالفات واقعية تخدم الأهداف الكبرى، لا مجرد ردود أفعال آنية.
الوضع العربي اليوم يعكس انهيار رؤية جماعية. بعد سقوط الدولة العثمانية، لم ينجح العرب في بناء مشروع بديل يعبر عن مصالحهم. ساعد الانتداب البريطاني والفرنسي على تمزيق المنطقة، وأُسست إسرائيل كأداة لإدامة هذا التفتت.. فذهبوا بالمنطقة إلى جحيم يصعب الخروج منه.. وبدلًا من بناء مقاومة شاملة ومدروسة، انشغل العرب في انقسامات أفقرتهم وأضعفتهم.. حتى الفصائل الفلسطينية أصبحت تعكس هذا الانقسام، وفقدت جزءًا من ثقة الناس بها، نتيجة غياب الهدف الوطني الموحد.
ولكسر هذه الحلقة، لا بد من مشروع عربي/فلسطيني واضح، يتجاوز الصراع الفصائلي، ويضع أهدافًا ملموسة قابلة للتحقيق. لا يكفي الحديث عن مقاومة الاحتلال، بل يجب فهم أدوات الاحتلال ذاته، واستخدامها ضده بذكاء.
ما حققته إسرائيل لم يكن صدفة، ولا يمكن الاستهانة به.. لأنه مخيف ومرعب، وغيّر قدر وحياة الملايين من أهالي المنطقة.. نكب المنطقة عن بكرة أبيها.. وهكذا سيتغير مصير الأجيال القادمة أيضًا.
لذلك، فإن العرب والفلسطينيين أمام مفترق طرق: إما الاستمرار في إعادة إنتاج الفشل، أو استيعاب دروس العدو وتحويلها إلى محفز لإعادة بناء الذات. المطلوب ليس تقليد إسرائيل، بل بناء نموذج بديل مضاد يعيد للعرب موقعهم، دون أن يكرر أخطاء الماضي. مشروع بعيد عن أحلام دول فارسية وأخرى عثمانية حتى.. فالمفترض دعم التعليم، والتكنولوجيا، والإعلام، والاقتصاد، والرؤية السياسية الموحدة، كلها مداخل لصناعة واقع جديد.
العرب قادرون على أن يقدموا نموذجًا مختلفًا، إن هم وحدوا صفوفهم يومًا ما، في احتمال ما، وأعادوا الإيمان بالهدف إلى شعوبهم. أن يؤمنوا أن شعوب المنطقة ليست أرقامًا منسية، بل أرواحًا بأحلام وقدرات وأفكار وعقول تستحق الحياة.
لأن غياب الإيمان بالمشروع هو أصل الهزيمة، كما أن وضوح الهدف، مهما كانت المعركة طويلة، هو أول خطوة على طريق الحياة. برأيي، هذا هو الدرس الحقيقي الذي يجب أن نتعلمه من أعدائنا لبناء شرق أوسط جديد بشروطنا.