عالقون في النفق.. بعد عامين من تجدد المأساة
عالقون في النفق، ليس لأن إيجاد مخرجٍ أمرٌ مستحيل، بل لأن من أدخلنا في قعر الجحيم لا يريد لنا أن نحيا ولا أن نموت حتى. يريدنا عالقين بين الحياة والموت، نتمنى الموت، ننشد النهاية الغائبة.. نضيع، نتوه في سراديب حاضرٍ بلا ملامح، ومستقبلٍ ضائعٍ مجهول. بعد سنتين من الفوضى الخلّاقة في المنطقة، ومن ميلاد المأساة المتكرر كل يوم، تبلورت الآلام.. من الهلاك الذي نزل على غزة، فتعاظم الركام، وازدادت الخيام، وأضحى الوضع الاقتصادي للناس في غزة والضفة ولبنان، في اليمن وسوريا وأبعد، أكثر بؤسًا وقسوة. الأمن أصبح ترفًا، كأنه رفاهية لا تُمنح إلا لمن يدفع ثمنها من عمره وكرامته ووجوده. صار الإنسان في هذه البقعة من العالم يدفع حياته كلها ليحظى بفتات من حقه في العيش، في ظل نظام يتعامل مع كيان الأفراد كهامش.
بعد عامين عدنا إلى مشهد غزة تحكمها حماس، وعدنا إلى مشهد “التنقيط” في المساعدات، واستخدام تل أبيب للمساعدات ورقة ضغط وكدر عيش.. مزيد من القيود، مساحة أصغر، وإجراءات تعيد إنتاج المأساة نفسها دون أي أفق لحلٍّ جذري يمنح الناس أملًا حقيقيًا بالاستقرار. فأين الفائدة إذًا؟ ولماذا حدث ما حدث؟ لماذا كل الضربات، كل التصعيد، كل الحروب النفسية والميدانية؟ أكانت تهدف فقط إلى كسر الناس، إلى إنهاكهم وترهيبهم حتى يرضخوا للمأساة ويعتادوها؟ لأن السؤال سياسيًا وأمنيًا: ماذا تغيّر؟ والأهم… أين الأفق؟ ما الحل؟ ما شكل الشرق الأوسط الجديد الذي كل من هب ودب يخرج للحديث عنه؟
السلطة الفلسطينية في الضفة لا تملك سلطة حقيقية، لا على الأرض، ولا حتى داخل مدنها. سلطة السلطة تراجعت، ووجودها بات ورقيًا، محصورًا في البيانات والتصريحات، غطاءً لا فاعلًا، تنتظر مصيرها كما ينتظر الشعب مصيره. حزب الله مكسور، لكنه ما زال موجودًا.. يلملم نفسه بشكل أو بآخر. حماس متضررة، لكنها ما زالت موجودة.. تحاول أن تقول في كل موقف وكل مناسبة: “ما زلت هنا”. الحوثي تلقّى غارات لا تُعد ولا تُحصى، وما زال موجودًا.. يهدد وكأنه غير آبه باندلاع يوم القيامة. إيران، بحروبها وضرباتها التي تلقتها، ما زالت موجودة.. هادئة، مناورة، مهددة، لكنها ما زالت موجودة. العراق متخفٍّ هو وحكومته وميليشياته، لكنه ما زال في الظل.. يراقب.. لكنه موجود. أنقرة والدوحة ما زالتا تحتضنان الفصائل وتديران المشهد من بعيد، وتتحركان ضمن توازنات وإملاءات إقليمية. لبنان بلا وضوح سياسي؛ الطائفية والفساد يلتهمانه. سوريا ازدادت تشرذمًا وتقطّعًا، وتكاثر فيها اللامركزية الفصائلية إلى حدّ أن لكل زاوية راية، ولكل راية راعٍ.
في النهاية العدالة والمساءلة والاهتمام بالإنسان كغاية لا كوسيلة هي الطريق الوحيد للخروج من هذا النفق أي حل حقيقي لا يبدأ بالإنسان وبكرامته سيبقى مجرد إعادة تدوير للمأساة
وبعد كل هذا… إلى أين؟ ولماذا حدث كل ما حدث؟ لتعميق مأساة أهالي المنطقة؟ لتسميم عيشهم؟ لإفقارهم؟ لجعلهم يطلبون الموت بدلًا من الحياة؟ لخلق جحيم لا ينفذ؟ أيوجد جحيم أكثر لعنة وظلمة من هذا الجحيم؟ حيث تسود اللاعدالة واللاإنسانية واللاقانون واللامنطق.. حيث يسود التطرف والشر والكراهية؟ والأخطر أن تعزيز التحديات في الواقع وبيئات سامة يساهم في تحويل الأفراد إلى كيانات ساخطة ناقمة غاضبة، إما عاجزة وإما جاهزة للانفجار في أي لحظة. الواقع الراهن يكرّس معاناة الناس بدلًا من أن يضع لها حلاً مستدامًا.. يجعلهم عالقين في دوامة من الخوف والرعب والظلام.. بلا مخرج، بلا نهاية. أجيال خلف أجيال تدفع أثمانًا باهظة من عمرها وأحلامها وجسدها وقلبها.. لأجل ماذا؟
أتعلم ما يجب أن يحدث؟ المطلوب الآن واضح وخالٍ من المجاملة والدبلوماسية: كل طرف ساهم في تعميق المأساة يستحق المحاسبة، يستحق أن يُعاقَب، ويستحق أن يُسقَط عنه غطاء الشرعية إن وُجد. ويستحق الناس أن يأخذوا حقهم من كل طرف.. أي طرف كان سببًا في سحق إنسانيتهم وتشويههم وإعطابهم. كل طرف وأي طرف. لأن لا حسابات سياسية ولا شعارات فارغة تضاهي أمان طفل وحياة إنسان واحد. لا شيء يضاهي أن يكون الإنسان، كل الإنسان، يعيش في أمن.. في كنف حكومة تؤمن له منزلًا وغذاءً وكهرباء ومياهًا نظيفة وحياة تليق بإنسانيته. وإلّا، فكل من يبرر عكس ذلك يستحق العقاب والمحاسبة، ولا يحق لأي طرف أن يقنع الناس بأن وجودهم رفاهية، أو يبرّر تقديم الناس قرابين لحسابات سياسية أو لأجل توسيع إمبراطوريات.
فلتسقط الإمبراطوريات كلها كما سقطت راية روما والدولة العثمانية وأخرى فارسية ومغولية ودويلات عظيمة أخرى. فكل الحضارات والإمبراطوريات السابقة لم تكن أقل شأنًا، بل كانت عظيمة وكبيرة ومهيبة، وفي النهاية سقطت بظلمها وسفك دمائها وتطرفها وفسادها، وأضحت “كنتونات” بقوميات جديدة وهويات جديدة وديانات جديدة وعقائد مختلفة، وملامح وجوه مختلطة من أعراق وأجناس مختلفة. إذا.. في 2025 إن لم نضع في قانون النظام العالمي أول بند وأهم بند أن الأولوية للإنسان، لوجوده وحقوقه وكرامته، وأن يعيش في كنف نظام عادل يحترمه ويحميه.. وإن اعتبرت ذلك مجرد شعر ورومانسية فلسفية فكرية، فلا أعلم أين تقطن إنسانيتك، ولأي قبلة تصلي، وأي عقيدة تتخذ! وإن كنت مقتنعًا أن لحسابات سياسية لا بأس في تقديم الناس قرابين، فلتقدم نفسك وأطفالك قربانًا في جحيم فكرك وعقيدتك وحدك، ودع الناس وشأنهم ليعيشوا في رحاب جنان الأرض.
في النهاية، العدالة والمساءلة والاهتمام بالإنسان كغاية لا كوسيلة هي الطريق الوحيد للخروج من هذا النفق. أي حل حقيقي لا يبدأ بالإنسان وبكرامته سيبقى مجرد إعادة تدوير للمأساة.