إبراهيم الخليل.. الصوفي الذي جعل من الرواية طريقا إلى المعرفة
إبراهيم الخليل، ابن الرقة، ذاك الذي خرج من ضفة الفرات محمولا على مجرى الحكاية، لا بوصفه راويا فحسب، بل شاهد على تحولات الماء والإنسان واللغة. منذ ولادته عام 1944، تشكل وعيه الأول عند نقطة التقاء النهر بالطين، حيث تعلم أن الكلمة يمكن أن تكون جسرا بين الذاكرة والواقع، وأن المكان ليس إطارا للنص بل روح تعيد تشكيل السارد.
في كتاباته، يغدو المكان بطل الرواية، والرقة أنثى تتنفس بالحبر، مدينة تحفظ ملامحها في مرايا السرد كما يحفظ النهر مجراه في الرمال.
من الشعر إلى القصة إلى الرواية، خاض الخليل رحلة بحث عن الإنسان في الهامش، عن أصوات القرى البعيدة التي لم ينصت إليها أحد. رأى في الرواية “قصيدة القرن الحادي والعشرين،” فكتبها بصدق ريفي وعمق صوفي وتجريب حداثي لا يهادن الشكل ولا يخضع للمألوف. ظل مخلصا لفكرته الأولى: أن الأدب لا يجمّل الواقع، بل يضيئه. لم يغادر الرقة حتى في أوقات الجحيم، مؤمنا أن الأطراف يمكن أن تنقذ المعنى حين يخفت في المركز.
إنه روائي المكان والذاكرة، صاحب “حارة البدو” و”الضباع” و”سيناريوهات الجسد”، الذي جعل من الكتابة فعلا للإنقاذ، ومن الحكاية نهرا لا يجفّ. في سيرته تتجلى معادلة نادرة: أن تبقى بسيطا كالماء، وعميقا كضفافه.
حبر الطمي والروح
هناك، حيث تصحو الأزقة على رائحة الطمي، وحيث يتداخل صوت الورادات بأغاني الصيادين، تعلّم الفتى أن الكلمة ليست زخرفا للصوت بل سفينة تبحر على صفحة النهر وتعود محملة بملح الحكاية. بين الجسر القديم وباب بغداد، بين القرميد والفخار وشرفات البيوت الطينية، نما وعيه الأول بأن المكان ليس خلفية للنص بل نص آخر يصوغ صاحبه، وأن الذاكرة ليست ماضيا يحكى بل حياة ثانية تكتب نفسها كل يوم.
تلقى الخليل تعليمه الابتدائي في مدارس الرقة، وأنهى دراسته في ثانوية الرشيد. كان يحمل دفاتره وكأنها أشرعة رحلة لا دفاتر واجبات، ثم اختار دراسة اللغة العربية في جامعة دمشق. كانت النقلة من الأطراف إلى المركز أكثر من تحول جغرافي؛ كانت انتقالا من لهجة النهر إلى فصحاه، ومن قامة بلدة صغيرة إلى ساحة العواصم.
في دمشق تكاثفت التجارب: الحلقات الثقافية، مقاهي النقاش، مكتبات الظلال الباردة، والاحتكاك بتيارات فكرية متباينة من الماركسية إلى الصوفية، ومن كلاسيك التراث إلى حداثة الغرب. هناك سأل نفسه السؤال الذي سيلازمه: كيف يمكن للكلمة أن تغير الواقع دون أن تتورط بدعاية له، ودون أن تتخلى عن إنسانها؟
عاد إلى الرقة بعد التخرج ليدرّس، لكنه لم يعد المعلم التقليدي. كان يدخل الصف وفي ذهنه أن النصوص التي يشرحها ليست موضوعات للامتحان بل مرايا صغيرة يرى فيها طلابه وجوههم وأمكنتهم. وحين يخرج من الصف، يبدأ نصه هو: نص الرقة والفرات، نص الإنسان المشدود بين إرث يتسع كألف ليلة وليلة، وحداثة تطالب بأشكال جديدة للقول.
لم يتعامل الخليل مع المكان بوصفه مسرحا محايدا للأحداث؛ المكان عنده بطل وقائد مصير. “الرقة هي المكان، وأحيانا يكون المكان هو الحامل الأساسي للنص،” يقول هذا كمن يضع يده على نبض يعرفه.
في كتاباته تظهر الرقة أنثى ومعلمة ومدينة ذات نسب طويل: ذاكرة طمي وزل، رقصات الورادات عند الضفاف، أسماء تنتسب إلى الماء، وعرب وكرد وأرمن وشركس وتركمان، فسيفساء بشرية لا تكتمل إذا سقط منها جزء.
عرفت المدينة مجدها وخرابها. في سنوات المأساة السورية تحول الجمال إلى حصار يومي: مكتبات تلتهمها النيران، لوحات نادرة تذهب مع الحريق، ورجال حبر يفتشون بين الرماد عن ظل جملة.
احترقت مكتبة إبراهيم “الأصابع التي احترقت وهي تحاول أن تكون شاهدة على ما جرى،” لكن صاحبها بقي. لم يغادر إلى منفاه الممكن، ولم يستسلم لإغراء التأجيل. بقي ليشهد “التتار الجدد” ويؤرخ للحريق بحبر لم يبرد. رأى اللون الأزرق المفترض لحبر بغداد وهو يصبغ ذاكرة دجلة في قراءاته، ورآه مرة أخرى يتخفى في رماد كتبه. ومع ذلك، ظل يكتب: فالخراب، حين يكتب بصدق، يصبح مادة لإعادة بناء الإنسان.
من الشعر إلى القصة إلى الرواية، خاض الخليل رحلة بحث عن الإنسان وأصوات القرى البعيدة في الهامش
بدأ الخليل شاعرا لأن المكان الريفي يفتح أبوابه للموسيقى قبل الحكاية. ثم انتقل إلى القصة القصيرة، فإلى الرواية التي رآها “قصيدة القرن الحادي والعشرين”؛ الشكل الأكثر قدرة على احتضان التعقيد الإنساني. منذ مجموعته الأولى “البحث عن سعدون الطيب” (1968) بدا واضحا انحيازه إلى الهامش: أشخاص عاديون، قرى صغيرة، لغة ملتقطة من أفواه الناس ثم مصفاة عبر حساسيته الخاصة.
في الثمانينات نضجت الرواية: “حارة البدو” (1980) حيث الهامش مجتمع كامل لا هامش لأحد، التقاليد في حراك مع المدينة، والبداوة تتفاوض مع الإسفلت. “الضباع” (1985) نص سياسي واجتماعي مشتبك، تحول لاحقا إلى فيلم سينمائي بعنوان “خط المطر” بإخراج مصطفى الراشد وإنتاج المؤسسة العامة للسينما؛ تجربة مهمة رغم شح التمويل الذي اختصر مشاهد دالة مثل “لعبة السكارات” من تراث البليخ اللامادي. ثم “الهدس” (1987) حيث تحضر المرأة العابرة والمقيمة ـ ومنها شخصية الغجرية ـ كسر جمال وشرط فني لا يكمل العمل من دونه.
عاد إلى الرواية في الألفية الثالثة عبر “حارس الماعز” (2002)، “سودوم.. سباق الإوز البري” (2003)، “صيارفة الرنين” (2008). وفي القصة قدم “البازيار الجميل”، و”مال الحضرة”، و”غدير الحجر”، و”أرغفة النعاس”، و “الورل”؛ مشاريع صغيرة لأرشفة الحياة اليومية بما فيها من قسوة وفتنة، لكن الخليل لم يقم طويلا في بيت الرواية الكلاسيكي؛ دفع الجدران نحو الخارج وأدخل الهواء إلى الأجناس.
أكبر دروسه أن الكتابة يمكن أن تنجز من الأطراف بشرط أن تمتلك قراءة عميقة، أدوات مرنة، ومخيلة لا تخاف
في “سيناريوهات الجسد: نصوص عابرة للأشكال”، اقترح كتابة هجينة تستند إلى الجسد بوصفه لغة والروح بوصفها استعارة؛ تناصات صوفية، تفجير للغة، وتجاور متغايرات يجعل النص أقرب إلى رقصة تؤدى على حبل بين هاويتين: الواقع والأسطورة. لا يكتب عن “ما بعد الحداثة” كنسخة مستوردة، بل كعودة مبتكرة إلى تراث كان في ذاته مختبرا للأشكال، من “ألف ليلة وليلة” وما تتيحه من تعدد الأصوات والساردين، إلى شطحات السهروردي والحلاج وابن عربي.
منذ البداية، كان يرى ضرورة الفصل بين الأدب والموقف السياسي المباشر. ليس لأن الكاتب يعيش في برج عاجي، بل لأن السياسة، حين تملي على النص ما يقول، تغلق باب الحقيقة وتفتح نافذة الدعاية. لذلك دافع عن “الإحراج النبيل”: أن يظل الكاتب قريبا من إنسانه وبعيدا عن غواية الشعارات. ومع ذلك ظل الأدب عنده شاهدا: “وإلا فما معنى ما جرى”؟ الحرب ترفد الكتابة بموادها، لكن القلة الصادقة وحدها قادرة على قول ما يجب قوله.
لم يهادن في الموقف الثقافي. كان الأبيض عنده أبيض والأسود أسود. لم يجامل أنصاف المبدعين ولا “العدو الصديق” في المؤسسات. قال أشياء كلفته عزلات متعمدة، لكنه خرج منها بضمير أكثر اتساقا. وحين طرح السؤال المديد عن عبدالسلام العجيلي و”ظله الطويل” في الرقة، أجاب بلا مراوغة: لسنا امتدادا لأحد، نحن نكتب زمنا آخر وآفاقا فنية أخرى؛ لا ننكر الرائد لكننا لا ننضوي في عباءته.
لم تكن المرأة في كتاباته زينة ولا نصيبا عاديا من التقاليد. تحضر بوصفها شرطا جماليا ومعرفيا؛ تضفي على السرد ما يحتاجه من ماء ليجري. من الغجرية في “الهدس” إلى الشخصيات التي تتحرك في عوالم المدن والأرياف، تظهر المرأة كقيمة عمل وذكاء وفتنة مقلقة في آن واحد. إنه حضور ينسخ قناعة جوهرية لديه: العمل الخالي من المرأة نهر بلا ماء.
الكتابة فعل إنقاذ
انضم الخليل إلى اتحاد الكتاب العرب، وأسس مع رفاقه في ستينات القرن الماضي “جمعية ثورة الحرف”؛ محاولة شبابية “ساذجة” كما يصفها بتواضع، للخروج من الفردية إلى عمل أدبي جماعي. حوله تتشكل “الحوزة” التي تعج بأسماء أدبية سورية وسواها: خليل جاسم الحميدي، عبدالله أبوهيف، رشيد رمضان، نبيل سليمان، إبراهيم الجرادي، هيثم الخوجة… حلقة لا تلتقي على مذهب نقدي واحد، بل على إيمان بأن الأدب حركة، وأن الصمت عاقر.
في رؤيته للمشهد الثقافي السوري خلال الأزمة، فضّل التريث على الكتابة الانطباعية. ما جرى يحتاج وقتا ليصير قابلا للسرد العادل. يحذر من الأيديولوجيات المسبقة، ويدعو إلى معيار إنساني صارم: الكتابة لكي نحسن فهم البشر لا لكي نروّج لفكرة أو سلطة.
قد لا تشبه غرفة إبراهيم الخليل صورة “المكتب” المتخيلة: سريران، غطاء زهري، وسادة رمادية، طاولة صغيرة تتراكم عليها الكتب، تلفاز يمرر مسلسلات المساء، رفوف واطئة كأنها تحرص على تواضع ساكنها، جهاز مشي بجانب السرير يشير إلى جسد أثقله العمر لكنه يرفض السكون، مسبحة، قلم، نظارة، هاتف محمول، وزجاجة معقم يدين. عمارة الغرفة مثل أسلوبه: اقتصاد في الزخرف، ترتيب على قدر الحاجة، وإلحاح أن تبقى الأدوات في مدى اليد لأن ما يهم ليس الديكور بل الفعل، القراءة والكتابة والحياة.
يحمل الخليل في جيبه فيزا دائمة إلى الولايات المتحدة، عرف طريقها عبر برنامج “فولبرايت”. كان يمكن أن يغادر إلى حياة أقل خشونة، لكنه لم يفعل. لم يترك الرقة حتى في أيام الحرب. “سكني في الرقة اختياري.. الرقة المدينة والأنثى والنهر والنص، وهل يوجد أجمل من ذلك”؟ بقي ليقول إن الأطراف ليست منفى للكتابة بل فرصة لتخليصها من ثقل المركز. ومن هنا يأتي سؤاله الأثير: كيف تنجح الرواية بعيدا عن العاصمة؟ بالإفراد، بالقراءة الجيدة، بصوت لا يستعير أصابع الآخرين.
في “حارة البدو” التقط بعض النقاد “هنات سردية” ولام آخرون “واقعيته” التي لا تتجمل. يبتسم ويقول: النقد في بلادنا متواضع إذا قيس بإرثه العظيم، لم يتقن بعد مراس الأدوات والمصطلح، وعديدون يكتبون بقدر فهمهم المحدود. لكنه لا يزدري النقد ولا يبرّئ المتون؛ يذكر بأن الكتابة عن الواقع شجاعة قبل أن تكون تقنية، وأن تصوير الفضيحة ليس فضيحة إذا كان شرطا للحقيقة.
الصوفية عند الخليل ليست طقسا عاطفيا بل أداة معرفة. هي أحد الأجنحة التي تحلق بها الكتابة حين تضيق القوالب. يستدعي الحلاج والسهروردي وابن عربي، ويجد في أعمال آنه شيمل وسواها تنبيها إلى أن التراث الصوفي كان مختبرا للتجديد. هناك يتجاور الغيب والحياة اليومية، وتتحرر اللغة من صرامة النحو إلى سعة الإشارة. لذا جاءت “سيناريوهات الجسد” محاولة لتقعيد هذا المزاج في نص؛ جسد يتكلم، وروح تومئ، وعالم تركبه الكلمات كي تعيد رسم حدوده.
تحويل “الضباع” إلى “خط المطر” تجربة تقول الكثير: حين تعبر الرواية إلى الشاشة تكسب جمهورا مختلفا، وتتنازل في المقابل عن شيء من نبرتها السياسية أو غنائيتها اللغوية. في الفيلم خسر مشاهد، وربح حضور الهامش على الشاشة. الهامش الذي طالما كتبه ـ الشمال المهمش ـ ظهر هنا بوضوح: حياة تدار بعيدا عن العاصمة، وناس لا يعرفون أن قصصهم تكتب بهم.
لا تغريه الجوائز. يكتب لأن المكان يطالبه بالكتابة، لأن في الرقة “مخزونا” يحتاج من يخترع له لغة. يقول “المكان يعنيني أكثر من الجائزة.” ومع هذا لا ينكر أن التفرد مطلوب بشرط ألا يصبح هدفا في ذاته. التفرد عنده نتيجة صدق مع الذات والبيئة والتاريخ، لا مهارة خطابة.
هو أب لابنتين وولدين. حياته العائلية ظلت هادئة بقدر ما أتاحه زمن صاخب. لا مبالغات في الحضور العام، ولا نهم لماكينات الظهور. الأصدقاء جسره إلى العالم: جلسات نقاش تطول، قوارير سمر تطفئ عطش الكلام، ونكات مرة عن “علي بابا” و”الأربعين” في مؤسسات الثقافة. يضحكون كي لا ينهزموا، ثم يعود كل واحد إلى نصه.
“الرقة عاصمة القصة القصيرة باعتراف الجميع”، عبارة يكررها بسلام. فالمدينة ولاّدة فعلا لكن حضورها خافت لأسباب لا تخص الموهبة وحدها: البعد عن المركز، الرحيل والهجرة، الرقابة ومناخها الكثيف. ومع ذلك، يرى في وسائل التواصل فرصة لاستعادة الأسماء وتبادل الأكسجين. يدين الغياب النسوي في المشهد ـ مسألة عامة في سوريا ـ ويأمل في تصحيحها يوما.
“من لم يتعلم من الحرب لن يتعلم أبدا.” لهذا يخزّن المشاهد في الذاكرة، يتركها تختمر حتى تصير قابلة للقول. حين يكتب رواية يقرأ الشعر، وحين يكتب الشعر يقرأ الرواية، وحين لا يكتب يقرأ للقراءة، طقس بسيط لكنه عميق: كأن القراءة تدريب على الإصغاء للواقع قبل أن يصبح مادة أدبية. وكل عجوز “رقاوية” صندوق حكاية محفوظة في نبرتها، يكفي أن تفتحه حتى تخرج الذخائر.
لم يجن ثروات ولا أضواء. جنى ما هو أثمن عنده: الإحساس بالوجود. أن تعرف كيف تضع يدك على قلب المكان وتصغي، أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من إرث يوشك أن يضيع، أن تدرب القارئ على نوع آخر من الرؤية. هذه هي حصيلته. أما السيرة الذاتية فليست هاجسا؛ كتبه سيرته الأكثر صدقا، والقارئ شريك في كتابة تلك السيرة عبر ما يتلقاه من صور ومعاني.
لا يكتب وحده ولا عن نفسه. يذكر بإكبار أسماء من الرقة وخارجها: عبدالسلام العجيلي، خليل جاسم الحميدي، عمر الحمود، إبراهيم الجرادي، عبدالله أبوهيف، حمدي موصلي. وأسماء أخرى للشعراء والقصاصين الذين تكونت معهم “حوزة” الأدب: من المتنبي إلى درويش، ومن تشايكوفسكي وبوشكين إلى كافكا وحمزاتوف ونيرودا… مكتبة حية تمشي على قدمين وتلتقي في بيت واحد: النص.
الحياة رواية مكتوبة
أكبر دروسه أن الكتابة يمكن أن تنجز من الأطراف بشرط أن تمتلك مركزها الداخلي: قراءة عميقة، أدوات مرنة، ومخيلة لا تخاف من التجريب. الأطراف ليست هامشا دائما؛ أحيانا تكون منبعا لا ينضب، “روافد الفرات” التي تتدفق سلسبيلا عذبا. كل ما يلزم هو ألاّ يستعير الكاتب أصابع غيره، وألاّ يهرب من واقعه إلى لهو لغوي.
ثمانون عاما اختصر فيها الخليل رواية مكتوبة ومعاشة. غرفة بسيطة تجاور نهرا عتيقا، مدينة تتأرجح بين الخراب والأمل، مكتبة احترقت فصارت نارها حبرا، قلم لم يرضخ لابتزاز الأيديولوجيا، جملة تبحث عن إنسان أكثر إنسانية.
لم يكتب سيرته لأن كتبه تكفي، ومع ذلك فحياته نفسها رواية: عن مدينة على الماء، وعن رجل حمل في جيبه فيزا الغياب واختار إقامة الحضور، عن شاهد لا يحب دور الضحية، وعن كاتب ظل وفيا لأبسط الأشياء وأكثرها صدقا: المسبحة، القلم، النظارة، جهاز المشي، وزجاجة معقم صغيرة في غرفة مرتبة بعناد.
إنها رحلة الفرات في رجل، ورحلة رجل في مدينة لا تموت. وحين يسأل أخيرا: ماذا جنيت من الكتابة؟ يبتسم ويقول: “الإحساس بالواقع.. وألاّ يضيع هذا الإرث الناجز في متاهات النسيان.”
هذه هي وصيته غير المكتوبة: أن تظل الكلمة، مهما احترق العالم، قادرة على أن تنقذ ما تبقى من المعنى.