فاس.. مدينة الأسرار التي تناقلتها حكايات الجدات

مدينة مغربية تصوغ مجدها من الينابيع وعبق الأزقّة.
السبت 2025/10/18
خطاب معماري يروي قصة أمّة

هناك مدن تتحول إلى أيقونات وأساطير وحكايات تتناقلها الألسن قبل الكتب، من هذه المدن فاس المغربية، المدينة التي احتلت مكانة بارزة في حكايات الجدات والروايات الشعبية، ولم يكن ذلك مصادفة بل وليد تاريخ كامل عرفته المدينة، التي لا تشبه غيرها.

حين يُذكر اسم فاس، لا نُحيل مباشرة إلى مدينة بعينها بقدر ما نستدعي كائناً حيّاً يطفو بين الذاكرة والخيال. في طفولتنا، لم تكن فاس مجرد نقطة على خارطة جغرافية مدرسيّة، بل كانت لغزاً يتردّد صداه في الحكايات المنزلية والصلوات البعيدة. جدّاتنا، اللواتي يملكن مفاتيح الكلام الموارب، اختصرنها في جملة واحدة صارت أشبه بتعويذة: “ليس وراءها ناس.” ولم يكن أحد يجرؤ أن يسأل: وما وراءها إذن؟ كأن السؤال نفسه خطيئة، أو كأن الإجابة ستفتح باباً على هاوية مجهولة لا قرار لها.

بهذه العبارة المقتضبة، تحوّلت فاس في وجداننا الطفولي إلى مدينة تتجاوز المألوف. لم نكن ندرك إن كانت مدينةً أم مملكةً أم أسطورة، لكننا كنا واثقين أنها ليست مكاناً عادياً. من يزورها يُستقبل كما يُستقبل الناجي من موت، أو العائد من سفر طويل.

 كانت فاس، قبل أن تلامس أقدامنا ترابها، فضاءً للرهبة، مدينة أسطورية تقف على حافة المعلوم، تحرس أسرارها كما تحرس أميرةٌ عتيقة مجدها الغابر. وتمتد فاس كجوهرة متلألئة على بساطٍ واسع تبلغ مساحته 312 كيلومتراً مربعاً، تحتضن في قلبها ثلاث مدن تتآلف كأوتار سيمفونية واحدة: بلدية فاس وبلدية المشور الجديد، وإلى جانبهما ينبض حيان حضريان ينتميان إلى جماعتين قرويتين هما سيدي حرازم (السخينات) وأولاد الطيب.

وفي رحاب هذا الامتداد العمراني والروحي تتوزع الحياة على ما يقارب مليوني نسمة، يشكّلون معاً نسيجاً إنسانياً متنوعاً، ينساب عبر الأزقة والميادين كما تنساب الحكايات في ذاكرة الزمن، ليمنح فاس روحها التي لا تُختزل في أرقام ولا تُقاس بمساحة، بل تُحسّ في نبض أهلها وملامح تاريخها.

حكايات الحجر الصامت

مدينة تعيش أكثر من زمن في آن واحد
مدينة تعيش أكثر من زمن في آن واحد

مع اتساع المدارك وانكشاف العيون على العالم، أخذت الصورة تخرج من ضباب الخرافة لتتشكل ملامحها الجغرافية والثقافية. بدا المغرب كله أرضاً تتنفس بتضادّاتها: جبال يكسوها الثلج في الشمال، سهول عامرة بالزيتون والتين والبرتقال في الوسط، وصحارى تتوهّج رمالها نهارا وتبرد ليلا كحضن أم رؤوم. وفي قلب هذا التنوّع كانت فاس أشبه بعقدة الخيوط، مركزا يشدّ الروح كما يشدّ الجسد إلى مركز ثقل غير مرئي. لم تكن مجرد مدينة، بل كانت بوصلةً تُعيد ترتيب الاتجاهات الداخلية للإنسان.

الدخول إلى فاس لم يكن حدثاً جغرافياً فحسب، بل كان عبوراً نفسياً وروحياً. من بوابة “فاس الجديدة” بدا المشهد مَهيباً: أعلام ترفرف في سماء صافية، حدائق غنّاء تمتد كذراعين ترحّبان بالغريب، وعمارة حديثة تحاول أن تواكب الزمن. غير أنّ الباطن سرعان ما ينكشف: أزقة ضيّقة متشابكة كشبكة عروق، جدران عالية تتسلل منها ظلال الأسرار، نوافذ صغيرة نصف مغلقة تراقب المارة بعينٍ حذرة.

هنا، الزمن لا يسير بخط مستقيم؛ بل يتشابك كخيوط نسيج قديم، حيث يتجاور الجلباب التقليدي مع البنطال العصري، العمامة مع القبعة الأوروبية، المَسبحة مع الهاتف المحمول. إنها مدينة تعيش أكثر من زمن في آن واحد، أو لنقل إنها مدينة رفضت أن تعترف بالزمن كخطٍّ متدرج، وجعلت منه طبقات متراكبة تتنفسها لحظة بلحظة.

ولعل هذا التراكب هو سر جاذبيتها؛ فالمكان فيها لا يُقرأ دفعة واحدة، بل يُفكك كما تُفكك الأحلام. الأزقة الملتوية لا تقودك إلى وجهة محددة، بل تُعيدك إلى نفسك. والضجيج المتداخل بين أصوات الباعة ورنين النحاس وصوت المؤذن، لا يُرهق السمع بقدر ما يوقظ طبقات دفينة في الذاكرة. فاس ليست مجرد مسرح للعيش، بل مختبر داخلي لاختبار معنى الوجود نفسه.

الحكايات الشعبية التي تبدو في ظاهرها بسيطة تحمل في جوهرها رموزاً تأسيسية. تقول الرواية إن اسم فاس ارتبط بفأس ذهبي استُخدم في حفر أساسها، أُهدي إلى إدريس الأول. ومنذ تلك اللحظة لم يعد الاسم مجرد أداة عمل، بل علامة على ميلاد مدينة كُتب لها أن تكون أكثر من تجمّع سكني. إدريس الثاني جاء ليبني “العالية” على الضفة الأخرى من الوادي، لتتشكل العدوتان: الأندلس والقرويين. ومن ذلك الانقسام الأول وذاك التلاقي، تولّدت نواة مدينة ستصبح لاحقاً قلب الإسلام الغربي، وموئل العلماء والتجار والمتصوفة.

في هذه المدينة الجمال يلتقي بالمعرفة، والأسواق بالحدائق، والماضي بالحاضر، لتقول لنا إنها لا تموت

فاس لم تُنشأ لتكون مدينة محايدة؛ منذ البدء كُتب عليها أن تحمل رسالة، أن تكون معبراً للهوية وصوتاً للتاريخ. فمن هنا خرجت فتاوى الفقهاء ونصوص المتصوفة ورسائل الفلاسفة. هنا كان الفكر يشتبك مع العقيدة، والعقيدة تتحاور مع السوق، والسوق يتغذى من الحرفيين الذين جعلوا من العرق والصبر فناً يومياً. ولعلَّ هذا التداخل هو ما منحها روحها المركّبة: فهي ليست معبداً فحسب ولا سوقاً فحسب، بل التقاء الاثنين في صورة واحدة، كما تلتقي الروح بالجسد في لحظة خلق.

واللافت أنّ كل من مرّ بها ترك أثراً لا يُمحى. الأندلسيون الذين جاءوا بعد سقوط الفردوس المفقود حملوا معهم الموسيقى والحنين، فأضافوا نغمة شجية إلى وجدانها. التجار القادمون من الصحراء جلبوا البضائع والعطور والتوابل، وتركوا خلفهم مسارات روائح تسكن الأزقة حتى اليوم. والعلماء الذين شدّوا الرحال إليها جعلوا من جامع القرويين جامعةً مفتوحة على العالم، حيث تجاور الفقه مع الطب، والفلك مع المنطق، لتُصبح فاس جسراً بين العصور، ومخزوناً معرفياً لا ينضب.

لكن الوجه الآخر للمدينة لا يقل عمقاً: ضيق الأزقة يعكس أحياناً ضيق النفوس، والظلال الكثيفة التي تحجب النور قد تتحول إلى رموز للانغلاق. فكما هي مدينة للمعرفة والانفتاح، هي أيضاً فضاء للتوجس والخوف من المجهول. هذا التناقض ليس عيباً، بل هو ما يجعلها أكثر قرباً إلى طبيعة الإنسان نفسه: كائن يجمع بين الرغبة في الكشف والرهبة من الانكشاف.

في نهاية المطاف، فاس ليست مجرد مدينة مغربية تُذكر في كتب التاريخ، بل هي سؤال مفتوح على النفس والهوية والزمن. حين نزورها أو نفكر فيها لا نبحث فقط عن أسوارها وأبوابها وعمارتها، بل نبحث عن صورةٍ لأنفسنا في مرآتها. وكأنها تقول لنا “أنا مرآة لمن يجرؤ على النظر.” ولهذا السبب بالذات تظل فاس مدينة لا تنقضي، مهما تغيّرت الأزمنة والوجوه، لأنها اختارت أن تعيش في المسافة الغامضة بين الواقع والأسطورة، بين الحاضر والذاكرة، بين الناس وما وراء الناس.

في قلب فاس، تلك المدينة التي تحمل في مسامها عبق العصور، تقف جامعة القرويين شامخة كأيقونة لا يبهت بريقها. ليست حجارة مرصوفة ولا قاعات درس عابرة، بل محراب يزاوج بين العبادة والمعرفة، بين ارتقاء الروح وتوقد العقل. هنا جلس ابن خلدون يخط مقدمته التي ستغدو مرجعاً في علم الاجتماع، وهنا مرّ ابن عربي متأملاً أسرار الوجود، وهنا وجد ابن ميمون في رحابها سنداً لفكره. كل زاوية في أركانها تنبض بصوت عالم، وكل حجر يحفظ صدى جدل فكري دار منذ قرون، كأن المكان ذاكرة كونية لا تهرم.

العمارة في القرويين ليست مجرد زخرفة تُرضي العين، بل خطاب معماري يروي قصة أمّة. النقوش الهندسية على الجدران، الخطوط التي تنحني وتتماوج كأنها صلوات مكتوبة بالحجر، الأعمدة الرشيقة التي تنهض كأجساد تتعبّد، الفسيفساء التي تعكس ضوء الشمس كأنها نجوم أُسقطت على الأرض؛ كلها تشهد على عظمة يد الصانع المغربي الذي لم يرَ في عمله حرفة فحسب، بل عبادة وفنّاً. حتى النوافير التي تتوسط باحاتها ليست ترفاً جمالياً، بل رمز لاستمرار الحياة، وانسياب المعرفة كما ينساب الماء في صمت ورهافة. الجلوس في أفيائها يمنحك رهبة مزدوجة: خشوع المصلي في محرابه، وهيبة الطالب أمام أسرار العلم.

وفاس، في جوهرها، ليست مدينة ساكنة جامدة، بل كائن يتنفس ويضج بالحياة. يكفي أن تسير إلى ساحة الصفّارين حيث يتعالى صوت المطارق على النحاس، فيغدو الإيقاع سيمفونية من عرق البشر وصبرهم. الشرارات المتطايرة من المعدن كأنها حروف قصيدة تُكتب في الهواء، والأواني التي تتشكل بين أيديهم ليست مجرد أدوات للاستعمال، بل قطع تحمل ذاكرة اليد التي صنعتها ونبض القلب الذي صبر عليها. السوق هنا يتجاوز تبادل السلع، إنه مشهد يومي يعرض فلسفة كاملة عن معنى الكدح، عن العلاقة العضوية بين الإنسان وما يبدع.

ثم تمضي إلى سوق الصبّاغين، حيث يتحول الجلد الخام إلى لوحات حيّة من ألوان. الأحواض الصغيرة أشبه ببحيرات مصغّرة: حمراء بلون الدم، زرقاء بسعة المحيط، صفراء كصفاء الذهب. ليست مجرد صناعة يدوية، بل طقس يقترب من العبادة؛ إذ يتعامل أهل فاس مع اللون كما لو كان لغة مستقلة يخاطبون بها العالم. إنك لا ترى في تلك الألوان مواد جامدة، بل طاقة تنبض بالحياة، رسالة بصرية تقول إن الجمال ليس ترفاً، بل ضرورة وجودية تحفظ للروح توازنها.

ماء يروي الأرواح

pp

الماء في فاس يكتسب بُعداً روحياً. ينابيعها تجري في الأزقّة كأنها شرايين مدينة حيّة، تروي البساتين، وتداعب الحجر، وتهمس للقلوب. في الحمامات التقليدية يصبح الماء أكثر من وسيلة للنظافة: إنه علاج وتطهر ولقاء. الحمام فضاء اجتماعي وروحي في آن واحد، حيث تتبادل النساء أسرارهن ويستعيد الرجال قوتهم، وحيث تُغسل الأرواح من غبار الحياة اليومية. في تلك اللحظات يتحول الماء إلى لغة تواصل صامتة، يعيد للإنسان صلته بجسده وروحه ومجتمعه.

وحين ننتقل إلى القرن الثامن عشر نجد السلطان مولاي عبدالله قد شيّد “جنان سبيل”، حديقة لم تكن ترفاً جمالياً، بل ضرورة نفسية. في أركانها تتجاور الأشجار الباسقة مع النوافير المتدفقة، وتتناثر المقاعد الحجرية كمساحات عزلة وسط صخب المدينة. الحدائق في فاس ليست ديكوراً خارجياً، بل ملاذات تعيد للروح توازنها، صمامات أمان تُتيح للإنسان أن يوازن بين الضجيج الذي يفرضه السوق وصمت التأمل الذي تحتاجه النفس. إن من يجلس في تلك البساتين يشعر كأنه يفتح نافذة في داخله، نافذة على سكينة نادرة.

المباني في فاس، على اختلافها، ليست جدراناً صامتة. إنها صفحات من كتاب مفتوح تُقرأ بالعين والقلب معاً. كل قوس يحمل توقيع حقبة، كل نافذة صغيرة تروي سيرة أسرة، كل باب نحاسي يختزن بصمة صانع. العمارة هنا ضرورة وجودية، هندسة تحترم الضوء والهواء وحركة الإنسان.

الأزقّة الضيّقة، التي قد يراها الغريب عشوائية، هي في حقيقتها نظام دقيق يوازن بين الخصوصية والانفتاح، بين الحاجة إلى الظل والحاجة إلى الضوء. وحين تسير فيها يخيّل إليك أنَّ الجدران تهمس لك، أنّ الحجر يحتفظ بذاكرة من مرّ قبلك، وأنك بدورك ستصير جزءاً من تلك الذاكرة.

سرّ فاس لا يتوقف عند حجارتها وأسواقها، جوهرها أعمق من أن يُختزل في مشهد بصري أو تحفة معمارية

لكن سرّ فاس لا يتوقف عند حجارتها وأسواقها. جوهرها أعمق من أن يُختزل في مشهد بصري أو تحفة معمارية. إنها مرآة للروح الإنسانية. من يسير في أزقتها لا يواجه الجدران فقط، بل يواجه نفسه. إنها مدينة تكشف خفاياك: قلقك كما تكشف طمأنينتك، خوفك كما تكشف رجاءك. إنها امتحان للعلاقة بين الإنسان ومكانه، بين الحاضر والماضي، بين ما نملك وما نفتقد. ومن يدخلها كسائح مستعجل يجدها مغلقة، متمنعة، كصندوق أسرار لا يُفتح إلا لمن يصبر. أما من يقترب منها بحبّ وشغف، فيجدها منفتحة ككتاب كريم، تمنح بسخاء، لكنها في المقابل تأخذ منك شيئاً: وقتك، قلبك، وربما جزءاً من روحك.

فاس ليست مجرد مدينة على خريطة، إنها تجربة وجودية. هي المكان الذي يعلّمك أن العمارة ليست حجراً فقط، بل معنى، وأن السوق ليس سلعة فقط، بل حياة، وأن الماء ليس مادة فقط، بل روح. هي مدينة لا تُزار، بل تُعاش. من يمر بها سريعاً يخرج كما دخل، ومن يغوص فيها لا يخرج منها أبداً كما كان.

تعاقبت على مدينة فاس عصور المرابطين والموحدين والمرينيين، وتناوبت عليها دولٌ حملت معها الطموح والسلطة، فشيدت القصور، وأقامت الأسوار، وأرست قواعد الحكم والسياسة. ومع ذلك، بقيت روح المدينة عصيّة على الاختزال، متجاوزةً كل سلطان وكل عصر، كأنها كائن أسطوري ينهض من رماده في كل مرة، يستعيد نفسه ليعلن استمراريته. فاس ليست مجرد مدينة ارتبطت بتاريخ ملوكها، بل هي شبكة متداخلة من الذاكرة الجماعية، جديلة معقدة تحمل في خيوطها آلام الهزائم ونشوة الانتصارات، وتُخفي بين تضاعيفها ما يتجاوز الحكاية الرسمية إلى ما يسكن أعماق الناس من تجارب ومعاناة وأحلام.

اليوم، لا تزال فاس مركزاً اقتصادياً نابضاً بالحياة، تفيض أسواقها بالمنتجات التقليدية التي حافظت على روحها عبر القرون؛ من الجلود المصقولة بأيدٍ خبيرة، إلى المنسوجات المطرزة بأنامل صبورة. هذه الأسواق ليست مجرد فضاء للتبادل المادي، بل هي مسرح للذاكرة الشعبية، حيث يتجسد الماضي في الحاضر، وحيث تنبض الحكايات في كل حركة بيع وشراء.

إلى جوار هذه الحيوية التجارية تقف الجامعات الحديثة كأشجار فتية، تتجاور مع جامعة القرويين التي حملت على عاتقها عبء المعرفة قرونًا طويلة. المشهد هنا لا يوحي بمدينة متحفية متحجرة، بل بمدينة ما زالت قادرة على التنفس، تُعيد إنتاج ذاتها مع كل جيل، وتوازن بين الجذور العميقة والأفق المفتوح.

السياحة في فاس ليست مجرد زيارة عابرة لالتقاط صور تذكارية؛ إنها تجربة استثنائية، رحلة في متاهة الأزقة التي تتقاطع كالشرايين، وفي حدائق تتفتح بين الجدران العتيقة كواحات خضراء، تمنح العين فسحة من الراحة بعد عناء التجوال. آلاف الزوار يأتون كل عام، لكن وحدهم الذين يحملون روح الباحث عن المعنى يجدون سر المدينة. ذلك السر الذي لا يُقرأ في الدليل السياحي، ولا يُشاهد في صورة، بل يُكتشف حين يترك المرء قلبه يقوده، فيسمع ما وراء الأصوات، ويرى ما وراء المشاهد.

الخروج من فاس ليس مجرد انتقال جغرافي، بل هو أشبه بانتهاء تجربة وجودية. هنا يصبح التاريخ ملموسًا، ليس في صفحات الكتب، بل في ملمس الحجر الذي صُقلت حوافه بأقدام العابرين، وفي رائحة الجلد الذي عرّفته الشمس والعرق، وفي وقع الخطوات على الأزقة الضيقة التي تردّد صدى أجيالٍ لا تُحصى. المدن العظيمة تُعاش بالحواس كلها، لا بالعين وحدها؛ تُعاش بالذاكرة والخيال، بالحنين والتوقع. وفاس، على وجه الخصوص، تعلم زائرها أن التراث ليس ماضياً مغلقًا خلف جدران متحف، بل هو خبز يومي يتصاعد منه بخار العجين، ورائحة بهارات تُثير الشهية قبل أن تُداعب الذكريات، وهو دعاء خافت في زاوية مسجد يتردد صداه في القلب أكثر مما يتردد في الفضاء.

روح تتنفس الحاضر

مختبر داخلي لاختبار معنى الوجود
مختبر داخلي لاختبار معنى الوجود

في هذه المدينة يلتقي الجمال بالمعرفة، والأسواق بالحدائق، والماضي بالحاضر، لتقول لنا إنها لا تموت. فاس تُعيد اختراع نفسها كل يوم، كأنها تقاوم الموت بالنسيان، وتقاوم الجمود بالتجدد. هي مدينة تستند على تاريخها الطويل لتطل برأسها على حاضرها المليء بالتحديات، فلا تذوب في ذاكرة الماضي، ولا تنفصل عن جذورها. كل من يزورها مرة يجد نفسه يعود إليها في أحلامه، لأنها لا تكتفي بأن تعكس وجهه الخارجي، بل تُظهر له أعماقه المخفية. إنها مرآة وجودية تضع الإنسان أمام ذاته، فتجعله يرى هشاشته وقوته، غربته وانتماءه، خوفه ورغبته في الاستمرار.

قد يظن المرء أن سر فاس يكمن في جمال عمرانها أو في عظمة تاريخها، لكن سرها الأعمق يتراءى حين ندرك أنها ليست مجرد مكان، بل تجربة نفسية واجتماعية متكاملة. إنها فضاءٌ يُذكّرك بإنسانيتك، لأنك ترى نفسك في الآخر، وتلمح ملامح الغريب في ملامحك. أزقتها التي تضيق أحياناً حتى تلامس الجدران كتفيك، تجعلك تدرك ضيق العالم واتساعه في آن واحد. أسواقها الصاخبة تعلمك أن الحياة حركة دائمة، وأن الصخب ليس فوضى بل إيقاع، وأن الازدحام ليس ضيقاً بل التقاء. وفي لحظة صمتٍ بين جدران مدرسة قديمة أو على مصطبة حجريّة، تكتشف أن السكينة ليست نقيض الضجيج، بل وجهه الآخر.

إنها مدينة تُربيك دون أن تدري. تُعلّمك أن التراث ليس صورة ثابتة تُعلّق على الجدران، بل حياة تتنفس في كل تفاصيل اليومي. تُريك أن الماضي ليس شيئاً انتهى، بل هو نسيج مستمر يُغذي الحاضر، كما تُريك أن المستقبل ليس قطيعة، بل امتداد وتحوّل. فاس بهذا المعنى تُصبح درساً في الهوية: هوية ليست سجناً، بل فضاء مفتوح على التغيير دون أن تفقد أصالتها.

حين تغادر فاس ستشعر أنها لم تتركك كما دخلتها. شيءٌ ما منها يظل معلقاً في داخلك، كهمسة أو كحلم. كأنها تُسلمك سراً أزلياً لا يُعطى إلا للمحبين، سراً يُقال في الصمت أكثر مما يُقال بالكلمات. عندها تدرك أن المدن ليست كلها سواء، وأن بعض المدن تظل مجرد محطات، فيما مدن أخرى تتحول إلى أقدار. وفاس، بلا شك، من تلك المدن التي لا تُعاش مرة واحدة، بل تُرافقك في كل مكان، وتُذكّرك بأن الحياة أكبر من زمنها وأعمق من مكانها.

8