من يملك القرار في مستقبل الشرق الأوسط
ما احترق في غزة لم يكن حيًّا من أحياء المدينة، بل الذاكرة التي بُني عليها القرن العربي بأكمله. كل حربٍ في هذا الإقليم كانت تلد مشروعًا جديدًا: من النكبة خرجت القومية، ومن النكسة خرج النفط، ومن الغزو خرج الإسلام السياسي. إلا أن هذه الحرب أنجبت فراغًا مطلقًا، كأن التاريخ قرّر أن يتقاعد ويترك البشرية في فراغها الأخلاقي، تتأمل رمادها دون أن تفهم ما الذي انتهى حقًا.
غزة لم تكن حربًا بين إسرائيل وحركة مسلّحة، بل كانت اللحظة التي تحطّم فيها المفهوم ذاته: المقاومة لم تعد خلاصًا، والانتصار لم يعد ممكنًا، والدولة لم تعد ضرورة. خرجت الحرب عن مدار المنطق السياسي لتصبح أول حدثٍ عربيّ ينتمي إلى ما بعد السياسة، إلى فضاءٍ تتصارع فيه الذاكرة والخيال أكثر مما تتصارع فيه الجيوش. وفي تلك اللحظة، تبيّن أن كل ما بنته البشرية بعد الحرب العالمية الثانية من مفاهيم: الردع، السيادة، الشرعية، والإنسانية، قد تبخّر تحت ضوء القنابل الفسفورية.
الشرق الأوسط لم يدخل مرحلة ما بعد الحرب، بل مرحلة ما بعد المعنى. المنطقة بدت مختبرًا لإعادة تعريف الإنسان. إسرائيل انتصرت عسكريًا وخسرت ميتافيزيقيًا، وحماس صمدت وجوديًا لكنها انهارت فكريًا، والعالم الغربي فقد آخر ما تبقّى له من يقين أخلاقي حين صمت على الدم وهو يتحدث عن القانون. لقد سقطت “المقدّسات السياسية” دفعة واحدة، وبات الكل متورطًا في جريمة مشتركة: جريمة الاعتقاد بأن التاريخ يمكن أن يُدار بالعواطف أو بالقوة أو بالمصطلحات.
لكن، وبعد صمت العالم على رماد غزة، جاء العرب ليعيدوا ضبط البوصلة. في شرم الشيخ اليوم، حيث اجتمع رؤساء أوروبا وترامب، وغاب نتنياهو الإسرائيلي، اتضح أن العاقل الوحيد في لحظة الجنون كان العرب أنفسهم. لم يصرخوا، لم يهددوا، ولم يتوسّلوا الخطاب الأخلاقي كما فعل الغرب، بل صمتوا ثم تحرّكوا، وحين تحرّكوا تغيّر مسار الحرب. لم يكن ذلك انتصارًا دبلوماسيًا فحسب، بل انتقالًا فعليًا لمركز العقل السياسي من الغرب إلى الشرق. أوروبا التي صدّعت العالم بخطاب الإنسانية بدت عاجزة عن فعل، بينما العرب الذين اتُّهموا بالعاطفة أثبتوا أنهم وحدهم من امتلكوا فن تبريد النار.
بعد رماد غزة جاء العرب في قمة شرم الشيخ ليعيدوا ضبط البوصلة مثبتين أن القرار السياسي انتقل من الغرب إلى الشرق وأن العرب وحدهم امتلكوا فن تبريد النار ورسم المستقبل
في الكواليس، مارست العواصم العربية أكثر أشكال السياسة صفاءً: ضغط هادئ على واشنطن، وتوازن دقيق بين الغضب والواقعية، حتى وجد ترامب نفسه أمام مشهد لا يستطيع السيطرة عليه إلا بإنهاء الحرب. كان الصمت العربي محسوبًا، وأصبح أداة ضغط أعمق من كل بيانٍ عسكري أو أخلاقي. لقد أجبر العرب العالم على الاعتراف بفلسطين لا عبر الصراخ، بل عبر هندسة الصمت، الذي حين يكون مدروسًا يتحوّل إلى فعل أقوى من أي قرار سياسي.
لقد انهار في غزة شيءٌ أعمق من السياسة: انهار الوهم بأن الحضارة قادرة على تنظيم الشرّ. الشرّ هذه المرّة لم يأتِ من مجنون أو دكتاتور، بل من نظام كامل يعرف ماذا يفعل ويفعله بوعي بارد. اللحظة التي يصبح فيها القتل “منطقيًا” والدفاع عن الحياة “عدمية” هي لحظة موت الإنسان بوصفه كائنًا سياسيًا. عندها تصبح كل الحروب القادمة ليست صراعًا بين أطراف، بل بين حضاراتٍ فقدت معناها، وبين ذاكرةٍ تحاول أن تتذكّر نفسها وسط الرماد.
وسط كل هذا الخراب، وُلدت حقيقة جديدة: أن العالم القديم انتهى، وأن ما سيأتي لن يكون استمرارًا له، بل نقيضه. الحدود لم تعد تُرسم بالحروب، والقوة لم تعد بعدد الطائرات، بل بقدرة الفكرة على النجاة. العرب، الذين اتُّهموا بالعاطفة والانقسام، أثبتوا أنهم وحدهم القادرون على ضبط البوصلة حين فشل الآخرون. لقد أعادوا للعالم درسًا قاسيًا: من يملك الصمت يملك القرار، ومن يضبط النار هو من يرسم شكل التاريخ.
ومع أن إسرائيل جعلت غزة عاجزة عن إعادة إعمارها، وتصريح سابق لنتنياهو بأن الأعداء في المنطقة يعيدون ترتيب صفوفهم وسوف نكون لهم بالمرصاد، يبقى الواقع مؤلمًا: المدينة تعيش بين الرماد، والقوى الكبرى عاجزة عن فرض إرادتها، والعرب هم من أعادوا ضبط البوصلة السياسية والأخلاقية. فهل ستكون أمريكا قادرة على ضبط إسرائيل وما تملكه من نفوذ ميداني وقوة عسكرية؟ وهل إسرائيل سترسم ملامح المرحلة المقبلة، أم أن العرب وحدهم سيكونون بالمرصاد لحماية ما تبقى من العدالة والحرية؟