لبنان.. الجدار الذي يبتلع صوره
في إحدى حلقات المسلسل اللبناني مرحبا دولة، تدخل الشرطة إلى مخفر مهجور. على الجدار تتعاقب الصور: حافظ الأسد، بشار الأسد، إيمانويل ماكرون، بنيامين نتنياهو، نعيم قاسم، دونالد ترامب. صورة فوق أخرى، سلطة تتوارى خلف سلطة، وصاية تحجب وصاية. وحين أُزيحت الصورة الأخيرة، لم يظهر وجهٌ جديد، بل ثقب في الجدار.
ذلك الثقب ليس تفصيلًا فنيًا، بل خلاصة قرنٍ كامل من تاريخ لبنان. كل صورة تمثل طبقة من الوصاية أو الاحتلال الرمزي: حافظ الأسد تجسيد لحقبة السيطرة الصلبة، بشار نسخة التوريث، ماكرون استعادة لذاكرة الانتداب، نتنياهو حضور العدو المتحكم في هندسة الصراع، نعيم قاسم وصاية الداخل بلسان الخارج، وترامب رمز الفوضى الدولية التي تدير الأزمات اللبنانية كأدوات في لعبة أكبر.
غير أن المغزى الأعمق لا يكمن في الصور، بل في ما كُشف خلفها: ثقب في الجدار. فلبنان لم يكن دولةً تزيل صورًا لتكشف وجوهًا، بل مساحة يُعلّق عليها الآخرون رموزهم، وحين تُزال الصور يظهر الفراغ. السيادة كانت ملصقًا، والهوية واجهةً هشة، والمؤسسات جدرانًا آيلةً للسقوط. المخفر المهجور في المسلسل ليس مكانًا دراميًا، بل استعارة لدولةٍ ميتة: جدار مثقوب، وأرشيف من الصور المتناقضة التي تحجب غياب الأصل.
وفي لحظة تأمل قاسية، يدرك المشاهد أن المسلسل لم يكن نقدًا للسلطة فحسب، بل فضيحة لمفهوم “الدولة” نفسه: لم يفشل اللبنانيون لأنهم اختاروا الزعيم الخطأ، بل لأنهم لم يمتلكوا يومًا جدارًا وطنيًا يُعلّق عليه وجههم. كل صورة جديدة لم تكن سوى قناعٍ إضافي يُزيّن الثقب، قبل أن يبتلع الفراغ كل شيء.
◄ لبنان لا يحتاج إلى زعيم جديد بل إلى جدارٍ يُعاد بناؤه من الفكرة لا من الصورة فالدولة التي تسقط لغويًا تسقط قبل أن تُقصف فالثقب لم يعد مجازًا بل واقعًا
لكنّ المأساة اللبنانية لا تقتصر على المسلسل. قبل أيام، جاء الواقع ليكرّر الصورة على نحوٍ أكثر فجاجة: تصريح السفير الجزائري في بيروت، كمال بوشامة، حين وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بـ”راعي البقر” و”المعتوه” الذي مكانه “مستشفى المجانين”. لم يكن ذلك زلة دبلوماسية، بل استمرارًا للمنطق نفسه الذي يحكم لبنان منذ عقود: الكلام بدل الفعل، والانفعال بدل الدولة.
إقالة السفير الجزائري من منصبه كانت فعلًا يُعيد الاعتبار لمعنى الجدار الذي فُقد في بيروت. الجزائر، بإقالتها السريعة، قالت ببساطة إن الدولة أقوى من الفرد، وإن المنصب ليس منبرًا شخصيًا، وإن الكلمة حين تخرج من سفير لا تمثل مزاجًا بل سيادة. أمّا لبنان، فبقي الجدار نفسه المثقوب: منبرٌ مفتوح لكل من يريد أن يُجرّب لغته أو يُصفّي حساباته على أرضٍ لم تعد تملك حدودها.
هكذا تتكامل الصورة والحدث: المسلسل قدّم الثقب كرمزٍ فني، والسفير الجزائري جسّده كواقعةٍ حية. بين الجدار المثقوب والموقف المنفلت، يتجلّى جوهر المأساة اللبنانية: بلد يتكلم فيه الجميع باسم الجميع، بينما يغيب الجدار الذي يضبط الأصوات ويُعيد تعريف السيادة.
ففي المشرق، الكلمة لا تسقط في الهواء؛ إنها شظية سياسية، تجرح الدولة قبل أن تُصيب الخصم. والبلدان الصغيرة التي تفقد جدارها السيادي، تفقد معها الحق في الصمت أيضًا. لبنان اليوم لا يتكلم لأنه قوي، بل لأنه لم يعد يملك جدارًا يصمت عليه.
من كانت منارة الشرق، صارت شاشة تُبثّ عليها أحلام الآخرين. ومن كان يُقدّم للعالم صوت الفكر، صار يُقدّم للعالم صدى الفوضى. وما لم يتعلّم لبنان أن يبني جداره الأول — لا أن يُبدّل صوره — فإن الثقب سيظل يبتلع كل وجهٍ جديد، وكل كلمةٍ تُقال.
لا يحتاج لبنان إلى زعيم جديد، بل إلى جدارٍ يُعاد بناؤه من الفكرة، لا من الصورة. فالدولة التي تسقط لغويًا، تسقط قبل أن تُقصف. والثقب الذي في الجدار لم يعد مجازًا، بل واقعًا يبتلع الحاضر والهوية معًا.