الاندماجات الحزبية في الأردن: تجميل المشهد وإعادة تدوير النخب

الأحزاب الصغيرة اندمجت لتنتج كيانات أكبر وأكثر قدرة على المنافسة وهو ما يُفترض أن يعزز المشاركة البرلمانية لكن الواقع يبرز وجهًا آخر والنتيجة كيانات تفتقر لهوية فكرية واضحة وثقة الشارع.
السبت 2025/10/18
اندماجات حزبية بلا برامج.. شكل بلا مضمون

في السياسة كما في الفلسفة، ليست الأشكال دائمًا دليلًا على الجوهر. يمكن للقوانين أن تُنشئ أحزابًا، وللاندماجات أن تنتج كيانات أكبر وأكثر تنظيمًا، لكن ما لم تتحول هذه البُنى إلى حامل حقيقي لنبض الشارع، فإنها تبقى قوالب فارغة تُعرض على واجهة النظام السياسي. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل الاندماجات الجارية هي ميلاد نظام سياسي جديد، أم مجرد تجميل تنظيمي يخفي هشاشة الداخل الحزبي؟

منذ أربع سنوات، مع انطلاق مسار التحديث السياسي، دخل الأردن مرحلة إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع. قانون الأحزاب المعدّل عام 2022 فرض شروطًا على التمثيل الجغرافي والعمري والنوعي، فواجهت الأحزاب اختبارًا صعبًا: تصحيح أوضاعها لتتماهى مع القوانين الجديدة أو الخروج من المشهد. النتيجة كانت اندماجات واسعة، من “الميثاق الوطني” إلى “الحزب الإسلامي الوطني” وصولًا إلى تحالفات مثل “التيار الديمقراطي”.

على الورق، يبدو المشهد صحيًا. الأحزاب الصغيرة اندمجت لتنتج كيانات أكبر وأكثر قدرة على المنافسة، وهو ما يُفترض أن يعزز المشاركة البرلمانية. لكن الواقع يبرز وجهًا آخر: كثير من هذه الاندماجات تمت على أساس الشخصيات أو النفوذ، لا على أساس البرامج. النتيجة: كيانات أكبر شكلًا لكنها هشّة جوهرًا، تفتقر لهوية فكرية واضحة وثقة الشارع.

الأحزاب ليست مجرد كيانات انتخابية، بل أدوات لبناء عقد اجتماعي جديد. وإذا لم تدرك هذه الحقيقة، فإنها ستتحول إلى "متحف حزبي": أسماء لامعة، لافتات جديدة، كيانات أكبر، لكن بلا جمهور، بلا هوية، وبلا روح

تحليل النظم الحزبية يكشف هنا أبعادًا مهمة. يمكن قراءة الحالة الأردنية ضمن النظم الحزبية المختلطة (Hybrid Party Systems)، حيث تتوزع الأحزاب بين طموح التمثيل الشعبي وارتباطها الوثيق بالدولة. هذا النمط، كما يوضح Katz & Mair في نظرية الكارتلات الحزبية، يحول الأحزاب إلى مؤسسات شبه حكومية، تحافظ على النظام أكثر مما تعبّر عن المجتمع.

بمعنى آخر، بدلًا من أن تكون الأحزاب وسيطًا بين الناس والدولة، تصبح وسيطًا بين الدولة والناس. هنا يكمن الخطر. إذا كان الاندماج مجرد وسيلة للتماهي مع القانون أو لضمان “القبول السياسي”، دون برامج اجتماعية واقتصادية حقيقية، فنحن أمام إعادة تدوير للنخب، لا تحديث حقيقي.

ما ينقص الأحزاب هو “الروح”، أي ذاك الرابط العضوي بين الحزب وقاعدة ناخبيه. الدرس واضح: الشكل لا يكفي، والمصالح وحدها لا تبني هوية حزبية مستقرة.

في الأردن، القانون الجديد أعطى دفعة للتنظيم وفرض تمثيل الشباب والنساء والمناطق، لكنه وحده لا يخلق الثقة. ما يخلق الثقة هو أن يرى المواطن حزبًا يُعبّر عن مشكلاته. أما إذا بقيت الأحزاب منشغلة بالوجاهة والمقاعد، فستظل تدور في حلقة مغلقة بعيدًا عن الشارع.

الدورة العادية الثانية لمجلس النواب تشكل اختبارًا حقيقيًا لجدية الأحزاب الجديدة وقدرتها على تمثيل الشارع أمام قوانين حساسة كقوانين العمل والضمان والضرائب.

مسار التحديث الذي أطلقته الدولة يشكّل فرصة تاريخية، لكن نجاحه مرهون بقدرة الأحزاب على الارتقاء إلى مستوى التحدي. فالمشكلة ليست في إرادة الدولة، بل في ضعف الأدوات الحزبية.

الأحزاب ليست مجرد كيانات انتخابية، بل أدوات لبناء عقد اجتماعي جديد. وإذا لم تدرك هذه الحقيقة، فإنها ستتحول إلى “متحف حزبي”: أسماء لامعة، لافتات جديدة، كيانات أكبر، لكن بلا جمهور، بلا هوية، وبلا روح.

إذا لم تتحول الاندماجات إلى برامج تعكس هموم الشارع، فإننا لا نؤسس لحياة حزبية بل نؤسس لمتحف حزبي: قاعات مليئة بلافتات جديدة، لكنها بلا جمهور.

6