كيف تخلت النخب الفلسطينية عن شعبها
تكونت إسرائيل على أيدي نخبة من المؤمنين بالصهيونية الذين وضعوا مواهبهم ومواردهم في خدمة مشروع تأسيس دولة لليهود، وجندوا من أجل ذلك اليهود أنفسهم وكل من حالفهم وناصرهم من القادة الاستعماريين أو ذوي الحنين إلى الفترة الاستعمارية في الغرب. وكان المشروع الصهيوني – ولا يزال – مشروعًا استعماريًا استيطانيًا، يهدف إلى إحلال شعب محل شعب آخر على أرض الشعب المسلوب. ووسائله إلى ذلك متعددة متنوعة، لا تستبعد الحيلة، والغدر، والإقصاء والطرد، عن طريق الإرهاب والتطهير العرقي والأرض المحروقة والإبادة الجماعية، كما رأينا ذلك يحدث عديد المرات في فلسطين ولا نزال نراه اليوم. وهي جميعًا وسائل تعلمها الصهاينة من أساتذة كبار في الاستعمار الاستيطاني، فقد سبقهم الغربيون إلى هذه الوسائل والتكتيكات في كل البلدان والأقاليم التي استعمروها، بداية مما أطلقوا عليه “العالم الجديد” (القارة الأميركية)، ومرورًا بأستراليا، والهند، وإفريقيا، وعديد البلدان الآسيوية.
لكن لنعترف مع ذلك بشيء مهم ساهم مساهمة فعالة في حصول الصهاينة على ما يريدون: وهو إيمان نخبهم بالمشروع إيمانًا شبه ديني، على الرغم من أن أكثرهم – كما نعلم – علمانيون، ولا سيما مؤسسو دولة إسرائيل وقادتها منذ سنة 1948 إلى اليوم. وقد استعملوا الدين اليهودي بالطبع، ولكن من أجل جلب اليهود المؤمنين، والحصول على دعمهم، والكثير منهم قادرون على تمويل المشروع وإغراء من يدعمه بالمال.
إسرائيل قامت على نخبة مؤمنة بمشروعها وظفت مواردها وعقولها في خدمة هدف استيطاني استعماري بينما النخب الفلسطينية تفرقت وانتظرت الآخرين ليقاتلوا عنها فضيّعت فرصة بناء دولتها
إن إيمان النخبة الصهيونية بقضيتها لم يهتز ولم يتزحزح قيد أنملة، بل ازداد قوة وصلابة بمرور الزمن، ولولا ذلك لما استطاعوا تأمين الدعم الغربي، حيث عملوا باستمرار على إقناع الزعماء الغربيين بشتى الوسائل – بما في ذلك المال – بأن دولة إسرائيل ستكون جزءًا من العالم الغربي الاستعماري في قلب العالم العربي الإسلامي. فأرسوا دولتهم على نفس الأساس الذي قامت عليه الدول الغربية الليبرالية: ديمقراطية في الداخل، وهيمنة في الخارج. لذلك، فإن استماتة الغرب في الدفاع عن إسرائيل منذ تأسيسها إلى اليوم هي في الواقع دفاع عن المشروع الغربي نفسه، بشقيه الليبرالي–الديمقراطي في الداخل، والاستعماري التوسعي في الخارج. والهدف الذي يتقاسمه الجانبان واحد: تمزيق العالم العربي والإسلامي، وبسط الهيمنة على هذه الشعوب بكل الوسائل، أي بالقوة العسكرية تارة، والدبلوماسية تارة أخرى.
مقابل ذلك، ماذا نرى في الجانب الآخر؟ ماذا فعلت النخب الفلسطينية منذ ظهرت المشكلة وبدأ الصراع بين الشعب الفلسطيني والصهاينة على أرض فلسطين؟
لقد انطلقت القضية الفلسطينية انطلاقة خاطئة أصلاً، تجلى ذلك في تولي الجيران العرب الأمر، بعد انتهاء الثورات الشعبية – ومنها ثورة عز الدين القسام – وعجز الفلسطينيين عن مقاومة الميليشيات الصهيونية الإرهابية المسلحة جيدًا من طرف حلفائهم الغربيين. وتجلى ذلك أيضًا في قيام دولة إسرائيل سنة 1948 واعتراف القوى التي تسيطر على مجلس الأمن الدولي بها، وعجز الفلسطينيين عن التكتل بالمثل وإعلان دولتهم على الجزء الذي خصصه لهم قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة سنة 1947، واعتمادهم بدلًا من ذلك على جيرانهم العرب الذين دخلوا حربًا ضد إسرائيل في 1948، لم تكن حربهم أصلاً، فخسروها.
كان على النخب الفلسطينية أن تجهز نفسها وشعبها للدفاع عن الأرض – على الأقل تلك التي منحها قرار التقسيم، إذا لم يكن بالإمكان استرجاع كامل فلسطين. ولكنها عجزت عن فهم الواقع الجديد الناشئ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والذي تتحكم فيه دول تعد على أصابع اليد الواحدة. وكان هذا الخطأ قاتلًا.
من البداية، فضلت النخب الفلسطينية الاعتماد على الزعماء العرب. وبذلك، ضللت شعبها وخانت قضيتها، لأن معظم الدول الأعضاء في الجامعة العربية كان يقودها زعماء تخرجوا في ميدان “حروب الاستقلال” التي لم يحارب فيها أحد بدلًا عن شعوبهم. وكذلك فعل قادة الصهيونية، فقد حشدوا اليهود وأتوا بهم من كل مكان للقتال وبناء دولة إسرائيل على ذلك الجزء الصغير في ذلك الوقت من فلسطين. وعلى الرغم من أن معظمهم يحملون جنسيات الدول التي أتوا منها، فقد فضلوا البقاء في الأرض التي حصلوا عليها بالسياسة والقوة.
النخب الفلسطينية رضخت للأمر الواقع العربي، وصدقت أن العرب سيحررون فلسطين، وبالتالي ليس عليهم أن يفعلوا شيئًا، سوى الجلوس في صالونات الفنادق الفخمة، بانتظار التحرير العربي الذي لم يأتِ إلى اليوم. كان أقل ما يمكن أن يفعلوه – في غياب الجاهزية القتالية في صفوف الفلسطينيين – هو القبول مؤقتًا بقرار التقسيم وإقامة الدولة الفلسطينية على الأرض المخصصة لها من طرف الأمم المتحدة. ولو فعلوا ذلك، لتجنبوا حربًا – بل حروبًا – خاضها العرب نيابة عنهم وخسرها الشعب الفلسطيني. فأي نخبة هذه التي تتخلى عن مشروعها الوطني وتعتمد على جيوش أجنبية لتحارب بدلًا عنها؟
المقاومة هي قضية الفلسطينيين. والاستقلال أيضًا، وقيام الدولة كذلك. وكل ما يأتي من الخارج في هذا السبيل، سواء كان دعمًا سياسيًا، أو شعبيًا، أو تمويلًا أو تسليحًا، لا يغني عن قيام الفلسطينيين بالاعتماد على أنفسهم
لو فعلت ذلك النخب في تونس والجزائر والمغرب الأقصى وليبيا ومصر والسودان… وفيتنام، وكمبوديا، والصين، وفنزويلا، وبقية أقطار أميركا اللاتينية، وإفريقيا جنوب الصحراء، لما تحررت من الاستعمار إلى اليوم. كيف يمكن لنخبة وطنية تواجه استعمارًا استيطانيًا على أراضي أجدادها أن تفوض أمر المقاومة وبناء الدولة لغيرها؟
الحقيقة أنه لا توجد أمة تحارب مكان أمة أخرى. الأنظمة السياسية سواء في السلم أو في الحرب مهتمة فقط بالدفاع عن مصالحها ومصالح شعوبها كما تراها. والمشاركة في الدفاع عن شعوب أخرى قد تحدث أحيانًا، ولكن ليس بدافع وطني، ولا بدافع الإيمان بالواجب، وإنما فقط بدافع المصلحة الإستراتيجية، والاقتصادية، والسياسية. نرى ذلك مثلًا في أوكرانيا، حيث يحتشد الغرب ضد روسيا، ولكنهم لا يرسلون جيوشهم لتحارب بدلًا عن الجيش الأوكراني. قد يساعدونهم، ولكن في حدود، لأنهم يعلمون أنهم سيضعون عواصمهم ومدنهم وشعوبهم كأهداف للصواريخ الروسية إذا دخلوا الحرب مباشرة. والأمثلة عديدة في التاريخ. وجميعها يدل على شيء واحد: لا يحرر الأرض سوى أصحابها. وبالتالي، ليس هناك من يمكن أن ينوب عن الشعب الفلسطيني في هذه المسألة رغم التعاطف العالمي اليوم معه.
المقاومة هي قضية الفلسطينيين. والاستقلال أيضًا، وقيام الدولة كذلك. وكل ما يأتي من الخارج في هذا السبيل، سواء كان دعمًا سياسيًا، أو شعبيًا، أو تمويلًا أو تسليحًا، لا يغني عن قيام الفلسطينيين بالاعتماد على أنفسهم.
الحقيقة المذهلة التي لا يمكن أن تغيب عمن يتابع القضية الفلسطينية منذ عقود، هي أن الشعب الفلسطيني لديه من العقول والإطارات والكفاءات ما يغنيه عن استيرادها من أي مكان. ولو اجتمعت هذه النخب من أجل المشروع الوطني الفلسطيني، داخل منظمة واحدة، كما فعلت كافة حركات التحرر الوطني في العالم، واضعة خلافاتها جانبًا من أجل تحقيق الهدف الأول – إقامة الدولة الوطنية ذات السيادة على أرضها، مستعملة نفس الوسائل التي استعملتها كل تلك المنظمات لتحقيقه – لكانت فلسطين حرة اليوم.
بدلًا من ذلك، ماذا نرى؟ فصائل تتقاتل فيما بينها، و”سلطة” عاجزة تعمل في “الوظيفة العمومية” لدى عدوها وتقبل الإملاءات دون أن ترفع صوتها، ونخبة من العلماء والمثقفين والجامعيين هاربة إلى بلدان الرفاهية، ترى ما يحدث في بلادها وهي أكثر عجزًا من “السلطة” الفلسطينية. كيف لا؟ إنهم يقومون بأقل مجهود ممكن لمساعدة شعبهم، الذي يُقتل ويُهان في كل لحظة، وهم يشاهدون ذلك على التلفزيون، من بيوتهم ومكاتبهم المكيفة في الولايات المتحدة، وأوروبا، وبلدان الخليج. ويظن بعضهم أنه إذا طلع على شاشة التلفزيون ليحلل الوضع أو كتب مقالة في مجلة محكمة لا يقرأها أحد، أو في صحيفة يومية، أو على موقع إلكتروني، فقد قام بواجبه. و”كفى الله المؤمنين شر القتال”.
قارن هذه المواقف بما فعلته وتفعله إلى اليوم النخب الصهيونية من أجل إسرائيل، وستفهم لماذا دخلت القضية الفلسطينية طريقًا مسدودًا من البداية.