هل يتحول مرموش إلى مجرد رقم في دفاتر غوارديولا

مستقبل غامض ينتظر المهاجم المصري.
الأحد 2025/09/14
نجم مصري يسير على درب الكبار

قصة المصري عمر مرموش ليست مجرد مسيرة كروية؛ إنها رواية عن الهوية في زمن العولمة، عن الفرد في مواجهة المنظومة، عن لاعب مصري يحاول أن يجد صوته في جوقة أوروبية صاخبة. هي، باختصار، مرآة لعصر كامل: حيث تتحول كرة القدم إلى مسرح تُعرض عليه كل تناقضات العالم المعاصر.

لندن - في لحظة تبدو وكأنها تنتمي إلى سردية تتجاوز حدود كرة القدم، يقف المصري عمر مرموش 7 فبراير 1999 (العمر 26 سنة)، على العتبة الدقيقة بين المجد والهشاشة.

لاعب وُلد من أحياء القاهرة الصاخبة، حمل أحلام شارع طويل، وتجاوز بوابات فرانكفورت، ليصل أخيرا إلى مدينة مانشستر التي تتنفس حجارتها القديمة بقدر ما يفيض ملعبها الأزرق بالحداثة والسلطة الرياضية. لكنه يقف هناك الآن، في قلب تجربة محفوفة بالمجازفة، حيث لا يكفي التألق العابر، ولا تشفع لحظة بريق عابرة أمام عقلية بيب غوارديولا التي ترى اللعبة باعتبارها لوحة معمارية محكمة، لا مجرد انطلاقة خاطفة أو هدف بعيد المدى.

هوية تبحث اعترافا

القاهرة، المدينة التي تتكدس فيها العمارة الإسلامية على أطراف طرق مزدحمة، تعطي لأبنائها حافز البقاء وسط الفوضى. مرموش ابن تلك الجغرافيا، تشرب منذ طفولته فكرة أن النجاة ليست خيارا بل شرطا يوميا للوجود. في المقابل، مانشستر مدينة أخرى، حيث المصانع القديمة التي تحولت إلى متاحف، وحيث الثورة الصناعية تركت بصمتها على الطوب الأحمر والجسور الحديدية.

هنا يتعلم اللاعب أن الانضباط هو عنوان البقاء، وأن الفرد ليس سوى ترس في آلة كبرى، سواء كانت مصنعا للغزل في القرن التاسع عشر، أو فريقا يقوده غوارديولا في القرن الحادي والعشرين.

بين هذين العالمينـ العفوية القاهرة والصرامة المانشستراوية ـ يتحرك مرموش. وفي هذا التوتر بالذات، تكمن الحكاية: كيف يمكن للاعب شرقي، تربى على رد الفعل السريع والهجمة المرتدة، أن يجد نفسه في منظومة تشترط الصبر، والدوران الطويل للكرة، والمراوغة الذهنية قبل الجسدية؟

قبل مانشستر، كانت فرانكفورت. مدينة المال الأوروبية، حيث الأبراج الزجاجية تتجاور مع الأزقة القديمة. هناك، وجد مرموش نفسه في فضاء يمنحه الحرية الهجومية: التحولات الخاطفة، المساحات الواسعة، اللحظة المباغتة. أرقامُه في نصف موسم مع آينتراخت فرانكفورت (20 هدفا، 14 تمريرة حاسمة في 26 مباراة) جعلته أحد أبرز المهاجمين في البوندسليغا. كان أشبه بعازف منفرد على مسرح يترك له المايسترو مساحة للارتجال.

◙ في فلسفة غوارديولا، الملعب أشبه بمدينة مثالية، حيث تتحرك التمريرات كما تتحرك العواميد في كاتدرائية قوطية: بدقة، بتوازن، وبحس معماري

لكن الانضمام إلى مانشستر سيتي، بتكلفة 70 مليون يورو، لم يكن انتقالا بين فريقين فحسب، بل عبورا من مدرسة موسيقية إلى أخرى: من الجاز الحر إلى السيمفونية الكلاسيكية. هناك، يصبح كل ارتجال خطرا على النظام، وكل لمسة زائدة تهديدا لانسياب القطعة كاملة.

في فلسفة بيب غوارديولا، الملعب أشبه بمدينة مثالية، حيث تتحرك التمريرات كما تتحرك العواميد في كاتدرائية قوطية: بدقة، بتوازن، وبحس معماري يرفض العبث. في هذا السياق، يصبح عمر مرموش ـ اللاعب الذي اعتاد الركض خلف مساحات مفتوحة ـ غريبا في مناخ لا يفتح مساحاته إلا نادرا، ويطلب من مهاجمه أن يكون مهندسا لا صيادا.

لقد أحرز 8 أهداف وصنع 3 مع السيتي في 25 مباراة، لكن معظمها جاء داخل ملعب الاتحاد، تحت سقف الجمهور الذي يحيط به بالأمان. خارج الديار، حيث البرودة الإنجليزية أكثر قسوة، لم يسجل سوى هدف واحد، وكأن غربته تتضاعف كلما ابتعد عن معقل الفريق.

ما لا يُقال عادة في تقارير المباريات هو أن اللاعبين يواجهون مدنا بقدر ما يواجهون خصوما. مرموش، حين يسير في شوارع مانشستر المبللة بالمطر، يواجه تاريخا لا ينتمي إليه: حانات مكدسة بوجوه إنجليزية، لهجات صعبة، ذكريات كرة محلية صنعتها أسماء مثل جورج بيست وكولين بيل. وهو، القادم من القاهرة، يحمل هوية مزدوجة: ابن أزقة مصرية حيث الشعبية تفرض نفسها، ولاعب محترف في أوروبا، حيث يصبح إثبات الذات شرطا أوليا للاعتراف.

سلعة أم أسطورة

هنا، تتقاطع الأسئلة حول الاندماج: هل يستطيع اللاعب العربي أن يتقمّص هوية أوروبية بالكامل؟ أم أن جسده يظل مشدودا إلى ذاكرة الشارع المصري، إلى أحلام الجماهير التي ترى فيه امتدادا لمحمد صلاح، وإلى وجدان شعبي يبحث عن بطل آخر في قارة تستهلك أبطالها بسرعة؟

في إنجلترا، الصحافة لا ترحم. بعد مباراة ضد توتنهام، هاجمت الجماهير قرار غوارديولا باستبداله المبكر. رأوا فيه عنصرا خطيرا، حتى وإن أهدر فرصا، وأبدوا قناعة بأنه يستحق مركزا مختلفا عن الجناح الأيسر الذي حبسه فيه المدرب. هذه المفارقة ـ بين رؤية الجماهير وإصرار غوارديولا ـ تضع اللاعب في دوامة لا مفر منها: بين حب الشارع وصرامة المدرّب، بين عاطفة الهوية وحسابات المعمار التكتيكي.

صفقة مرموش (70 مليون يورو) ليست مجرد رقم. إنها تعبير عن اقتصاد عالمي يرى في جسد اللاعب أصلا استثماريا. مثلما كانت مصانع مانشستر في القرن التاسع عشر تبحث عن يد عاملة رخيصة من المستعمرات، ها هي الأندية اليوم تستورد المواهب من الجنوب العالمي لتوظفها في ماكينة تسويق كونية. مرموش، بصفته المصري الثاني الذي يحقق إنجازات كبرى في البريميرليغ بعد صلاح، يصبح أيضا سلعة رمزية: صورة لافتة على شاشات الشرق الأوسط، مادة إعلانية للنادي في أسواق بعيدة.

في نفس مرموش، هناك معركة أخرى: معركة الثقة. حين أحرز جائزة “هدف الموسم” في البريميرليغ، من تسديدة بعيدة المدى ضد بورنموث، بدا كأنه يُعلن لنفسه: “ما زلت أملك ما يُميزني”. لكن هذا الهدف الاستثنائي، في قلب معركة يومية على دقائق اللعب، يتحول إلى سيف ذو حدين: فهو يعزّز صورته كلاعب لحظات كبرى، لكنه يذكره أيضا بأن تلك اللحظات نادرة.

◙ صفقة مرموش (70 مليون يورو) ليست مجرد رقم. إنها تعبير عن اقتصاد عالمي يرى في جسد اللاعب أصلا استثماريا

في وعيه الباطن، يلاحقه سؤال: هل سيصبح مرموش مثل رياض محرز ـ لاعبا لامعا ثم ضحية تبديلات غوارديولا؟ أم أنه قادر على كسر هذه اللعنة، وفرض نفسه مثل هالاند، كرقم لا غنى عنه؟

إن قراءة قصة مرموش لا تنفصل عن السياق الأكاديمي والمعرفي أيضا. في الجامعات الأوروبية، لطالما اعتُبرت كرة القدم مرآة للمجتمع: مختبرا للهويات، للطبقات، وللسياسة. مرموش، بهذا المعنى، ليس مجرد مهاجم؛ بل حالة دراسية عن التوتر بين الجنوب والشمال، بين اللاعب الفرد والمجتمع الصناعي، بين الحرية والصرامة. يمكن تخيل باحث في جامعة مانشستر يكتب أطروحة عن “مرموش كتمثيل للهوية ما بعد الكولونيالية في البريميرليغ.”

في المخيلة الشعبية المصرية، يظل محمد صلاح النموذج المهيمن: بطلٌ عالمي خرج من قرية نجريج ليصبح أسطورة ليفربول. أمام هذه الأسطورة، يبدو مرموش وكأنه يعيش في ظل مقارنة دائمة: هل سيكون “صلاح الثاني”، أم سيكتب سردية مختلفة، أقل اعتمادا على التهديف الغزير وأكثر على اللحظة الدرامية؟ حصوله على “هدف الموسم” كان بمثابة خطوة أولى لتأسيس أسطورته الخاصة، لكن الطريق طويل، والجماهير لا تصبر كثيرا.

من الملاحظ أن مرموش لم يترك بصمته في المباريات الكبرى ضد تشيلسي، آرسنال، ليفربول، ومانشستر يونايتد. في كرة القدم، كما في التاريخ، اللحظات الحاسمة هي ما تصنع الذاكرة. يمكن للاعب أن يسجل أهدافا عديدة ضد بورنموث أو شيفيلد، لكن الجماهير لن تحفظ اسمه إلا إذا دوّى في ليلة ضد عمالقة البريميرليغ. هذا الغياب في المحطات الكبرى يفتح باب الشك: هل هو لاعب لحظات صغيرة أم قادر على الصعود إلى قمة الملاحم؟

وراء كل مباراة، ثمّة خوف خفي: أن يجد اللاعب نفسه على مقاعد البدلاء، متحولا إلى رقم ثانوي في حسابات غوارديولا. هذه المخاوف ليست شخصية فقط، بل تعكس معاناة كثير من اللاعبين في عصر “المدرب ـ الفيلسوف” الذي يرى فيهم عناصر تكتيكية قابلة للاستبدال. في هذا السياق، يصبح مرموش رمزا لصراع أوسع: صراع الإنسان مع المنظومة، الفرد مع البنية، العاطفة مع العقلانية الباردة.

غربة تحت المطر

من المفارقة أن مشجعين كثيرين يأتون إلى مانشستر كما يذهبون إلى القاهرة: بحثا عن معالمها الكبرى. في القاهرة، الأهرامات؛ في مانشستر، ملعب الاتحاد. وحين يقف مرموش في هذا الملعب، يبدو كأنه صدى لرحلة سياحية عكسية: الأهراميين إلى الشمال الصناعي. هناك، يقف المصري في قلب أوروبا، مستدعيا معه تاريخا طويلا من التبادل الثقافي، من الرحلات التعليمية في القرن التاسع عشر إلى هجرة العمال في القرن العشرين.

يظل عمر مرموش مُعَلقا بين إمكانين: أن يصبح جزءا من سردية مانشستر سيتي الكبرى، فيكتب اسمه بجانب إيرلينغ هالاند وريان شرقي، أو أن يتحول إلى هامش في دفاتر غوارديولا، مثل أسماء كثيرة سبقت. ما سيحدّد مصيره ليس فقط عدد الأهداف، بل قدرته على أن يجد لنفسه مكانا في معمار لعبة لا تعترف بالصدف.

16