مراكز الفكر.. أداة ناعمة لتشكيل سياسات الصين في أفريقيا

مراكز الفكر أداة لتوجيه السياسات الأفريقية مستقبلًا، عبر إنتاج نخب فكرية وسياسية تتبنى النموذج الصيني كمرجعية.
الجمعة 2025/08/22
قوة ذكية

بكين- في إطار تمددها المستمر في أفريقيا لم تعد الصين تكتفي بالاستثمارات الاقتصادية وبناء البنية التحتية، بل أصبحت تعتمد بشكل متزايد على أدوات القوة الناعمة، وعلى رأسها مراكز الفكر، لتشكيل السياسات والخطابات في البلدان الأفريقية بما يخدم رؤيتها ومصالحها الجيوسياسية.

وأصبحت هذه المراكز، التي تتخفى تحت عباءة تبادل الأفكار والتعاون الأكاديمي، منصة إستراتيجية لترويج النموذج الصيني في الحكم والتنمية، وتدعيم حضور الحزب الشيوعي الصيني في الفضاءات الفكرية والسياسية الأفريقية.

ومنذ إطلاق منتدى مراكز الفكر الصينية – الأفريقية في عام 2011، والذي جمع مندوبين من 27 دولة أفريقية، نظّمت الصين 13 دورة لهذا المنتدى كان آخرها في مايو الماضي بمدينة كونمينغ.

ويُعدّ هذا المنتدى امتدادًا مباشرًا لسياسات الصين في تصدير رؤيتها التنموية، وتكريس فلسفة “الحزب قائد الدولة”، في تجاهل شبه تام للتعددية الفكرية أو النقاش النقدي المفتوح.

منتدى مراكز الفكر الصينية – الأفريقية يُعد وسيلة إستراتيجية لتشكيل وعي النخب وتوجيه السياسات

ويشير المحلل سمير بهاتشاري إلى أن هذه المنتديات تنظمها جهات رسمية صينية، وتُترك فيها مساحة محدودة للنقاش الحقيقي، ما يؤدي إلى تبني خطاب أحادي يروّج لنموذج التنمية الصيني بوصفه النموذج الأمثل.

ويظهر هذا التوجّه أيضاً في توسع معاهد “كونفوشيوس” المنتشرة في مختلف أنحاء القارة، والتي تُقدَّم باعتبارها مراكز لتعليم اللغة والثقافة الصينيتين، لكنها في واقع الأمر تسهم في ترويج رؤية الصين السياسية والثقافية، وتتعرض لانتقادات متكررة تتعلق بغياب الشفافية ودورها الدعائي.

ويعتبر رئيس معهد سياسة أفريقيا بيتر خاونجا أن المنتدى يخدم أربعة محاور رئيسية في الإستراتيجية الصينية تجاه أفريقيا؛ وتتمثل في السلام التنموي، والتنمية والتعاون، والاستثمار في البنية التحتية، والأهم “الدبلوماسية بين الشعوب” التي تعزز النفوذ الصيني على النخب الفكرية والأكاديمية الأفريقية.

وجاء في تقرير نشره منبر الدفاع الأفريقي أن هذه المؤسسات تندمج في شبكة واسعة تهدف إلى إعادة تشكيل مراكز اتخاذ القرار والنخبة الفكرية في أفريقيا، بما يعزز النفوذ الصيني طويل الأمد.

ويشير الباحث في معهد جون بروكلين يان سان إلى أن منتدى مراكز الفكر الصينية – الأفريقية يُعد وسيلة إستراتيجية لتشكيل وعي النخب وتوجيه السياسات.

ولا يقتصر الأمر على التأثير الثقافي والفكري فحسب، بل يشمل أيضًا بُعدًا أمنيا وعسكريا يتمثل في تمويل الصين لمؤسسات تدريب القيادات العسكرية الأفريقية على غرار الحزب الشيوعي، كما في “مدرسة مواليمو جوليوس نيريري للقيادة” في تنزانيا، حيث يتم تدريب ضباط عسكريين وفق فلسفة تدمج الولاء الحزبي في العقيدة الأمنية، وهو تكريس لفكرة أن “الحزب هو من يملك السلاح”، على الطريقة الصينية.

ويتكامل هذا التوجه مع إستراتيجية الصين في التعامل مع الأنظمة الانقلابية، كما ظهر في ترحيبها خلال قمة بكين 2024 بانضمام دول مثل مالي وغينيا والنيجر والسودان، رغم تعليق عضويتها في الاتحاد الأفريقي.

وقد أثار هذا الموقف استياءً مكتومًا لدى بعض المشاركين الأفارقة، إذ اعتُبر تجاهلًا لمعايير الشرعية الدستورية، وذريعة لتطبيع الحكم العسكري تحت غطاء التعاون التنموي.

وفي المقابل تبرز دعوات داخل أفريقيا لإعادة النظر في هذا النمط من العلاقات مع الصين، من خلال التكتل الإقليمي وتفعيل مؤسسات مثل الاتحاد الأفريقي ليكون وسيطًا تفاوضيًا في العلاقات مع القوى الكبرى.

ويوصي محللون بضرورة تنويع الشراكات الدولية، وتعزيز النمو الاقتصادي الذاتي، والعمل عبر اتفاقيات إقليمية مثل منطقة التجارة الحرة القارية، من أجل تقليل التبعية للصين أو غيرها من القوى الطامحة إلى النفوذ.

وفي ظل تراجع الحضور الغربي في بعض الملفات الحيوية داخل القارة الأفريقية، وعلى رأسها مجالات التعليم والتكوين وبناء القدرات المؤسساتية، برزت الصين كلاعب بديل يمتلك قدرة تنظيمية وإستراتيجية أعلى على ملء هذا الفراغ.

pp

وبينما ظلّ الحضور الغربي في أفريقيا تقليديًا ومرهونًا بـ”المبادرات الفردية” والبرامج التنموية المقيّدة بشروط سياسية أو معايير ديمقراطية، تبنّت بكين نهجًا أكثر براغماتية واستمرارية، يقوم على بناء شراكات طويلة الأمد مع النخب الأفريقية من دون الدخول في المسائل السياسية أو القيمية.

وتتمثل قوة النموذج الصيني في قدرته على التغلغل الصامت والمنهجي داخل البنى الأكاديمية والإدارية للدول الأفريقية. فبدلًا من تمويل مشروعات قصيرة الأجل أو تقديم مساعدات إنسانية ظرفية، ركّزت الصين على الاستثمار في إنتاج نخب فكرية وأكاديمية محلية تتبنّى سرديتها، وتُشكّل لاحقًا طيفًا مؤثرًا في عملية صنع القرار داخل بلدانها. وتُوفّر المنح الدراسية وبرامج التدريب وورش العمل ومنتديات التبادل الفكري الأدوات اللازمة لغرس “النموذج الصيني” بشكل غير مباشر في بلدان القارة الأفريقية.

وتبدو اللامشروطية السياسية في العروض الصينية عامل جذب إضافيا لحكومات ونخب تسعى إلى الاستفادة من الشراكات الدولية من دون تدقيق خارجي في قضايا الحوكمة أو حقوق الإنسان أو الشفافية. وهذا ما يجعل العروض الصينية تبدو في ظاهرها أكثر جاذبية مقارنة بالنموذج الغربي، الذي غالبًا ما يُرفق مساعداته بطلب إصلاحات سياسية أو اقتصادية.

غير أن هذه المرونة الظاهرية تُخفي في طياتها أبعادًا إستراتيجية أعمق؛ فالصين، من خلال تراكم النفوذ عبر النخب المُكوّنة وفق رؤيتها، تخلق شبكة ولاءات ناعمة تمتد إلى مراكز صنع القرار والإعلام والتعليم والأمن، ما يمنحها تأثيرًا طويل الأمد ولا يحتاج إلى تدخل مباشر أو مواجهات دبلوماسية.

ويُحذّر بعض الباحثين من أن هذا النهج قد يُفضي على المدى البعيد إلى تراجع استقلالية القرار السياسي والفكري في أفريقيا، خاصة إذا غابت الآليات المحلية لمراجعة الخطابات الواردة من هذه الشراكات أو إنتاج سرديات مضادة. وبدلًا من تعزيز التعددية الفكرية، قد تجد القارة نفسها أمام نمطٍ أحادي ومستورد يعيد صياغة رؤيتها لذاتها وللعالم، بشكل يخدم أجندات خارجية تتخفى خلف مفاهيم التنمية والشراكة.

7