حسان عزت كتب الشعر كما تُكتب الرسائل الأخيرة

الشاعر الذي غيّبه الموت ستبقى قصائده مساحة مقاومة.
الثلاثاء 2025/07/29
شاعر لم يكتب كي يُدهش، بل كي يعيش

مثلت قصيدة النثر في سوريا موقفا فكريا وإنسانيا قبل أن تكون تحديا جماليا، ومن هنا نفهم تلك النبرة الحارقة التي امتاز بها شعراء هذه القصيدة من السوريين، وهم يعالجون الهامشي بهدوء وصدق. من هؤلاء الشاعر حسان عزت الذي رحل عن عالمنا منذ أيام، مخلفا تجربة استثنائية في قصيدة النثر.

حين يُذكر اسم الشاعر السوري حسان عزّت، لا نستحضر مجرد كاتب كلمات أو شاعر دأب على نظم الحروف، بل نستعيد حياة كاملة من الشعر والمقاومة والجمال المجروح. هو ليس سيرة ذاتية تُروى على عجل، بل مصباح معلق في زاوية الروح العربية الحديثة، يتوهج من فرط العتمة.

منذ ولادته في دمشق عام 1949، إلى رحيله في أبوظبي في 22 يوليو 2025، كتب عزّت حياته كما يُكتب الشعر: ببطء، بعناد، وبالكثير من الألم.

ورد.. موت ومقاومة

ولد حسان في دمشق، العاصمة التي تلد الشعراء كما تلد مواجعها. كانت المدينة حينها تختبر توازناً هشّاً بين لحظات حلم ديمقراطي ومشانق تنصبها الأنظمة المتعاقبة باسم الوطن. هناك، في أزقتها التي تفوح بالبخور والعسف، تنفّس الطفل نكهة الأمكنة: حجارة أسواقها، نوافير مدارسها، صمت الجوامع، وضجيج السياسة. لقد أخرجته المدينة إلى الحياة كما تُخرج القصيدة من فم شاعرها: محمولة على شهقةٍ من الخوف والرجاء.

في دمشق، تعلّم أن الذاكرة ليست أداة حنين، بل قيد ناعم يربط الإنسان بما لا يُنسى. درس الأدب العربي في جامعتها، وكان منذ البداية ينظر إلى الشعر ليس كمأثرة بيانية، بل كفعل وجود. لم يكتب كي يُدهش، بل كي يعيش. لم يسعَ وراء المجاز، بل وراء الحقيقة من خلال المجاز.

منذ ديوانه الأول “شجر الغيلان في البحث عن قمر” (1981)، أعلن عزّت أن القصيدة ليست زينة، بل مقاومة. في هذا العمل الأول، لجأ إلى الأسطورة، لا بوصفها حيلة بلاغية، بل كمرآة رمزية تعكس واقعاً منهكاً بالاضطهاد السياسي. “شجر الغيلان”، هذه الكائنات الأسطورية التي تطارد القمر، ما هي إلا إسقاط على الشاعر السوري المُطارَد، والذي يبحث عن نور لا يُطال.

لم تكن كتابته رومانسية وإن عبّرت عن الحب. لم تكن سياسية وإن تفجرت غضباً على السلطة. كانت كتابةً من معدنٍ آخر: معدن الإنسان المجروح الذي يصرّ على الخلق في وجه القبح. في دواوينه اللاحقة، مثل “تجليات حسان عزت” (1983)، و”زمهرير” (1985)، تتبدى بلاده كأنثى مغتصبة، والقصيدة كطفل يولد من رحم الذكرى والدم.

“زمهرير” ليس مجرد عنوان؛ إنه جوهر رؤية عزّت للكون: الجمال مهدد دوماً، والحقيقة تُعاقب، والكاتب يعيش على هامش النار. في قصائده، تتكسّر اللغة كما تتكسر المرايا في بيت مهجور. ولكن ما يُثير الدهشة أن هذا التكسير لم يكن هدماً، بل كان إعادة تركيب للمعنى في مواجهة العبث.

مع ثلاثيته الأشهر “جناين ورد” (1998)، “مجنون الورد” (2000)، و”حواري الورد” (2002)، منح عزّت للورد لغة جديدة. لم يعد الورد عنده رمزاً للجمال فقط، بل صار كائناً يُعذَّب، يُسحق، ويُنسى. كان الورد عنده صورة عن الشاعر نفسه، عن الإنسان السوري، عن الوجود المُحبّ والمرذول في آن.

والتفصيل الأكثر إيلاماً، وربما أكثر كشفاً، أن غلاف “جناين ورد” حمل رسمة لابنته الطفلة “إيفا” ـ أو “حواء” كما كان يسميها ـ التي توفيت لاحقاً عام 2022. رسمتها حين كانت في السادسة، وتحوّلت لاحقاً إلى فنانة تشكيلية مرهفة، قبل أن يخطفها الموت فجأة. لقد صارت الوردة رمزاً للفقد الشخصي، كما كانت رمزاً للمأساة الجماعية. وكلما كتب عنها، كان يحفر في جسده حفرة جديدة، لكنّه يزرع فيها ضوءاً.

في ديوانه الأخير “سباعية خلق” (2021)، بدا الشاعر وكأنه يُهيّئ نفسه للغياب. كتب عن الخلق والكتابة والمدن والذاكرة، كما يكتب مَن يُعدّ حقيبته الأخيرة. كان يطل من شرفة الشيخوخة والمرض، لكنه لم يكن يتنكر للحياة. كان يحتضنها ـ حتى بجنونها ـ ويستخرج منها ما يصلح لأن يُقال في لحظة النهاية. تلك اللحظة التي يهمس فيها الإنسان: لقد كنت هنا، فاشهدوا.

مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، لم يساوم عزّت، ولم يهادن. كان من أوائل من كتبوا ضد “النظام الثنائي الوحشي”، ورفضوا الاستبداد الذي يحاصر الحياة ويصادر الحلم. غادر بلاده، لا فراراً من خطر، بل حفاظاً على صوته. حطّ رحاله في الإمارات، حيث انغمس في الصحافة الثقافية، وشارك في تأسيس مجلات ومنصات مثل “المنارة”، “إنفينيتي”، و”المطهر”، وأسهم في إنشاء “بيت الشعر” واتحاد الكتّاب الإماراتيين.

ومع ذلك، لم يكن المنفى بالنسبة إليه خيمة استقرار، بل كان أرضاً جديدة للقلق والحنين. ظل يكتب عن دمشق كما تُكتب الحبيبة الغائبة. قال لأصدقائه ذات مرة: “كفّنوني بالماء… الماء وطني”. وكان يعني بذلك أن الوطن لم يعد أرضاً، بل إحساساً. والماء، في طهارته وحياده، هو النقيض لكل ما لوّثته السياسة.

في المنفى، حمل عزّت ألمه كوشاح، وواصل الكتابة رغم مرض السرطان الذي استنزف جسده ببطء. لم يكن الألم عنده خصماً، بل شريكاً في الإبداع. كتب عن جسده الذي يحترق، كما كتب عن بلده الذي يُسحق. وحين فقد ابنته، لم يسقط في صمت القنوط، بل حوّل الفقد إلى طاقة داخلية مضيئة. ظل يُحادثها في شعره، يُناديها كأنها لم ترحل. لم يكن يعترف بالفناء، بل يُعادِل الحياة بالمحبة، بالقصيدة، بالضوء.

كتب حسان عزت الشعر كما تُكتب الرسائل الأخيرة: بنبرة هادئة، بصدق موجع. لم يتورط في البلاغة المجانية، بل سعى لأن تكون كلمته كالسهم، خفيفاً ومميتاً. كتب: “وإن عذبنا الجلاد… فستحيا سورية”، ولم يكن شعاراً سياسياً، بل تعبيراً عن إيمان داخلي لا يتزحزح: بأن الإنسان أقوى من جلاده، وأن القصيدة أقوى من الرصاصة، ولو بعد حين.

ضوء في الرماد

لم يكن عزّت ينتمي إلى تيار شعري واحد، لكنه يُعد من رموز قصيدة النثر السورية، تلك القصيدة التي لم تكن شكلاً، بل موقفاً. في مواجهة القوالب، اختار عزّت الحرية. في مواجهة الصمت، اختار الكلمة. وفي مواجهة الدكتاتوريات، اختار أن يكون شاهداً.

ولأن الشعر عنده لم يكن هواية، بل نمط حياة، فقد تداخل مع المسرح، مع الموسيقى، مع اللوحة، ومع الهواء نفسه. شارك في أعمال مسرحية مثل “احتفالية للشمس” مع الفنان غسان مسعود، وكانت تلك التجربة مرآة أخرى لوعيه: الشعر كفعل جماعي، يتقاطع فيه الصوت مع الصورة مع الجسد.

حتى آخر لحظة، لم يكن حسان عزّت يئنّ، بل يسرد. يسرد وجعه كما يُسرد التاريخ: بلا زيف. كان صوته حنوناً، يفيض محبة، وكلمته ـ كما وصفها أصدقاؤه ـ “مضيئة كمصباح، حادة كنصل.” حتى أعداؤه، حتى أولئك الذين حاولوا إسكات صوته، لم يجدوا فيه سوى شرف الموقف.

كان عضواً في لجان تحكيم عدة، ومشاركاً في مهرجانات عربية وعالمية، من بينها “جائزة محمد بن راشد لشعراء السلام”. وتُرجمت أعماله إلى لغات متعددة، ودرّست نصوصه في جامعات عربية وأوروبية، بينها جامعة مدريد، التي خصصت رسالة دكتوراه كاملة عن شعره.

لكن التكريم الأكبر، في نظره، كان في أن تبقى الكلمة حرة. لم يكن يسعى إلى الجوائز، بل إلى النقاء. لم يكن طموحه أن يُتوج، بل أن يُصدّق.

في الثاني والعشرين من يوليو 2025، رحل حسان عزّت. غادر الحياة كما كان يكتبها: بصمتٍ حارّ، وبحضورٍ لا يُلغى. نعته وزارة الثقافة السورية، ووعدت بتكريمه. نعاه أصدقاؤه وقراؤه ومحبّوه. لكن الحقيقة البسيطة هي أن حسان لم يرحل. لأن الشاعر، حين يكتب من جوف الحريق، لا يُغادر… بل يتحوّل إلى ضوء.

كتبوا عنه، رثوه، بكوه. قالت ميادة مصطفى كيالي “قاوم المرض بصبر الشعراء… تبقى كلماته شاهدة على شاعر عاش الشعر نبضاً ووجعاً.” وكتب محمد منصور “أقسى ما في موت حسان عزّت أنه لم يعد إلى دمشق كما كان يتمنى، ولم يُدفن في تراب المليحة التي أحب.” وقال فهر الشامي “يا لروحك النبيلة… وقفت شامخاً في وجه أعتى آلة إجرام.”

في كل هذه الكلمات، لم يكن هناك رثاء تقليدي، بل اعتراف: هذا الشاعر كان حرّاً. كان نزيهاً. وكان إنساناً يُحسن أن يُحبّ.

يبقى حسان عزّت ضوءاً في الرماد. ضوءاً لا يطفئه الموت، ولا يغطيه التراب. لا لأنه كان شاعراً عظيماً فحسب، بل لأنه عرف أن القصيدة لا تُغيّر العالم، لكنها تمنعنا من التوحش فيه.

سيبقى صوته في زمهرير، في جناين ورد، في صوت سميح شقير وهو يغني “لي صديق من كردستان”، سيبقى وجهه في كل وردة تُسحق، وفي كل جملة تُقال رغم الرعب.

هو ابن القصيدة، وابن الوردة، وابن الثورة. وإن عذبنا الجلاد… فستحيا سورية.

12