"حانة الفولي بيرغر" اللوحة التي أسست للفن الفرنسي المعاصر
تشهد لوحة "حانة الفولي بيرغر" على جزء من تاريخ فرنسا في القرن التاسع عشر، وإبداع رسامها إدوارد مانيه، الذي مزج الواقع بالحلم بريشةٍ جريئة ونظرة متمرّدة، كانت أشبه بمرآة عاكسة للزمن الباريسي، حيث يصير الصمت حديثا، وتبوح الألوان والشخوص والأمكنة بالكثير عن حقب زمنية مضت.
في عام 1882 أنجز الرسام الفرنسي إدوارد مانيه (1832 – 1883) لوحتهُ الشهيرة “حانة الفولي بيرغر” أي قبل عام واحد من وفاته وهي عبارة عن لوحة لامرأة تعمل ساقية في بار (حانة) مسرح الفولي بيرغر الشهير وسط باريس في القرن التاسع عشر.
هذه الحانة الشهيرة كان يرتادها أثرياء المدينة ونبلاؤها للسهر فيها. وتظهر اللوحة النادلة التي اسمها الحقيقي سوزان وهي ساهمة وتقف عند المائدة – التي اصطفت عليها زجاجات الشمبانيا والنبيذ وصحن من الفاكهة – بكامل أناقتها حيث ترتدي فستاناً مخملياً أسود ياقتهُ من الفرو الرمادي وقد علقت حول عنقها قلادة ولباسها الأنيق.
كل هذا يدل على أرستقراطية المكان الذي تعمل فيه النادلة والتي لا تنتمي إليه معنويا ولا يشبهها لذلك نرى غربتها في نظراتها الساهمة وشرودها والدليل أن أحد الزبائن يكلمها وهي شاردة لا تصغي إليه. نرى ذلك في المرآة الكبيرة الموجودة خلف ظهرها التي تظهر فيها مائدة المشروبات التي تقف عندها سوزان والزبون الذي يكلمها ويظهر فيها أيضاً رواد المسرح من النبلاء وثريا كريستالية ضخمة تتدلى وسط الصالة التي تتألف من طابقين حيث نرى في المرآة الزبائن الذين جلسوا في شرفة الصالة، فنرى امرأة تحمل منظارا لترى الاستعراض الذي يجري على المسرح على ما يبدو.
وتعد لوحة “حانة الفولي بيرغر” من أشهر اللوحات الانطباعية وأشهر لوحات مانيه رغم رسمه العشرات من اللوحات غيرها خلال حياته، إلا أن اسمه ارتبط ارتباطا وثيقا بهذه اللوحة التي ختم بها حياته الفنية وتوفي بعد رسمها بعام.
بداية واقعية
◄ لوحة "أورجنتويل"
بدأ إدوارد مانيه حياتهُ المهنية متأثرا برائد المدرسة الواقعية غوستاف كوربيه الذي يعتبره أستاذه وملهمه، فقد تأثر كثيرا في بداياته بأعمال كوربيه الواقعية، بل وزاد عليه بواقعيته المفرطة حيث دعا الرسامين الشباب مثلهُ للخروج من المرسم إلى الهواء الطلق وقد شبه مانيه أستوديو الرسم بالقبر حيث قال “عندما أصل إلى المرسم فكأنني أدخل قبرا.”
وكان عقد الستينات في القرن التاسع عشر بالنسبة إليه عقد الذروة الفنية الواقعية حيث بدأه بلوحة “المغني الإسباني” عام 1860 أو “عازف الجيتار”، وهي لوحة لرجل يجلس على مقعد خشبي ويعزف على الجيتار وينظر جهة اليمين وكأنه جالس في أستوديو مصور فوتوغرافي من ذاك الزمان وقد طلب منه المصور أن يأخذ تلك الوضعية فالتصنع ظاهر في اللوحة التي عرضت في صالون باريس عام 1861، ونال بسببها مانيه لقب الشرف.
أما لوحتهُ الشهيرة الأخرى “الموسيقى في حديقة التويلري” عام 1862، والتي يظهر فيها علية القوم والطبقة الأرستقراطية الباريسية يحضرون حفلا موسيقيا في إحدى حدائق قصر اللوفر الشهير وقد ظهر فيها صديقهُ المقرب حينها الشاعر الفرنسي بودلير – الذي ظهر في إحدى لوحات كوربيه قبله – الذي قال عن مانيه مبديا إعجابهُ الكبير بفنه “إنه الفنان، الفنان الحقيقي الذي استطاع أن يرينا ويفهمنا كم نحن عظماء وشعراء حتى ونحن نضع ربطات العنق ونلبس الجزمات الملمعة” في إشارة منه إلى المجتمع المخملي الذي ينتمي إليه.
وفي العام 1863 رسم مانيه اللوحتين اللتين أطلقتا شهرتهُ وكانتا بمثابة الفضيحة لهُ في حينها وأظهرتا مدى تأثره بطباع معلمه كوربيه الجريئة والمتمردة على الحياء، حيث رسم لوحة “غداء على العشب” وهي لوحة لفتاة عارية تجلس على العشب مع رجلين يرتديان ملابس ذلك العصر وأحدهما من النبلاء – يظهر ذلك من لباسه – ويبدو أنهم في نزهة بأحد الغابات وبقربهم سلة من الفاكهة وينظرون باتجاه شخص يبدو أنه ظهر فجأة في المكان ليقاطعهم.
كانت هذه اللوحة الجريئة التي تصور العري الأنثوي بمثابة الفضيحة في حينها للرسام حتى أن إمبراطور فرنسا حينها، نابليون الثالث، قد قال حين شاهدها “إنه يهاجم الخفر والحياء” – يقصد مانيه – ومنعت من العرض، لتعرض لاحقا في صالون المرفوضين. أما لوحتهُ الثانية التي صور فيها العري النسائي ذلك العام فهي “أولمبيا” وهي عبارة عن بورتريه لامرأة عارية ممدة على السرير وبقربها امرأة سوداء تحمل باقة من الزهور لتعطيها للمرأة التي تكون قد وصلتها من عشيق أو أحد الزبائن والمرأة تنظر باتجاه شخص ما وكأنها تنظر باتجاه مصور فوتوغرافي يريد التقاط صورة لها.
استوحى مانيه لوحته هذه من لوحة تيتيان، رسام البندقية، “فينوس من أوربينو” عام 1538، وشكلت عند عرضها فضيحة مدوية لمانيه، فضيحة أكبر من فضيحة “غداء على العشب”. بعدها بعامين رسم لوحة من أجمل لوحاته وهي “السباق في لونكشامب” عام 1864 حيث يصور فيها خيولا تتسابق في المضمار والناس تشاهدها، وبدأت بذور الانطباعية تظهر على أعماله بدءا من هذه اللوحة، إلى جانب لوحة أخرى تسمى “إعدام الإمبراطور ماكسيميليان” عام 1867.
أما أشهر لوحات مانيه وأجملها في عقد الستينات من ذلك القرن فهي لوحة “الشرفة” عام 1868، وهي عبارة عن امرأتين تجلسان على شرفة أحد الفنادق، إحداهن جالسة تنظر إلى الشارع والأخرى واقفة بقربها وخلفهما رجل بكامل أناقته وكأنه خادمهم أو منسق أعمالهما.
المرحلة الانطباعية
◄ بصمة متميزة في الفن التشكيلي الفرنسي بسبب التناقض في خط مانيه الفني الأمر الذي خلد اسمه كفنان كبير
في العام 1874 شارك مانيه في المعرض الذي أقامهُ كلود مونيه وأوغست رينوار وبول سيزان وأصدقاؤهم في أستوديو المصور نادار في باريس، حيث شارك مانيه بعدة لوحات لهُ في هذا المعرض ومن أشهرها “السكة الحديد” عام 1873 أو “محطة سان لازار”، حيث يصور فيها امرأة جالسة على حرف حجري تستريح وتستند على السياج الحديدي الذي يفصلها عن محطة القطارات وتحمل في يدها كتابا مفتوحا، وجروا صغيرا ينام في أحضانها وبقربها ابنتها الصغيرة تشاهد من خلال السياج الحديدي القطارات التي تمر في الأسفل. أما اللوحة الثانية التي عرضها فهي “أورجنتويل” رسمها عام 1874، وهي لرجل وامرأة يبدو أنهما عشيقان يجلسان عند مرسى السفن في المرفأ الصغير والمرأة تحمل في يدها وردة حمراء يبدو أن الرجل أعطاها إياها والواضح من لباسه أنه أحد الصيادين في ذلك الميناء الصغير.
من بعد هذا المعرض الذي سمّي بمعرض الانطباعيين نسبة للوحة كلود مونيه “انطباع شروق الشمس” أصبح مانيه ينتمي إلى المدرسة الانطباعية بعد أن كان في السابق منتميا إلى المدرسة الواقعية.
وتجدر الإشارة إلى أن مانيه ولد في باريس لعائلة برجوازية حيث كان والده مستشارا عدليا في أحد المحاكم العليا وأمه ابنة أحد الدبلوماسيين الذين خدموا عند نابليون الأول حيث كان قنصلا في عهده الأمر الذي جعل مانيه صديقا للأوساط الأرستقراطية ومشاهير الفن والأدب والسياسة في زمانه، مانيه الذي كان يرغب في البداية أن يصبح بحارا لكنه رُفض في اختبارات الكلية البحرية مرتين فقرر دراسة الفن وبدأ في مرسم توماس كوتور وقضى لاحقا معظم وقتهُ في متحف اللوفر يحاول نسخ لوحات أهم الفنانين كروبنز وديلاكروا الذي شجعه كثيرا في بدايته.
كان مانيه جريئا وصاحب شخصية قوية وشجاعة الأمر الذي جعل الفنانين الشباب يلتفون حوله، كما وطد صداقة مع بودلير شاعر فرنسا الكبير الذي كان في حينها ناقدا فنيا وصحافيا، كما جمعتهُ صداقة بالأديب إميل زولا وساعدتهُ أصوله الأرستقراطية في مصادقة السياسيين الكبار.
وترك مانيه بصمة متميزة في عالم الفن التشكيلي الفرنسي بسبب هذا التناقض في خطه الفني الأمر الذي كرّسه وخلّد اسمه كفنان كبير.