نساء غير النساء
"كتبتُ، كتبتُ.. فلم يبق حرفُ.. وصفتُ، وصفتُ.. فلم يبق وصفُ.. أقولُ، إذا، باختصار وأمضي: نســاءُ بلادي نسـاءٌ.. ونصفُ"، لم أجد أفضل من كلمات الشاعر التونسي الراحل الصغير أولاد أحمد لأصف نساء بلادي، نساء تونس، وتحديدا نساء تونس الريف والمناطق الداخلية، في عيدهن العالمي، الذي يحتفي بجهود المرأة الريفية وما تقدمه للوطن من خيرات كي يستمر ويحيى.
يحل هذا اليوم العالمي الذي عادت ما يمر مرور الكرام في الخامس عشر من أكتوبر كل عام، ليذكر بجهود نساء يجتهدن ليكن فاعلات في مجتمعاتهن الصغيرة والموسعة، يجتهدن عادة في زراعة الأرض وجني خيراتها، وفي الحفاظ على الحياة البيئية بكل أوجهها، بعيدا عن سطوة المدن وحضارتها الزائفة أحيانا.
لا تشبه المرأة الريفية نساء المدن، رغم كل ملامح التحضر التي يفرضها الانفتاح التكنولوجي والتطور، هي امرأة لا تزال تعاني في بعض الأحيان من نظرة دونية، ككل أهل الريف، رغم أنها فاعلة في المجتمع، وفق خصوصية مطلقة تفرضها البيئة والجغرافيا والمجتمع، إنها امرأة مثابرة ومميزة رغم كل الظروف المعيقة لها، بدءا من قيود العادات والتقاليد وصولا إلى الثقافة المنغلقة ومحدودية الموارد المادية وصعوبة البيئة الجغرافية.
المرأة الريفية امرأة تنوع مهاراتها التي اكتسبتها عبر الأجيال، فهي لا تقتصر على الزراعة فقط، بل تتقن صناعة الفخار، وحياكة الملابس، وصناعة النسيج التقليدي بأنواعه، امرأة أمهلتها الحياة فرصة لتُجيد التعامل مع أمنا الأرض بحب وخبرة، تزرع وتحصد وتعتني بالمحاصيل، وفي الوقت نفسه تأخذ من الطين ما تصنع به أدواتها اليومية، وتخيط من خيوط الصوف ما يستر الأجساد ويزين أرضيات البيوت ويحمي بني البشر من القيض والبرد. وهذه المهارات لا تمثّل فقط وسائل للعيش، بل هي أيضًا تعبير عن إرث ثقافي عميق، تسعى المرأة الريفية للحفاظ عليه ونقله للأجيال القادمة.
ربما يرى البعض أن الشاعر التونسي الكبير الصغير أولاد أحمد بالغ بعض الشيء حين صدح "نساء بلادي نساء ونصف"، لكن القول حقيقة يليق بكل امرأة تونسية حرة ومؤمنة بدورها في المجتمع وبقدرها فيه
ورغم تغيّر أنماط الحياة، لا تزال المرأة الريفية أكثر تمسكًا بالعادات والتقاليد، إذ تحافظ على الترابط الأسري، وتُقدّس القيم المجتمعية التي تقوم على الاحترام والتكافل، لو أنها امرأة سوية ستجد أن بيتها لا تنقطع فيه صلة الرحم، ولا تغيب طقوس المواسم والأعياد والمناسبات الجماعية، بل هي حية نابضة بكل معاني الحب والترابط الأسري، إنها تخلق من البيت الريفي حاميا للهوية والذاكرة الجماعية.
هي في ظل موارد محدودة وظروف معيشية صعبة، وعمل مجهد وشاق يسرق منها عمرها في ظروف صعبة صيفا وشتاء، دون أي تأمين على الذات والكرامة، إلا أنها لا تكتفي بدورها التقليدي فقط، في إنماء الأرض والحفاظ على استمرارها، بل تسعى لإنماء الأطفال بأن تغرس فيهم قيم العمل والشرف، لتصنع منهم أحلامها التي أجلت رغما عنها، ولتنهض بمجتمعها الصغير.
في تونس، أنجبت القرى والجبال والسهول نساءً رائدات تعلمن وتفوقن في مجالات عدة، خرجن من رحم الريف بقوة العزيمة والإرادة الصلبة، متحديات الفقر والعزلة وظروف الحياة القاسية. وبدورهن أنجبن للحياة رجالا ونساء أشداء، يفتخرون بانتماءهم للريف التونسي، يدافعون عنه، يمثلونه أحسن تمثيل ويعودن إليه دائما، ومثل هؤلاء النسوة يبرهن على أن النجاح لا تحدده الجغرافيا، بل الإرادة والإيمان بالقدرة على التغيير.
ربما يرى البعض أن الشاعر التونسي الكبير الصغير أولاد أحمد بالغ بعض الشيء حين صدح “نساء بلادي نساء ونصف“، لكن القول حقيقة يليق بكل امرأة تونسية حرة ومؤمنة بدورها في المجتمع وبقدرها فيه، وهو قول يليق تمامًا بنساء الريف، لما يحملنه من قوة وشموخ وصبر مضاعف. هنّ شريكات حقيقيات في التغيير والبناء، يحملن مشاعل الأمل في أماكن تُنسى غالبًا من السياسات، تترصدها العدسات الانتخابية، بوعود وإستراتيجيات زائفة لكنهن رغم ذلك لا ينسين أنفسهن، لا يتخلين عن أرضهن ولا يتوقفن عن الحلم بمستقبل أفضل.