من الراشي ومن المرتشي
يعتقد البعض أن الأطفال يتلقون جرعات من الرشوة في حليب الطفولة، فيجعلون منها في كبرهم فنا من فنون التعامل وقضاء الحوائج في السر والعلن، في الطريق والإدارة والمستشفى وكل الدوائر.
هذا الأمر خال من الصحة، فحليب الأم دسم بالصدق يسقي الطفل إنسانيته فتترعرع نقية واضحة الخطوات، لكن قد ينطبق الأمر على حليب “البودرة” الذي نشتريه من الصيدليات والذي تلقينا بعضه هبة من بعض الدول.
الحقيقة الصادمة أن بعض الأطفال يتلقون أول رشوة من والديهم في لحظات بريئة، وهي ليست ظرفا ماليا موشحا بابتسامة ماكرة، بل وعد مغلف بالشوكولاتة، أو نزهة خارج البيت، وربما دقائق إضافية لمتابعة فيلم كرتوني.
صفقة صغيرة في ظاهرها، لكنها اللبنة الأولى لفهم جديد للعالم الذي حول الطفل، كل شيء قابل للتفاوض، فبعد أن كانت “لا” تعني “لا”، يكتشف الطفل أن “لا” تعني “ربما”، إذا عُرض عليه شيء مُغر، ويبدأ بعدها في تطوير مهاراته في التفاوض وهو الذي اشتم أن العدالة المنزلية تُدار بنظام المكافآت.. إنها الخطوة الأولى في اختبار حدود السلطة.
ومن قطعة حلوى يتقدم الطفل إلى كم قطعة حلوى؟ ثم كيف يمكنه تأجيل الدروس إلى ما بعد البرنامج التلفزيوني؟ بعدها يوقف التعامل مع الأوامر كحقائق، وتصبح كل العروض قابلة للتعديل، فالرشوة الأولى ليست مجرد شوكولاتة، بل درس في إدارة الحياة.
لا شيء يُمنح مجانًا، وكل شيء قابل للنقاش، هكذا يتطور الأمر ويدرك الطفل أن العالم لا يُدار بالمقايضة الذكية.
الخطير في الأمر أن الطفل بعد أن يتذوق طعم الرشوة المنزلية قد يربط بين الرشوة والنجاح، فيظن أن كل شيء في الحياة يمكن شراؤه أو انتزاعه بالحيلة.
يتخطى ذلك الطفل حدود البيت إلى العالم الخارجي، وهو يظن أن الحياة تسير على قاعدة المقايضة. ففي المدرسة لا يشارك في الأنشطة لأنه يحبها، بل يسأل أولًا “على ماذا سأحصل؟” مقابل إنهاء الواجب، ويبدأ في تقييم المعلمين ليس على قدرتهم التعليمية، بل على سخائهم التحفيزي.
وفي ساحة المدرسة يتحوّل إلى مفاوض صغير: “لن أشتكي منك إذا أعطيتني نصف لمجتك،” منطلقا في اختبار حدود السلطة، ليكتشف أن بعض القوانين يمكن تجاوزها إذا عُرض الثمن المناسب. وهكذا، تتشكل لديه فكرة أن العدالة ليست مطلقة، بل مرنة، وأن النظام يمكن التلاعب به إذا كنت ذكيًا بما يكفي.
في الشارع يتعامل ذلك الطفل مع الأصدقاء بنفس المنطق: “سأكون صديقك إذا أعطيتني لعبتك،” أو “لن أخبر أحدًا بما فعلت إذا سمحت لي باللعب بدراجتك.” ويتطور فهمه للعلاقات الاجتماعية كصفقات، لا كروابط إنسانية. يقيّم الناس بناءً على ما يمكن أن يقدموه، لا على من هم.
في المجتمع، يكبر ذلك الطفل وهو يعتقد أن كل شيء له ثمن، الاحترام، الصداقة، وحتى الصدق، لذلك يتحول لاحقًا إلى شخص يساوم على المبادئ، ويبحث عن المكاسب في كل موقف، ويُجيد ارتداء الأقنعة والإقناع حسب العرض المتاح، ليصبح الأمر بالغًا فيعتقد أن “الغاية تبرر الرشوة،” وأن القيم تُستخدم فقط عندما تكون مربحة.
بعبارة أخرى، الطفل الذي تعلّم أن الشوكولاتة تُمنح مقابل الطاعة، قد يكبر وهو يعتقد أن العالم كله متجر كبير… وأن الأخلاق مجرد عملة قابلة للصرف.