حكيم الطرشان يختار الصمت

الصمت يمنح رفاهية التفكير قبل الرد ونعمة عدم التورط في المعارك.
السبت 2025/09/20
لغة بالغة

أهداني الكبرُ تذكرة عبور إلى حزب الطرشان، فأنا اليوم لا أسمع إلا ما يحلو لي أن أسمع من أغاني فيروز الصباحية وزقزقة العصافير القليلة التي تظهر في أول الفجر لتختفي سريعا هربًا من ضجيج الثرثرة ورائحة النفاق المتصاعدة في الشوارع.

علمني العمر أن أفرق بين صوت العاقل وصدى المنافق، فلا تصل إلى أذني النميمة حين أكون في مقهى الحارة أو في مكتب العمل ولا الشتيمة المجانية دائما في وسائل النقل المهترئة أو من سائقي السيارات الخردة وحتى الفخمة.

ولا تعنيني الأحاديث التي تختلط فيها السياسة بكرة القدم وفوائد شرب القرفة على الريق، كيف أسمع بطش نتنياهو بالفلسطينيين في تهجيرهم  من غزة ظلما، وغياب الطفل لامين جمال عن مباراة برشلونة الأخيرة ضد مضيفه نيوكاسل في دوري أبطال أوروبا ، في حين تتجادل المراهقات على حرية اللباس في المدارس والمعاهد.

وكما لا أسمع، صرت لا أرى… فحتى عيني بدأت تنتقي ما يستحق النظر بعد أن أصبحت لا أرى أشياء كثيرة بوضوح، لا أرى الوجوه التي تبتسم في العلن وتُقطّب في السر.. ولا من يصرخ ليقنع، ومن يمدح ليُستَرضى، ومن يصفّق قبل أن يسمع.

صرت لا أرى صور الوجبات الصباحية على مواقع التواصل الاجتماعي حيث طبق البيض المقلي كأنه لوحة فنية، وكوب قهوة مع رغوة مرسوم عليها وجه قطة، وهي في الحقيقة صور بلا معنى.

أنا اليوم لا أريد إلا الحقيقة عارية لأستمتع بفتنتها، ولن أخبركم سرا إذا قلت لكم إن البصيرة ليست في العين المنشغلة بالصورة في زمن الصور.

طبخة الملوخية تحتاج إلى وقت طويل لتفوح رائحتها الزكية وتستوي لذيذة، كذلك الحكمة تأخذ من العمر طويلا ليستقيل صاحبها من الركض خلف البحث عن الأجوبة، ويتسلل السؤال مع الشيب ويصبح الصمت سيد الحكمة فلا أتكلم.

لماذا أتكلم، وأنا أعيش في عصر النفاق الاجتماعي ومواقع التواصل، حيث الكلام والتعليقات مثل عملة مزيفة، رخيصة، لامعة، ولا تساوي شيئًا عندما توضع على ميزان العقل.

صمتي الجديد ليس دليل خجل أو قلة الحيلة، بل صار مهارتي النادرة في الحياة كمن يعزف على آلة موسيقية لا تصدر صوتًا.

الصمت يمنحني رفاهية التفكير قبل الرد، ونعمة عدم التورط في معارك لا تخصني، وهدوءًا داخليًا لا تزعزعه تعليقات من نوع “أنت لا تفهمني” أو “فهمني”.

خلاصة الشيب فأنا اليوم لا أتكلم، لا لأنني لا أملك ما يُقال، بل لأنني أخيرًا عرفت متى يجب أن يُقال… ومتى يجب أن يُصمت، فلا تعيّروني بشيبي لأنه حكمة الزمن.

12