مرسيليا.. لغةُ البحر ولونُ الحجر وغروبٌ يعيد كتابة القصيدة

مدينةٌ فرنسية تعيد اختراع ذاتها كل يوم من رائحة السمك والضوء.
الجمعة 2025/10/24
مدينة تُقرأ ككتاب ذي طبعات متعددة

هناك مدن تعيد تشكيل علاقتنا بذواتنا، تعيد ترتيب أفكارنا وهواجسنا ومشاعرنا وخيالاتنا، لا لأنها الأكثر كمالا بل لأنها الأكثر إنسانية، تشبهنا ونشبهها، ومن تلك المدن مرسيليا جنوب فرنسا وبوابة أوروبا الجنوبية، التي ما انفكت تثير الجدل، ولكنها لن تتوقف عن خلق حياة خاصة لا تشبه غيرها.

وصلت إلى مرسيليا أول مرة كما يصل البحّار المتردد إلى لسانٍ من صخرٍ يمتد في البحر: لا يريد أن يُعلنها ميناءه الأخير، لكنه يعرف في سرّه أنه لن يغادرها كما دخلها، وأن شيئاً في جلده سيحتفظ طول العمر بملوحة هذا الأزرق الذي لا يهدأ.

مرسيليا ثاني مدن فرنسا سكاناً بعد باريس، نطاقها الإداري وحده يتسع لأكثر من ثمان مئة وخمسين ألف نفس، ومساحتها تقارب مئتين وأربعين كيلومتراً مربعاً، وميناءها هو الأكبر تجارياً في فرنسا، أكثر من مليونين وأربعمئة ألف مسافر يعبرون فيه عاماً بعد عام، منطقة مرسيليا الكبرى تتخطى المليون وسبعمئة ألف روح، لكن الأرقام مهما طالعتها لا تشبه الخطوة الأولى على كورنيش كينيدي حين يضرب الضوء على سطح الماء فتبدو كل المراكب كأنها تعوم داخل مرآة من زجاج قديم تشقّقته الذكريات.

مدينة على هيئة نصف حوض ونصف مقلاة نحاسية تتوهج فوقها الشمس، محاطة بجدران من جبال سانت فيكتوار وسانت بوم، وتفرعات الريفييرا من الشرق، وخليج الأسد وكامارغ من الغرب، والبحر المتوسط يضغطها من الجنوب ضغطاً رقيقاً يشبه عناقاً مؤجلاً.

بوابة أوروبا الجنوبية

كل ما يحدث هنا يحدث منذ قرون ويتغير في كل يوم
كل ما يحدث هنا يحدث منذ قرون ويتغير في كل يوم

في مرسيليا، المدن مثل الكتب لا تُقرأ على تسلسل الصفحات، بل تُفتح من الوسط أحياناً، من جملة مصادفة، من رائحة حساء السمك “البويابيس”، وهو طبق سمك تقليدي شهير في مرسيليا، تخرج من مطبخ صغير في الأزقة المؤدية إلى الميناء القديم، من صوت الباعة يرمون أسماء الأسماك كأنهم يستدعون قبائل البحر إلى برّ القصعة، من يد امرأة عجوز اسمها نانا، تقول إنها تخشى على سوق السمك أن يضيع في زحام المشروع الكبير الذي يعملون عليه منذ سنوات ليجعلوا من المدينة “بوابة أوروبا الجنوبية” من جديد.

 يوروميديترانيه، هو مشروع للتنمية الحضرية، حيث الرافعات ترتفع مثل أعمدة صلاة في صباحات الشتاء، تبني مدينة داخل المدينة، تغسل واجهات المرفأ القديم من صدأ السنين، وتشيّد أبراجاً للمكاتب وفنادق ومساكن، وتعد الناس بفرص عمل وبنهضة عمرانية ستعيد البحر إلى المرايا، لكنها ترفع الإيجارات وتزيد مخاوف أحياءٍ يقال عنها “صعبة”، أحياء تحترف الصبر وتبتكر طرقاً للعيش في ظلّ اقتصاد يضع الشمس على الملصق والظل في هوامش العقود.

كنتُ أذهب إلى فيليكس بيات، وهو سياسي كاتب وصحافي فرنسي، كما يذهب المرء إلى بيت صديق مريض لا يريد الاعتراف بمرضه، الدور الأبيض العالي، الريح التي تحمل أكياس البلاستيك الصغيرة كطيور ضائعة، شباب يبتسمون دون ابتسام، نصفهم بلا عمل، والبحر قريب بحيث يمكن أن تسمعه إذا سكتت المدينة لدقيقتين، لكنه بعيد كأنه خلف شريط أصفر، هناك حيث الأبراج الزجاجية اللامعة تبني لغة جديدة للحلم.

كان نورالدين، ذو الأربعة عشر عاماً والقادم من جزر القمر، يقول لي إنه لا يغادر الحي إلا نادراً “لأن الخارج” ـ هكذا يسميه ـ يبتلع الأولاد بسهولة، وإن رفاقه دخلوا باب المخدرات من فضول وانتهوا إلى أن الحقائب في الأيدي التي تمرّ على الأرصفة فرص ساكنة. في تلك الأمسيات، وفي تلك المدينة كان البحر يفتح ممراته لمن يعرف ويغلقها على من لا يعرف.

مرسيليا، الأقدم في فرنسا، بنت رصيفها الأول قبل الميلاد بقرن، القادمون من شاطئ يوناني بعيد اختاروا هنا أن يلقوا مرساتهم، ليروي التاريخ أنها نالت مجدها في موجات، وكأن البحر يعطيها ويمنع عنها بالتناوب، ازدهرت ثم عرفت الطاعون والحروب الأهلية، ثم نهضت في عصر النهضة، وتحوّل مرفأها في القرن الثامن عشر إلى مجرة صغيرة تدور فيها تجارة العالم، ثم دخلت الثورة الصناعية، ثم القرن العشرون بجميع جراحه، حتى ذلك اليوم من أغسطس عام 1944 حين شارك رماة الجزائريين في تحرير مواقع من المدينة، فأضاف الدمُ العربي سطراً إلى دفتر هذه المرافئ التي ظلّت دائماً مفتوحة لخطى الغرباء.

مرسيليا مدينة هجينة، مختلطة الأصل على نحو مدهش، هجينة بمعنى الخصب لا التشويه، بوتقة كما يحب المؤرخون أن يقولوا، لكن البوتقة هنا ليست تجريداً من الكتب، بل هي الأزقة التي تشمّ فيها تابل الكاري المغربي إلى جوار ثوم بوكا الإيطالي، تسمع العربية والفرنسية، الإيطالية، ولهجات مغاربية، الميناء يبتلع اللغات مثل طفل يجرّب الحروف الأولى ولا يتوقف عن اللعب.

يقول الباحثون إنها قد تصير أول مدينة ذات غالبية مسلمة في أوروبا الغربية، ويقول الناس إنَّ المدينة لا تكترث لهذه الإحصاءات بقدر ما تكترث لتوازنها اليومي: أن يظل السوق سوقاً والميناء ميناءً والملعب ملعباً، وأن تكون دور العبادة ملتصقة بالحياة مثل المقاهي، وأن يبقى فنجان القهوة الساخن على رصيف البانييه ممكناً صباح كل يوم.

◄ مرسيليا مدينة هجينة، مختلطة الأصل بشكل مدهش، هجينة بمعنى الخصب لا التشويه، بوتقة كما يقول المؤرخون

في فالون ديز أوف، المرفأ الصغير الذي يشبه جيباً داخلياً على معطف البحر، مطاعم بحرية تلمّح لك بما يمكن للأمسية أن تكون عليه: سمك طازج، خبز، نبيذ لمن يريد، ضحكات، صور تحت سقف المرآة الذي صممه نورمان فوستر على رصيف البلجيكيين في الميناء القديم، سقف من عاكسٍ عملاقٍ يجبرك على رفع رأسك، لتشاهد المدينة وهي تسير تحتك، وجوه الناس، أسماك تتأرجح في الصناديق، طفل يقفز، امرأة تصلح شعرها، وسائح يلتقط صورته في مرآة لا تهتم بالضحكة قدر اهتمامها بإيقاع الحركة.

وإذ ينام الميناء لساعة، يستيقظ مسرح لا كرييه ليلاً مثل صدفة تفتح لؤلؤها، عروض موسيقى ورقص وحكايات، ثم مطعم “لي غران تابل” يضع الطعام في مكانه: إلى جوار المسرح لا في مكان آخر، لأنّ الحياة في مرسيليا تؤكل وتُسمع وتُرى في الوقت نفسه.

كنت أزور المتحف الذي يسمّونه هنا المتحف حضارات أوروبا والبحر المتوسط، هو قصر من حجرٍ أسود مثقّبٍ كالشبكة، وجسر يعبر الهواء نحو حصن سان جان، حيث تلمس بيدك هذا الحبل الخفي الذي يشدّ العصور ببعضها البعض من دون أن تتمزق، وتفهم أن التاريخ في هذه المدينة ليس دروساً معلبة تُدرّس، بل ممرات تُمشى، وجسور يعبرها الأطفال أولًا، يتعلمون أن البحر ليس لوحة بل معبر، وأن الجغرافيا هي التي تخترع السياسة لا العكس.

في “لا فريش بيل دو مي” وهو مجمع ثقافي ومركز فني كبير ترى وجهاً آخر: مستودع سابق للحياة البديلة، معارض مجانية، حفلات، مهرجانات، تزلج، سطحٌ مساحته ثمانية آلاف متر مربع، بار ومطعم، جرائد على الطاولات، ووقت يمكن تبديده بلا شعور بالذنب، هناك تشعر أن المدينة تُرمّم نفسها من الداخل، وأن الفن ليس ترفاً بل وسيلة للبقاء.

في مرسيليا تتوزع المتاحف كما تتوزع المقاهي: أكثر من واحد وعشرين متحفاً بين آثار وفنون جميلة وتاريخ طبيعي، متحف في قصر لونشان، متحف للفن المعاصر في بونفين، وعلى مقربة منه تمثال الإبهام لقيصر، ذلك الإبهام البرونزي الذي يبدو أكثر من تمثال، كأنه توقيع عملاق على وثيقة غير مكتوبة تقول إن الفن يمكن أن يظهر في المكان الأقل توقعاً ويظلّ قائماً هناك يشير إلى شيء أكبر من نفسه.

وأنا الذي جئتُ بحقيبة صغيرة ودفتر، وجدتُ نفسي بعد سنوات أكتب مرسيليا كما لو كنت أكتب سيرة ذاتية غير معلنة، سيرة مكان صار جزءًا من طريقة نظري إلى العالم. أكتب عن شوارع تخرج منها رائحة التوابل كما لو أن القارات كلها تعرّقت على هذا الحجر، عن لهجة يغنّيها الناس في الكلام، عن سوق سمك ما يزال يصرّ على أن الأسماك تُسمّى واحدة واحدة احتراماً لها، عن الميناء القديم الذي يبدأ منه كل شيء: الرحلات إلى الكالانك، إلى إيف وقلعتها، قوارب صغيرة تخرج وبداخلها عائلات تبحث عن نصف يوم من سكينة، وطلاب يصنعون صور تخرجهم، وعرسان يمدّون ثوباً أبيض فوق الماء لكي يباركه الضوء.

أكتب عن شارع كانيبيير الممتد من الميناء حتى حي كابوسين، شارع تبدّل مراراً لكنه احتفظ بمكانته كنبضٍ تجاري وسياحي، موجة بشر تمرّ، متاجر تتجدد، مقاهٍ لا تريد أن تتقاعد، عمارات يرمّمها الزمن وتعيدها المشاريع إلى واجهات حديثة، على أن ذاكرة الحجر تبقى، تضيء من حين لآخر كما تلمع قشرة على قدم بحّار قديم.

ندوب تشبه الجمال

الالتصاق المدهش بين القديم والجديد
الالتصاق المدهش بين القديم والجديد

في المساء، حين يعود الناس إلى بيوتهم، تبدو الصلوات كلها متشابهة: يفتح أحدهم نافذة على الحارة فينساب هواء، يضيء آخر شمعة أمام تمثال صغير للعذراء، تفرش امرأة سجادة وتصلي نحو الجنوب الشرقي، في كنيسة لا مَجور تتردد خطوات على الحجر الأبيض والأخضر وعيون تتلفت في القباب، في مسجد صغير في إحدى العمارات يقرأ شاب سورة قصيرة، على السطح يمدّ أحدهم الغسيل، ينام طفلٌ أخيراً، وفي مكان غير بعيد، رجل وحيد يشاهد مباراة كرة قدم ويَسعُل.

هذه الصورة، التي قد يراها البعض عادية، هي ما يجعل المدينة “مدينة”: تعدد لا يُترجم إلى قلق بل إلى إيقاع. وفي مرسيليا، الإيقاعُ هو السيد، من موسيقى الراب التي تخرج من عربة مسموعة إلى أغنية قديمة لآزابليه في محطة ترام، من تجويد مسافر في فجر رمضان إلى ترنيمة في قداس صغير، من صافرة سفينة تغادر الميناء إلى صوت ضربة البيتانك على حصى الظل.

مرسيليا، الأقدم في فرنسا، بنت رصيفها الأول قبل الميلاد بقرن
مرسيليا، الأقدم في فرنسا، بنت رصيفها الأول قبل الميلاد بقرن

حين يزور المرء مرسيليا كسائح، يسهل أن ينخدع بالبداهة الجميلة: البحر والمتاحف والكنائس والملعب والطعام، لكن المدينة، إذا أردت لها أن تصير أكثر من بطاقة بريدية، يجب أن تسكنها قليلاً في قلبك، أن تمشي كثيراً، أن تضلّ الطريق عمداً في البانييه، أن تصعد إلى نوتردام دو لا غارد سيراً ولو مرة فتسمع في قدميك التعب الذي تعبته أجيال، أن تدخل “الموسِيم” المتحف، وتطوف جسوره كي تتعلم أن الحضارات لا تتراكم كالرمل بل تتشابك كالأغصان، أن تقف تحت سقف المرآة في الميناء القديم وتضحك لصورك المقلوبة، أن تركب دراجة على الكورنيش وتسمح للهواء أن يخطّ في شعرك سطراً، أن تذهب مساء إلى “ذا بيانيستس گروپي” فتشرب شيئاً وتستمع لبيانو يذكّرك بأن المدن التي لها بحر تحتاج دائماً إلى آلة تعلّمها كيف تصبر.

ولأن المدينة تعيد تشكيل نفسها بلا توقف، كانت سنة 2013 عاماً مفصلياً حين صارت عاصمة للثقافة الأوروبية، ليس لأن الألقاب تغيّر المدن في حد ذاتها، بل لأنها توقظها على ما كانت تعرفه ولم تصدّقه: أن الفن يمكن أن يكون خطة حضرية، وأن المشروع العمراني إن لم يتكئ على روح ثقافية صار مجرّد هندسة باردة، وأن “مدينة جديدة داخل المدينة” كما يقولون في يوروميديترانيه لن تنجح إن لم تحترم السوق القديمة التي تخاف عليها نانا، وإن لم تضع مكاناً لأولئك الذين لا يزالون يتعلمون أن يخرجوا من “الحيّ” إلى “الخارج.”

في صباحات أخرى، رأيت القوارب الشراعية تتسابق في المياه التي تلائمها الريح، والأشرعة البيضاء تكتب رسائل خفيفة على صفحة البحر، وشباناً يركبون الأمواج على شواطئ ليست مشهورة عالمياً، لكنها تكفي لفرح يومٍ لا يريد الكثير، رأيت ملاعب الجولف الثلاثة في أطراف المدينة كمساحات من ترتيب مختلف للطبيعة، ورأيت العدّائين يملؤون المتنزهات العامة، وجوهٌ حمراء من التعب ومُصلّحات داخلية غير مرئية، فالركض ـ كما تعلمتُ ـ هو الصلاة العلمانية للمدن الحديثة.

في كل هذه التفاصيل، كنتُ أعود إلى سؤال واحد: ما الذي يجعل مرسيليا مدينة تُشبه نفسها أكثر مما تشبه غيرها؟ ربما هو هذا الالتصاق المدهش بين القديم والجديد، بين قصّة دانتس الذي هرب من قلعة إيف، وبين مشروع يوروميديترانيه الذي يبني أبراجاً زجاجية، بين ممرات لا فيي شارتيه وبين الأسطح المفتوحة، بين رسوم ما قبل التاريخ في كوسكير، وبين الإبهام البرونزي الحديث، بين بقايا الطاعون في كتب التاريخ وبين الطبق اليومي، بين رماة 1944 وأولاد اليوم الذين يلعبون البيتانك في الظل، بين الخشونة التي تفرضها الجغرافيا على الوجوه والنعومة التي يتركها البحر في الأصابع، وهذه اللعبة يمارسها كبار السن في الساحات والحدائق والمرافئ، وسط أحاديث وضحكات، وغالباً في الظلّ. وهي ترمز إلى الروح الشعبية المرسيليّة: البساطة، الرفقة، الإيقاع البطيء، وحبّ الحياة.

مرسيليا تتضمن تناقضاتها ولا تحاول أن تحلّها نهائياً، تديرها كما يدير موسيقي ماهر طبقاتٍ من مقام واحد ينتقل بين السرعات من دون أن ينكسر، وإن حصل الانكسار، فهو جزء من اللحن. ولذلك، حين أسير في كانيبيير، الشارع الرئيسي والتاريخي للمدينة، أو أضلّ في بانييه، أقدم وأشهر حيّ في مرسيليا، أو أعلو إلى لا غارد، كنيسة نوتردام، أو أجلس في ظلّ فوستر، الميناء القديم للمدينة. أشعر أنني في مدينة تعلمتُ فيها أن المعنى لا يُستخرج من الأشياء كما يستخرج اللؤلؤ من محارة، بل يتكون مع الوقت، مع المشي، مع التكرار، مع التردد على الأمكنة الصغيرة حتى تأنسَ بك.

◄ مدينة يليق بها قلب من يعبرها، متعددة الوجوه، صعبة وحنونة، بحرية وبرية، صافية وملوّثة، تؤلمه ويغفر لها

في المساء الأخير قبل رحلةٍ كان عليّ أن أقوم بها بعيداً، ذهبتُ إلى الميناء القديم مبكراً، ولم تكن الشمس قد أتمّت صعودها، الصيادون يفرزون الأسماك، أصوات عالية ومتآلفة، قهوة سوداء، سكاكين تلمع، سلال بلاستيكية، رجل يضحك لأن سمكة أفلتت من يده وعادت إلى الماء، امرأة تساوم كأنها ترقص، طفل يحاول حمل سمكة أكبر من ساعده، قرأت على وجه الميناء هذه الجملة التي لا تُكتب: كل ما يحدث هنا يحدث منذ قرون، ويتغير في كل يوم. حين ارتفعت الشمس، أخذتُ القارب إلى جزيرة إيف، لم يكن في الزنزانة شيء، لكنها كانت ممتلئة بكل شيء: صدى خطوات، جدارٌ حكى أسراراً كثيرة وأغلق فمه، نافذة صغيرة على بحر يضحك.

تخيلتُ دانتس، الشخصية الأدبية المشهورة ثم تذكرتُ أن الخيال هنا أقرب إلى الوثيقة من فرط ما امتزج بالواقع، وأن المدينة التي تسمح للحكايات أن تجلس إلى جوار الحقائق دون خصام هي مدينة لا تحتاج إلى محامين للدفاع عنها. عدتُ في الظهيرة إلى اليابسة، جلستُ في مطعم صغير في فالون ديز أوف، طلبتُ حساء السمك كما ينبغي أن يطلب، جاءني مع خبز محمّص وثوم، وملاعق تتعلم في الفم أسماء الأسماك بلا دروس، كان النادل يسألني إن كنت أحبّ أن أجرب شيئاً آخر فقلت: لا، يكفيني أن أتأكد أن شيئاً في هذا العالم ثابت إلى هذا الحد، أن البحر إذا قُدّم في صحنٍ صحيح صار شبيهاً بالأم، يطعم ويغفر ويعلّم ويترك في الفم طعم الملح والحنين.

بعد سنوات من الرحيل والعودة، لم أعد أحسب مرسيليا بالأرقام ولا بالأيام التي أقمتها فيها، صارت فيَّ كما تصير المدن الكبرى حين تستقر: طريقة في تنفس الهواء، ميلاً إلى الكورنيش كلما ضاق صدري، رغبة في الصعود إلى لا غارد حين يستعصي عليّ المعنى، مشياً طويلاً في البانييه أحد أحياء المدينة الشهيرة عندما أحتاج إلى أن أتذكر أن البشر يمكن أن يخترعوا جمالاً من شرفات ضيقة وغسيل ملوّن، زيارة إلى المتحف عند كل معرض جديد، ووقفة طويلة في ظلّ المرآة حين أحتاج أن أضحك على نفسي وأرى جسدي مقلوباً بلا ضغينة.

المدينة التي تتنفس

من يزور مرسيليا مرة ويغادرها يظن أنه عرفها قد ارتكب خطأ مسافرين مستعجلين
من يزور مرسيليا مرة ويغادرها يظن أنه عرفها قد ارتكب خطأ مسافرين مستعجلين

من يزور مرسيليا مرة ويغادرها يظن أنه عرفها قد ارتكب خطأ مسافرين مستعجلين، فهذه مدينة تُقرأ ككتاب ذي طبعات متعددة، تعود إليه فتكتشف أن فصلاً جديداً قد أضيف أو أن فصلاً قديماً كُتب من جديد بطريقة مختلفة، وحين تسأل نفسك: كيف جرى هذا؟ تلتفت لتجد الرافعات تعمل في مكان، والفنانين يرسمون في مكان، والشرطة تبحث في مكان، واللاعبين يتدرّبون في مكان، والأمهات يطبخن، والبحّارة يرمّمون شباكهم، والمهاجرون الجدد يتعلمون أسماء الشوارع، والرياح تبذل جهدها كي تجعل السماء صافية بما يكفي للصور.

مرسيليا مدينة لا تزعم الكمال ولا تقدّم نفسها على أنها نصّ مكتمل، بل تعترف بأنّها تجريبية، نسخة مسوّدة لا تكفّ عن إعادة الكتابة، بحرٌ يجرّب الألوان، حجرٌ يتعلم اللغات، ناسٌ يتركون على الأرصفة أثراً من ضحكاتهم وعرقهم، وبنواياهم الطيبة والسيئة معاً.

وإذا سألتني ـ وأنا الذي عشت فيها ككاتبٍ يتعلم من المكان ـ ماذا تقدّم مرسيليا لزائرها؟ قلت: تقدّم له اختباراً نادراً لصدقه مع نفسه؛ فإن كان يبحث عن بطاقة بريدية وجدها بلا صعوبة، وإن كان يبحث عن مدينة ليليق بها قلبه وجدها هنا، متعددة الوجوه، صعبة وحنونة، بحرية وبرية، صافية وملوّثة، تؤلمه ويغفر لها، وتعلّمه شيئاً غريباً: أنَّ المدن مثل الناس، لا تحيا إلا حين تُحَبّ على علاتها، وأنّ أجمل ما فيها ليس واجهاتها الملمّعة في الصباح بل تلك الندوب التي تُظهر تاريخها، ندوبٌ كقلعة على جزيرة، كبقعة طحلب على حجر قديم، كاسم مهاجرٍ كتبه على جدار ذات مساء لأنه أراد أن يقول: أنا هنا، لستُ ضيفاً ولا دخيلاً، أنا جزء من النصّ الطويل الذي يكتبه البحر على حافة فرنسا، اسمه مرسيليا.

1

8