لماذا يفشل تفكيك الميليشيات في العراق

الميليشيات لا تحكم بالسلاح فقط بل بالخدمات أيضا.
الخميس 2025/08/28
طيف معقد من الامتثال

مع اقتراب الانتخابات البرلمانية في العراق، يتصدر المشهد مرة أخرى نفوذ الميليشيات المسلحة التي تجاوز تأثيرها الأحزاب الرسمية، وفرضت نفسها كلاعب رئيسي في الحياة السياسية والأمنية. لكن العلاقة بين هذه الجماعات والمجتمع ليست بسيطة، إذ لا تقوم فقط على الولاء أو المعارضة، بل على طيف معقد من الامتثال تتداخل فيه المصالح، والخوف، والحاجة إلى البقاء.

بغداد - في نوفمبر المقبل، سيتوجه العراقيون مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع لإجراء الانتخابات البرلمانية. ومع ذلك، فإن نتائج هذه الانتخابات ستتأثر بدرجة أقل بالأحزاب الرسمية، وأكثر بالشبكات الراسخة للميليشيات التي تهيمن على المشهدين السياسي والأمني في العراق. ومنذ الانتخابات الأخيرة في أكتوبر 2021، وما تلاها من احتجاجات جماهيرية واقتحام البرلمان في أغسطس 2022، لم يتراجع نفوذ الميليشيات، بل تعزز أكثر.

وبالنسبة لبعض المراقبين، فإن هذه التطورات تؤكد أن الدولة فقدت سلطتها، أو أن الميليشيات تتمتع بدعم شعبي واسع. لكن الواقع أكثر تعقيدًا. فالناس لا يدعمون الميليشيات أو يقاومونها ببساطة. فالعلاقة مع الجماعات المسلحة تقع على جزء من الطاعة: أحيانًا طوعية، وأحيانًا مشروطة، وأحيانًا قسرية بحتة.

ويرى في توبياس ديتريش رئيس فريق أبحاث العراق وسوريا في معهد هايدلبرغ لأبحاث النزاعات الدولية في تقرير نشرته مجلة مودرن بوليسي أن هذا الطيف مهم لفهم الواقع. فهو يفسر كيف صمدت قوات الحشد الشعبي – وهي تجمع لجماعات مسلحة تأسست عام 2014 لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) – لأكثر من عقد. كما يوضح سبب فشل المحاولات المتكررة لـحل الميليشيات أو استبدالها بالمؤسسات الرسمية.

طيف من الطاعة

غالبًا ما تنحصر النقاشات حول الميليشيات في العراق في ثنائية زائفة: إما أن الناس يدعمونها أو يعارضونها. لكن الواقع اليومي تحت سيطرة الجماعات المسلحة أكثر تعقيدًا بكثير. ويمتثل العديد من العراقيين للميليشيات دون أن يؤمنوا بسلطتها – ببساطة لأن ذلك أكثر أمنًا، أو أكثر فائدة، أو لا مفر منه. ويفرق علماء السياسة بين الشرعية – أي الإيمان الحقيقي بالسلطة – والامتثال – أي الطاعة الظاهرة بغض النظر عن القناعة الداخلية.

وأول هذه الأنماط هو الامتثال الطوعي، وهو الشكل الأكثر ارتباطًا بالثقة أو الفائدة. هنا، تضع بعض المجتمعات المحلية ثقتها في جماعة مسلحة معينة، سواء بسبب انتماء ديني أو طائفي مشترك، أو نتيجة الخدمات التي تقدمها هذه الجماعة، كالخدمات الأمنية أو المساعدات الإنسانية أو البنية التحتية.

وفي هذا السياق، تنشأ علاقة طوعية بين الطرفين، تُبنى على القبول الشعبي والرضا العام. وأما النمط الثاني فهو الامتثال المشروط، ويُشار إليه في بعض الأدبيات بـ”الامتثال شبه الطوعي.” وفي هذا النوع، لا تكون الطاعة نابعة من قناعة أو ولاء، بل نتيجة مزيج من الحوافز والتهديدات الضمنية. فالمواطنون قد يتعاونون مع الجماعة المسلحة لأنهم يستفيدون من بعض المكاسب، لكنهم في الوقت ذاته يشعرون بقلق من العواقب في حال رفضهم التعاون.

ويتجلى هذا النمط في البيئات التي يكون فيها الأمن هشًا، وتُصبح فيها الميليشيات البديل الوحيد للاستقرار أو المعيشة. وأما النمط الثالث فهو الامتثال القسري، الذي يُفرض بالقوة والعنف والتهديد المباشر.

وفي هذا الشكل، لا وجود للثقة أو الفائدة، بل تُمارَس الطاعة نتيجة الخوف من القتل أو الاعتقال أو التهجير، أو بسبب اعتماد السكان على الجماعة المسلحة في تلبية احتياجاتهم الأساسية وسط غياب مؤسسات الدولة. وغالبًا ما يتم تعزيز هذا النوع من الامتثال عبر ممارسات ممنهجة من الإقصاء والردع والترهيب.

المجتمعات المحلية تقبل سلطة الميليشيات بسبب الإيمان،  أو الخدمات، أو الفوائد الانتقائية، أو الخوف البحت
◙ المجتمعات المحلية تقبل سلطة الميليشيات بسبب الإيمان، أو الخدمات، أو الفوائد الانتقائية، أو الخوف البحت

ويشمل الحشد الشعبي كل هذه الأشكال الثلاثة. وتستند فصائله إلى مزيج متنوع من الهوية، وتقديم الخدمات، والإكراه، وتبدل إستراتيجياتها حسب السياق. وهذه القابلية للتكيّف هي أحد أسباب بقاء الميليشيات رغم محاولات الدولة العراقية وشركائها الدوليين تفكيكها.

ونجحت بعض فصائل الحشد الشعبي في خلق مستويات عالية نسبيًا من الطاعة الطوعية. فالميليشيات التابعة للمرجع الأعلى علي السيستاني، على سبيل المثال، نالت احترامًا دائمًا بين كل من السكان الشيعة والسنة. فقد تجنبت التورط في السياسات الفاسدة، وابتعدت عن الحشد عندما تصاعد العنف، وركزت على الشرعية الدينية والخدمة العامة. وهذا الانضباط منحها مصداقية كشريك للدولة وكمدافع موثوق عن المجتمعات.

وهناك قصة مشابهة حدثت في سهل نينوى، حيث حازت “وحدات حماية سهل نينوى” المسيحية على ولاء السكان من خلال الدفاع عن بلدات مثل قرقوش وبرطلة أثناء وبعد الحملة ضد داعش. ورغم أن دورهم الحالي لا يزال غير مؤكد، إلا أنهم اكتسبوا ثقة محلية حقيقية، رغم غياب الدعم الكامل من الدولة.

وتُظهر هذه الحالات أن الميليشيات يمكن أن تحصل على الطاعة ليس بالقوة فقط، بل أيضًا من خلال تقديم الحماية الملموسة والتماهي مع رموز دينية أو ثقافية محترمة. وهذا النوع من الامتثال يشبه الشرعية التقليدية، لكنه ليس سوى جزء من الطيف الأوسع. وتخلق بعض الميليشيات الطاعة من خلال مزيج من الحوافز والضغوط الضمنية.

وتُعد سرايا السلام، الجناح المسلح للتيار الصدري بقيادة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، مثالًا على هذه المنطقة الرمادية. ويقدم التيار نفسه كصوت للفقراء، ويوفر المساعدات الخيرية، وينتقد النخب الفاسدة. ولهذا، فإن العديد من الشيعة يدعمونه طوعًا بسبب خطابه الشعبي وأنشطته الاجتماعية. لكن هذا الدعم غير متساوٍ. وفي مناطق مثل سامراء، يشعر السنة بالتهميش تحت سيطرة الصدريين. ويستفيد بعض النخب من الاستقرار والفرص الاقتصادية، في حين يعاني المواطنون العاديون من الإقصاء والضغط غير المباشر.

والطاعة هنا مشروطة: الناس يمتثلون جزئيًا بسبب الفوائد، وجزئيًا خوفًا مما قد يحدث إن لم يمتثلوا. ويلاحظ وضع مماثل في منطقة سنجار بين الميليشيات الإيزيدية، مثل “وحدات مقاومة سنجار”، التي نالت دعمًا كبيرًا في البداية لطردها داعش وحمايتها للمجتمع المحلي في وقت انهارت فيه الثقة بالقوات الكردية والعراقية.

لكن هذا الدعم كان مصلحيًا: الإيزيديون رأوا فيها توازنًا أمام هيمنة الأكراد، رغم انتقاداتهم لانخراطها في التهريب وارتباطها بجماعات موالية لإيران. ويعكس الامتثال في سنجار براغماتية أكثر من الولاء – إذ يستمر التعاون لأنها توفر حماية فورية، لكن الثقة هشة وسريعة التآكل.

ويعتمد هذا النوع من الطاعة على الغموض. فالمواطنون والمقاتلون يوازنون بين الفرص والقيود – يدعمون الميليشيات لما تقدمه، لكن تحت تهديد دائم. وفي الطرف الآخر نجد الطاعة القسرية، حيث تُفرض الطاعة من خلال الترهيب والعنف والاعتماد البنيوي.

وتُعد كتائب حزب الله المدعومة من إيران نموذجًا للطاعة القسرية واسعة النطاق. فبعد استعادتها بلدة جرف النصر من داعش عام 2014، فرضت الجماعة منطقة محظورة “لا يمكن دخولها”. ومنذ ذلك الحين، لم يُسمح لما يقرب من 100 ألف نازح سني بالعودة إلى ديارهم.

وتصف التقارير المنطقة كمعقل عسكري فيه ورش صواريخ وسجون سرية ومقابر جماعية. ولا تستند السلطة هنا إلى شرعية، بل إلى الخوف والإقصاء والعنف. وفي نينوى، توفر ميليشيات الشبك مثالًا آخر. فقد وثقت وزارة الخزانة الأميركية انتهاكات منهجية تشمل الابتزاز والاختطاف والاعتقالات غير القانونية في برطلة، وهي بلدة تاريخيًا مسيحية.

إستراتيجية بقاء

بينما يستفيد مجتمع الشبك من هيمنة الميليشيات، يمتثل المسيحيون والأقليات الأخرى في الغالب بدافع الخوف وغياب البدائل. وتُبرز هذه الأنماط حدود دمج الميليشيات في الدولة. وحتى عندما تُعترف بها رسميًا كجزء من الأجهزة الأمنية، فإن سلطتها المحلية غالبًا ما تستند إلى الإكراه. ومع ذلك، لا يزال الامتثال قائمًا – فالناس يطيعون، حتى لو عن غير رغبة.

وما تكشفه التجربة العراقية هو أن العلاقة بين السكان والميليشيات لا يمكن اختزالها في ثنائية تبسيطية من “الدعم” أو “المعارضة”، بل هي أكثر تعقيدًا ومرونة، وتُفهم ضمن استراتيجيات البقاء. فطاعة الناس للميليشيات لا تعني بالضرورة إيمانهم بشرعيتها، كما أن مقاومتهم لها لا تعني دومًا قدرتهم على الرفض.

في الكثير من الأحيان، يخضع الأفراد لتلك الجماعات بدافع الضرورة، وليس القناعة. فقد تُمنح الطاعة بسبب خدمات ملموسة أو حماية موفرة أو وعود بالاستقرار، وأحيانًا بدافع الخوف وحده، عندما تغيب الدولة وتنهار مؤسساتها، ولا يبقى سوى الميليشيات باعتبارها الجهة الوحيدة القادرة على فرض النظام – حتى لو كان قسرًا.

◙ ما تكشفه التجربة العراقية هو أن العلاقة بين السكان والميليشيات لا يمكن اختزالها في ثنائية تبسيطية من “الدعم” أو “المعارضة”

وتكشف التجربة أن محاولات تفكيك هذه الميليشيات أو تهميشها باءت بالفشل لأنها لا تعتمد فقط على العنف، بل على شبكات أعمق من الولاء والتكافل والمصلحة، وهي قادرة على إعادة إنتاج سلطتها بما يتلاءم مع السياقات المحلية. ومن جهة، توفر الأمن والخدمات، ومن جهة أخرى، تفرض الطاعة باستخدام الترهيب والتمييز وخلق الاعتماد البنيوي على حضورها. وهذا ما يفسّر قدرة بعض الفصائل، مثل الحشد الشعبي، على الصمود رغم الضغوط المحلية والدولية.

وفي هذا الإطار، يصبح واضحًا أن التركيز الحصري على الطابع القسري لسلطة الميليشيات يظل قاصرًا عن فهم ديناميكيات سيطرتها الحقيقية. فثمة طاعة مشروطة، تتراوح بين الامتياز والخوف، تتيح للميليشيات التسلل إلى النسيج الاجتماعي والسياسي، وتُطوّع حضورها بحسب ما تقتضيه المرحلة. وهذا النمط من الامتثال يرسّخ وجودها ليس كقوة متمردة على الدولة فقط، بل كبديل محتمل لها في بعض المناطق.

ولا يُعد العراق استثناءً في هذا السياق، إذ يتكرّر النمط ذاته في تجارب أخرى، مثل حزب الله في لبنان، الذي يجمع بين الرمزية الدينية، والخدمات المجتمعية، والاستعداد الدائم لاستخدام القوة، ما يمنحه شرعية مزدوجة بين الدولة والشارع، ويعزز من قدرته على البقاء.

ومن هنا، تبرز الحقيقة الأعمق: في الدول المفككة، لا تتحدد السلطة بناءً على من يحتكر السلاح أو يملك الشرعية القانونية، بل تتشكل من خلال توازن دقيق بين الإيمان، والمصلحة، والخوف، ويعاد التفاوض عليها يومًا بعد يوم في ظل هشاشة النظام السياسي والاجتماعي. وقال ماكس فيبر ذات مرة إن كل نظام حكم يسعى لإيقاظ الإيمان بشرعيته. ويُظهر الحشد الشعبي في العراق مدى هشاشة هذا الإيمان وصراعه المستمر. فسلطته لا تستند فقط إلى السلاح، بل أيضًا إلى الرواتب، والخدمات، والروابط الدينية، والتخويف.

ولا يبرر الاعتراف بهذا الطيف من الطاعة عنف الميليشيات، لكنه يساعد على فهم سبب استمرار الجماعات المسلحة، ولماذا تبدو الدعوات البسيطة لتفكيكها جوفاء. ولفهم لماذا يعيش الناس تحت حكم الميليشيات، علينا أن نتجاوز وهم الولاء – ونفهم الطاعة على حقيقتها: استجابة براغماتية للبقاء في نظم سياسية مفككة.

7