قيس سعيد، في استرداد السيادة الثقافية ومكانة المثقف
الثقافة ليست فعاليات ومهرجانات تُقام على مدى أيام أو أسابيع ثم يُسدل الستار عليها وكأن شيئًا لم يكن، بل هي قطاع من قطاعات السيادة، يجب أن توظّف في خدمة قضايا الحرية والتحرر، ليس في تونس فحسب، بل في العالم بأسره. بهذا الوضوح أراد الرئيس التونسي قيس سعيّد أن يعيد لبلاده مكانتها الثقافية الطبيعية: حصن ضدّ التطرف، وجسر نحو أفق فكريّ مفتوح.
في ستينات القرن الماضي كانت المهرجانات في تونس مسرحًا لنقاشات تطرح أسئلة جدلية، وتؤكد أن الفنّ أداة مقاومة قبل أن يكون ترفيهًا. كانت لهذه الفعاليات قوة سحرية جعلت من تونس مسرحًا للالتقاء والتحاور والطموح الإبداعي، وصرخة هدفت إلى خلق وعي شعبي.
في عهد الحبيب بورقيبة (1956 – 1987) صنّفت الدولة الثقافة أداة لبناء “الأمة الجديدة”، فأنشأت دورًا للثقافة ودورًا للشباب، وكانت الدولة الراعي والموجّه. بدا الاستقلال آنذاك كفترة ذهبية. لكن مسّ الحريات كان فادحًا، وتمثل ذلك في توجيه المحتوى وفرض قيود على النقد السياسي، وتحويل بعض المهرجانات إلى منصّات تُقصي الأصوات المستقلة. ومع بداية عهد زين العابدين بن علي (1987 – 2011)، صارت الثقافة واجهة لتلميع السلطة الفردية، فتقلّص هامش الإبداع الحر إلى تقديم نصوص مدعومة من الدولة، ومهرجانات بدت كأنما تُنظَّم للتسويق السياحي.
◄ تونس التي لبّت سابقًا دعوة الفكر والفنّ في مواجهة الاستبداد ما زالت تأبى التنازل عن هذا الدور وتطمح لأن تكون خط المواجهة الثقافي ضدّ كلّ أشكال الاستبداد والجمود محليّا وعالميّا
في أعقاب الثورة (2011) انفتح المشهد الثقافي على فسيفساء من المبادرات المدنية والمستقلة، لكن بغياب أي إستراتيجية وطنية واضحة انفجر الإبداع في الشوارع والفضاءات الإلكترونية، وبرزت أماكن صغيرة وفضاءات مفتوحة منحت المدينة صوتها. إلّا أن الفوضى دفعت بثقافة ما بعد الثورة إلى موقع رمادي: حرية بلا تأطير، وتعددية بلا سند مستدام.
في خضمّ هذا التخبّط الذي يشهده المشهد الثقافي، جاء حديث رئيس الجمهورية قيس سعيّد إلى وزيرة الشؤون الثقافية السيّدة أمينة الصرارفي، قبل أيام من انطلاق الدورة التاسعة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي، شدّد خلاله على ضرورة استعادة الدولة لدورها كمُنتج فعلي للمحتوى الثقافي، لا مجرد مموّل أو راعٍ موسمي للتظاهرات، مؤكدا على ضرورة أن تُعاد للمهرجانات الكبرى (قرطاج، الحمامات، طبرقة) مكانتها كمنصّات لنشر الفكر الحر، وألّا تفتح أبوابها “إلاّ لمن يتبنّى الفكر الحر ويُعطي الأولوية للقيمة الإنسانية قبل الربح.”
يستدعي قيس سعيّد في حديثه روح ستينات القرن العشرين؛ حين كان الفنّ جبهة مواجهة ضد الاستبداد والقمع الفكري بمختلف تمظهراته، وملتقى للمواهب التي نشأت على الواجب الأخلاقي قبل الواجب الجمالي.
ويُعيد الرئيس التونسي تعريف التظاهرات الثقافية، فهي ليست مجرد أنشطة ترفيهية أو عروض موسمية، بل جزءٌ فاعل من “حرب تحرير رمزية” تخوضها تونس عبر الفكر والفن بأسلحة الوعي والمعرفة. ويؤكد أن المهرجانات ينبغي أن تتحوّل إلى ساحات تنوير، تُناهض الجمود العقائدي والتطرّف، وتُرسّخ قيم الحرية والتعدد والانفتاح.
◄ مهرجانات تونس لم تعد مجرد احتفالات ترفيهية، بل رسالة إلى العالم، وإن تونس التي لبّت في فترات سابقة دعوة الفكر والفنّ في مواجهة الاستبداد، تأبى التنازل عن هذا الدور
ويشدّد الرئيس على أن الثقافة يجب أن تساهم في نشر الفكر الوطني الحرّ، وأن تكون “سدًّا منيعًا” أمام الانغلاق والتشدد. فالتونسي الوطني الحرّ لا يحتفل بانتصار الجيوش وحدها، بل يحتفي بانتصار الفكر على التسلّط، والوعي على القمع.
ويختتم الرئيس قيس سعيّد توجيهاته بتعليمات لاسترجاع الآثار التونسية المنهوبة؛ لأن الإرث الحضاري مادة الحياة التي لا بدّ أن تُسترجع وتُعاد للمواطن كحقّ في ذاكرته وجذوره. بذلك، يربط قيس سعيّد بين الحاضر الثقافي والماضي، ويصوغ خطابًا يُعيد الدولة لتكون وصيّة على تاريخها وراعية لثقافتها.
الحديث – الخطاب يكشف تحولًا لافتًا في تصوّر الدولة للثقافة. فعندما يرفض الرئيس أن تُحصر الثقافة في نمط المهرجانات الموسمية، فإنه يُعيد تعريفها كأداة مواجهة وحفظ للهوية، ويستحضر تصورَيْ لوك بولتانسكي وإدوارد سعيد اللذين يجعلان من الفن سجلًّا للوعي الجمعي، لا ديكورًا احتفاليًا. في هذان التصوران، يصبح الفعل الثقافي شبه مقدّس، متصلًا بحرية الشعوب كما هو متصل بمهمّة تبادل فكري يتجاوز مصادرات الحدود الجغرافية.
للثقافة في تونس جذورٌ أعمق من المنحى السياحي أو التسويق. والمطلوب أن يُعاد إلى هذه التظاهرات وُدّها الأول مع الفكر، وأن تُستثمر لخدمة قضايا الحرية والتحرر. يجب إعادة إحيائها من جديد بوصفها منابر للفكر الوطني الحرّ، ومناسبات يُشارك فيها مفكّرون من كلّ القارات، تؤكد أنّ القضية التونسية ليست منعزلة عن تيار الإنسانية الأكبر.
ما تحتاجه تونس هو مهرجانات تُدافع عن حرية التعبير والفنّ في مواجهة التطرّف والجمود العقائدي، لا مجرد فسحة عابرة يطويها التقويم السنوي.
◄ قيس سعيّد يستدعي في حديثه روح ستينات القرن العشرين؛ حين كان الفنّ جبهة مواجهة ضد الاستبداد والقمع الفكري بمختلف تمظهراته، وملتقى للمواهب التي نشأت على الواجب الأخلاقي قبل الواجب الجمالي
العالم يعيش حاليا عصرا رقميا أُسقِطت فيه الحدود أمام تبادل الأفكار، يتيح لتونس أن تستعيد مركزها كمنصةٍ عالمية للنخب والمبدعين. يمكن أن يُستدعى نقّادٌ من عواصم عالمية وعربية في جلساتٍ مفتوحة، لتبادل الآراء مع شبابٍ تونسيّ، وإحياء الأمسيات الشعرية في الفضاءات المفتوحة تُنقل عبر البثّ الحيّ.
لكن، هل يمكن الذهاب بعيدا في هذا المنحى دون الانزلاق نحو رقابة رمزية جديدة؟ فالتأكيد على فتح المنابر للرؤى المتماهية مع الفكر الحرّ يطرح سؤالًا حقيقيًا عن تنوّع الأصوات واستقلالية المثقف؟
المشهد الثقافي التونسي عند منعطف حاسم: إما أن تستعيد المهرجانات دورها الطليعي في فضاءات يلتقي فيها المختلفون على أرضية يتشاركون فيها القيم، أو تنزلق إلى عروض تسويقية تُفقدها معناها التحرري. فهل تستطيع الدولة أن تسترجع دورها كحاضنة للمشروع الثقافي الجامع، الذي يُعيد تشكيل الهوية الوطنية بتعدد ألوانها وتعبيراتها؟
يظلّ التحدي الأبرز متمثّلًا في سؤال الاستقلالية، وكيف يحافظ الفنان والمثقف على صوته الحرّ وسط هذا التقلّب، وكيف تضمن تونس أن تبقى منبرًا حيًّا، لا مجرد خشبة لعرض مؤقت ينساه الجمهور عقب إسدال الستار؟
إذا نجحت تونس في أن تجعل من مهرجاناتها منابر للتحرر الفكري ومراكز لنشر الفكر الوطني الحرّ، كما يريد لها الرئيس التونسي قيس سعيد، فإنها ستؤكد أن الثقافة ليست مجرد نشاط ترفيهي سياحي، بل سلاح الشعوب في مواجهة ظلم الأنظمة.
وحينذاك يمكننا القول إن مهرجانات تونس لم تعد مجرد احتفالات ترفيهية، بل رسالة إلى العالم، وإن تونس التي لبّت في فترات سابقة دعوة الفكر والفنّ في مواجهة الاستبداد، تأبى التنازل عن هذا الدور.
سبق لتونس أن احتلت مركزا طليعيا بين دول العالم في دعم حقوق المرأة وفي إنهاء العبودية، ويمكنها اليوم أن تطمح لأن تكون خط مواجهة ثقافيا أماميا ضدّ كلّ أشكال الاستبداد.