سون.. رحيل نجم ترك ظله في القلوب
 
في لحظةٍ بدت كأنها انفتاح لبوابة بين زمنين، حمل الكوري الجنوبي سون هيونغ – مين حقائبه من شمال لندن، طاويا صفحة عشرة أعوام قضاها في رحاب نادي توتنهام هوتسبير، ومتوجها إلى الضفة الأخرى من العالم، حيث المحيط الهادئ يُعانق شواطئ كاليفورنيا، وحيث نادي لوس أنجلس ينتظره.
لندن - لم تكن رحلة الكوري الجنوبي سون هيونغ – مين التي قُدّر لها أن تتم مقابل 25 مليون دولار، مجرد انتقال احترافي يُضاف إلى قائمة أخبار الصيف الكروية، بل كانت أقرب إلى هجرة عاطفية، أو بالأحرى، إلى وداع يضجُّ بملح الدموع ودفء الذكريات.
عشرة أعوام في الملاعب الإنجليزية ليست رقما سهلا، فهي زمن كامل يتشكل فيه اللاعب وينضج، وتتعاقب فيه الفصول من فرح الانتصارات إلى مرارة الهزائم. خلال هذه السنوات، لم يكن سون مهاجما عاديا يقتصر حضوره على الأهداف، بل كان شخصية ذات ملامح واضحة في ميثولوجيا النادي اللندني. كان حضوره على العشب الأخضر مشهدا بصريا كاملا: انطلاقة كالسهم، لمسة حاسمة، وابتسامة خجولة بعد التسجيل، تحمل من التواضع أكثر ممّا تحمل من غرور الإنجاز.
قدّر للوداع أن يتمّ بعيدا عن المدرجات الإنجليزية. ففي مباراة ودية على أرض كوريا الجنوبية، وأمام جماهير بلاده، ارتدى سون قميص “السبيرز” للمرة الأخيرة. كانت السماء ملبّدة بغيوم صيفية خفيفة، كأنها تستعد لأن تشارك الحشود شعور الفقد. صافرات الحضور لم تكن هتافات انتصار أو صيحات تحفيز، بل مزيجا من تصفيق حار ونبرات وداع، تلك النبرات التي تشبه صوت قلب يودع قلبا آخر.
فصل من المجد
في تلك اللحظة، لم يكن سون يودع فريقا فقط، بل كان يودع مرحلة حياتية بأكملها، حقبة شكّلت شخصيته الرياضية والإنسانية. وكان الختام على وقع مشهد خالد: الكأس الأوروبية في بلباو، حين أنهى توتنهام صياما دام 17 عاما عن الألقاب، وسون يرفع الكأس كما يرفع الأب طفله الأول، بحذرٍ وفخرٍ وحب.
في دفتر الأرقام، سجل سون 173 هدفا في 454 مباراة. أرقام ضخمة، لكنها ليست كل الحكاية. فهناك أهداف لا تُسجّل في الإحصاءات: تمريرة أهدت زميلا لحظة مجده، انطلاقة ألهبت المدرجات، أو إيماءة تضامن مع مشجع في وقت صعب. أحيانا، يكون الأثر الإنساني أعمق من الأثر الرياضي، وسون كان يجمع بين الاثنين بتوازن نادر.
انتقاله إلى لوس أنجلس ليس مجرد تغيير في الجغرافيا، بل عبور إلى ثقافة كروية مختلفة. فالدوري الأميركي لكرة القدم، وإن كان أقل توترا من نظيره الإنجليزي، إلا أنه يحمل طاقة جديدة، وقاعدة جماهيرية متنوعة، تمتزج فيها الهويات والثقافات.
في المدينة التي تعيش على إيقاع الشمس والمحيط وصناعة السينما، سيجد سون نفسه وسط جمهور لا يراه فقط كمهاجم، بل كنجم عالمي يجمع بين مهارة القدمين وحضور الشخصية. جون ثورينغتون، المالك المشارك والمدير العام للنادي الأميركي، عبّر عن وعيه بثقل هذه الخطوة حين قال “سون رمز عالمي، وأحد أكثر اللاعبين ديناميكية وإنجازا في كرة القدم المعاصرة. نحن فخورون باختياره لوس أنجلس ليبدأ فصلا جديدا من مسيرته الاستثنائية.”
◙ انتقال سون ليس حدثا معزولا، بل جزء من ظاهرة أكبر في كرة القدم المعاصرة: حركة النجوم بين القارات، حيث المال
كلماته لم تكن خطاب ترحيب عابر، بل بيان إدراك لحقيقة أن وصول سون ليس إضافة فنية فقط، بل حدث مجتمعي وثقافي. حين تحدث دانيال ليفي، رئيس نادي توتنهام، عن سون، لم يصفه فقط من حيث الأهداف أو الأداء، بل من حيث الأثر “لم يكن موهبة كروية فريدة فحسب، بل كان إنسانا نادر المثال، لمس القلوب وألهم الأرواح.”
هذه الجملة تختصر كيف تحوّل سون إلى جزء من ذاكرة النادي، ليس فقط لأنه قاد الفريق إلى لقب أوروبي، بل لأنه كان مرآة لقيم الالتزام، التواضع، والعمل الجماعي. في كرة القدم، كما في الحياة، هناك لاعبون يمرّون مرور الكرام، وهناك من يبقون في الوجدان، وسون من الفئة الثانية بلا شك.
لندن، بطقسها الرمادي وشوارعها العريقة، كانت خلفية لكل انتصاراته وانكساراته في الدوري الإنجليزي. في أحيائها الشمالية، كان يجد طريقه يوميا إلى ملعب التدريب، وسط مشجعين يعرفون كل إحصائية عنه. أما لوس أنجلس، فستقدم له فضاء مختلفا: شمس ساطعة على مدار العام، ملاعب مفتوحة على الأفق، وجمهور أكثر تنوعا في خلفياته الثقافية.
في المعمار، ستنتقل خلفية صوره من الطوب القرميدي الإنجليزي إلى زجاج الأبراج وواجهات النيون الأميركية. وفي الإيقاع، سيستبدل صرامة الجدول الإنجليزي بمرونة جدول الدوري الأميركي، ما قد يتيح له فسحة أكبر للتأمل في مسيرته.
انتقال سون ليس حدثا معزولا، بل جزء من ظاهرة أكبر في كرة القدم المعاصرة: حركة النجوم بين القارات، حيث المال، والتجربة الجديدة، وتحدي الذات، تلتقي في قرار واحد. إذا عدنا عقودا إلى الوراء، كانت مثل هذه الانتقالات نادرة، وغالبا ما تأتي في نهاية المسيرة. اليوم، باتت جزءا من ديناميكية السوق، لكنها لا تفقد بعدها العاطفي حين يكون اللاعب محبوبا إلى هذا الحد.
رحيل بطعم البقاء
سون ليس فقط لاعبا كوريا ناجحا في أوروبا، بل هو أيقونة لقارة كاملة، رمز لإمكانية أن يخرج من الشرق الأقصى نجم ينافس على أعلى المستويات في الغرب. وجوده في الدوري الإنجليزي كان بمثابة جسر ثقافي بين جماهير آسيا وأوروبا، وذهابه إلى الولايات المتحدة سيضيف ضلعا جديدا لهذا الجسر، يمتد هذه المرة عبر المحيط الهادئ.
من الناحية النفسية، أيّ انتقال كهذا يحمل طبقات من المشاعر المتناقضة: الفرح بالتجربة الجديدة، الحزن على الفقد، القلق من المجهول، والحماس لبدء صفحة جديدة. بالنسبة إلى سون، الذي عاش عقدا كاملا في بيئة واحدة، سيكون التحدي مزدوجا: التكيف مع أسلوب لعب جديد، والانخراط في نسيج اجتماعي مختلف. بالنسبة إلى مشجعي توتنهام، سيظل سون جزءا من قصصهم الشخصية مع النادي: هدف سجله في مباراة حاسمة، احتفال شاركوا فيه من المدرجات، لقاء عابر في شارع قريب من الملعب. الذاكرة الجمعية لا تحتفظ فقط بالإنجازات، بل بالمشاعر التي صاحبتها.
بعد سنوات، حين يُسأل أحدهم عن أفضل لحظاته كمشجع، ربما يذكر لحظة رفع سون للكأس في بلباو، أو هدفه في مرمى غريمه التقليدي، أكثر من أيّ صفقة أو إحصائية. قد يبتعد سون جسديا عن لندن، لكن ظله سيظل يحوم فوق مدرجات “توتنهام هوتسبير ستاديوم”. سيراه المشجعون في كل لاعب يركض على الجناح الأيسر، وفي كل ابتسامة متواضعة بعد هدف، وسيبقى صوته الصامت في ذاكرتهم يذكّرهم بأن كرة القدم ليست مجرد لعبة، بل حكاية إنسانية تتكرر بصيغ مختلفة.
الرحيل ليس نهاية القصة، بل بداية فصل جديد، ربما يحمل لسون أمجادا أخرى، وربما يحمل له هدوءا طالما افتقده في صخب البريميرليغ. لكن ما هو مؤكد، أن العقد الذي قضاه في لندن سيظل محفورا، لا في أرشيف النادي فقط، بل في أرواح أولئك الذين أحبّوا كرة القدم لأن فيها لاعبا اسمه سون هيونغ - مين.
 
    
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
        
      
     
        
      
    