دولارات النفط لا تصل إلى صيدليات إيران

رفوف الصيدليات فارغة، وأصوات الانتظار الطويل في العيادات تعلو، بينما تتباهى الدولة بالصواريخ وبرامجها العسكرية.
الأربعاء 2025/10/08
معاناة مزمنة

طهران- في طهران وعدة مدن إيرانية، تبدو رفوف الصيدليات فارغة، وأصوات الانتظار الطويل في العيادات تعلو، بينما تتباهى الدولة بالصواريخ وبرامجها العسكرية. ويجد ملايين الإيرانيين أنفسهم بين خيارين مؤلمين: شراء الدواء بأسعار باهظة في السوق السوداء أو التضحية باحتياجات أساسية أخرى.

وتقول الباحثة الإيرانية فاطمة أمان في تقرير لمجلة ناشونال أنتريست إن الواقع المرير هو أن دولارات النفط الإيرانية، التي من المفترض أن تدعم حياة الناس وتحافظ على مستوى معيشتهم، لا تصل إلى صيدلياتهم ومستشفياتهم، بل تُستثمر في برامج عسكرية ونفوذ إقليمي، تاركة المواطنين يدفعون الثمن الأكبر لأزمة متصاعدة.

وبحلول منتصف سبتمبر 2025، دخلت أزمة الدواء في إيران مرحلة أكثر حدة من أي وقت مضى. وأصبح حوالي 300 دواء أساسي نادرا، فيما اختفى نحو 100 دواء تماما من السوق، بما في ذلك أدوية لعلاج السرطان وأمراض القلب والسكري وأمراض الأطفال النادرة.

وقلصت إعادة فرض العقوبات الأممية الشاملة المعروفة بآلية «سناب باك»، وقيود الولايات المتحدة على تحويل عائدات النفط الإيرانية ، بشكل كبير قدرة الحكومة على تمويل واردات الأدوية، رغم أن الإيرادات النفطية تعتبر المصدر الأساسي للعملة الصعبة في البلاد.

وفي الوقت نفسه، تُعرض الصواريخ في الساحات والشوارع، في مشهد إعلامي يهدف إلى إظهار القوة الوطنية، بينما المستشفيات تكافح للبقاء على قيد العمل باستخدام أدوية شبه منتهية الصلاحية وأجهزة طبية تجاوزت عمرها الافتراضي منذ سنوات.

ويواجه المواطن الإيراني العادي مأساة يومية مزدوجة؛ فهو ليس مضطرًا فقط لمواجهة ندرة الدواء، بل عليه أيضًا التعامل مع أسعار السوق السوداء الخيالية التي تتضاعف مرات عديدة عن السعر الرسمي، وأحيانًا تكون الأدوية المزودة مزيفة وغير آمنة.

pp

وتضطر الأسر إلى تقليص نفقاتها على الغذاء أو الكهرباء من أجل شراء أدوية أبنائها أو علاج مرضهم المزمن. المستشفيات العامة، التي يفترض أن تكون الملاذ الأول للمحتاجين، تواجه نقصًا حادًا في الكوادر الطبية المؤهلة، بسبب هجرة الأطباء والممرضين بحثًا عن عمل مستقر وظروف أفضل خارج البلاد.

وتؤثر العقوبات الدولية، رغم أنها تستهدف في ظاهرها الحرس الثوري الإيراني وشبكاته المالية، بشكل مباشر على المواطنين العاديين، الذين يجدون صعوبة أكبر في شراء الأدوية والمعدات الطبية أكثر من شراء النفط في السوق السوداء.

وتتخوف البنوك وشركات التأمين وخطوط الشحن من فرض غرامات بملايين الدولارات لأي تعامل مع إيران، ما يجعل الاستثناءات الإنسانية مثل استيراد الأدوية بلا قيمة فعلية، ويجعل حياة المرضى الإيرانيين رهينة للسياسات الدولية والقيود المالية. لكن العقوبات وحدها لا تفسر حجم الأزمة بالكامل.

ويلعب سوء الإدارة والفساد الداخلي دورا حاسما في تفاقم نقص الدواء حيث تعتمد الصناعة الدوائية الإيرانية، رغم حجمها، بشكل كبير على المواد الخام والمكونات المستوردة.

وتضمن شبكات المحسوبية والولاءات السياسية أن يستفيد الأفراد المقربون من النخبة من ندرة الدواء، بينما يبقى المواطن العادي بلا دواء.

واستثمرت الحكومة مليارات الدولارات في مشاريع عسكرية وتوسيع النفوذ الإقليمي، لكنها أهملت المستشفيات والعيادات، فالأموال التي يُفترض أن تصل إلى صيدليات إيران تتحول إلى جيوب النخبة والمشاريع العسكرية.

وأكدت دراسات دولية حديثة أن العقوبات جعلت علاج السرطان مكلفًا وغير موثوق، بينما نقص المعدات والكوادر الطبية يزيد من صعوبة الحصول على الرعاية. وفي بعض الحالات، ينتظر المرضى أسابيع وربما شهورًا لتلقي العلاج الذي قد لا يأتي أبدًا.

وبسبب ذلك، يلجأ الكثيرون إلى السوق الرمادية، حيث تصل أسعار الأدوية إلى عدة أضعاف السعر الرسمي، وغالبًا ما تكون مزيفة أو غير آمنة. ويسافر الأثرياء لتلقي العلاج في الخارج، بينما معظم الإيرانيين لا يملكون خيارًا سوى الانتظار والمعاناة.

ويواجه الشباب الإيراني مأزقًا مزدوجًا حيث نشأ هذا الجيل تحت وطأة العقوبات والقمع، يشاهد العالم من خلال الشاشات الرقمية بينما تقيدهم القيود المحلية، ويشهدون كيف تنهار دول أخرى قريبة مثل سوريا والعراق.

oo

وكشفت احتجاجاتهم مثل حملة «امرأة، حياة، حرية» بعد وفاة مهسا أميني عن غضبهم وإبداعهم، لكنها كشفت أيضًا عن حذرهم؛ فهم يريدون التغيير لكن ليس الفوضى. وبالنسبة لهم، الحكومة تصر على التسلح، والغرب يعتمد سياسة الضغط الأقصى، ولا أحد يوفر لهم طريقًا واضحًا للكرامة أو حياة طبيعية.

وتتآكل الشرعية في إيران ببطء، لا في لحظة واحدة، من خلال طوابير الصيدليات، ومن خلال جنازات مرضى كان يمكن إنقاذهم، ومن خلال هجرة الأطباء والممرضين الذين فقدوا الأمل.

وتحمي الصواريخ وبرامج الأسلحة الدولة من الخارج، لكن المجتمع الداخلي يبقى غير آمن، فالمواطن الذي لا يستطيع الوصول إلى دوائه أبسط عناصر الأمن لديه مهدد.

ولم تترجم دولارات النفط، رغم ضخامة عائداتها، إلى صحة المواطنين أو رفاههم، تاركة الإيرانيين يدفعون الثمن غاليًا ويصارعون للبقاء على قيد الحياة وكرامتهم اليومية.

وتكشف الأزمة التناقض الصارخ بين أولويات القيادة الإيرانية التي تركز على القوة العسكرية والنفوذ الإقليمي، وبين الواقع اليومي الذي يعيشه المواطنون العاديون.

وتشكل العقوبات الدولية عامل ضغط واضح، لكنها تتفاعل مع سياسات داخلية تفضّل المصالح السياسية والاقتصادية للنخبة على حياة الناس.

وكل يوم يمر في إيران هو تذكير بأن الاقتصاد الوطني، مهما بلغت عائداته من النفط، يبقى عاجزًا عن تلبية أبسط الاحتياجات الإنسانية إذا لم تُوجه هذه الموارد بشكل فعال نحو المواطنين.

وتخلص الباحثة فاطمة أمان إلى أن ما تعيشه إيران ليس مجرد أزمة دواء أو نقص موارد، بل هو صورة حية للسياسات المتضاربة بين القوة والإنسانية، بين الصواريخ والإنسولين، بين الدولار النفطي والدواء المفقود، وبين المواطن الذي يسعى فقط إلى حياة كريمة وبين نظام يرى في الصواريخ وأوراق السياسة ما يعزز سلطته.