دروس الملكيات العربية: لماذا صمدت العروش وسقطت الجمهوريات
في خضمّ البحث عن مخرج للأزمة السورية التي طالت أكثر من عقد، يطفو بين الحين والآخر طرح غير مألوف يثير الجدل: هل يمكن أن تكون عودة الملكية صيغة لإنهاء الصراع الداخلي؟ هذا الطرح لا يستند إلى مشروع سياسي معلن، ولا إلى مبادرة إقليمية أو دولية واضحة، لكنه يعكس أزمة الشرعية العميقة التي تعيشها البلاد. فالجمهورية السورية التي وُلدت من رحم الانقلابات العسكرية تحولت إلى نظام أمني وراثي مقنّع، ومع انهيار مؤسساتها في الحرب، لم ينجح أي طرف في تقديم بديل جامع. هنا يبرز السؤال: لماذا يلوح في الأفق خيار يبدو رجعيًا في الظاهر، أي الملكية، كحلّ محتمل؟
الإجابة لا تكمن في وجود مشروع ملكي فعلي، بل في المقارنة التاريخية التي تفرض نفسها: الملكيات العربية صمدت أمام العواصف، بينما انهارت أو ضعفت معظم الجمهوريات الثورية. هذه المفارقة تفتح الباب لفهم ديناميات الشرعية والاستقرار في العالم العربي، وربما لاستخلاص دروس يمكن أن تفيد سوريا في بحثها عن صيغة حكم جديدة.
الملكيات العربية، من المغرب والأردن إلى دول الخليج، استندت إلى شرعية تاريخية ودينية متجذرة. في المغرب، الملكية العلوية تستمد شرعيتها من النسب الشريف إلى آل البيت، وفي الأردن يقدّم الهاشميون أنفسهم كحماة للقدس وورثة الشرعية الدينية، أما في الخليج فقد قامت الشرعية على القبيلة والتحالف مع المؤسسة الدينية، ثم تعززت بالثروة النفطية.
هذه الشرعية التقليدية منحت الملكيات قاعدة قبول طويلة الأمد، جعلتها تبدو كرمز جامع فوق الانقسامات. وإلى جانب ذلك، أظهرت هذه الملكيات مرونة سياسية لافتة، إذ لجأت في لحظات الأزمات إلى إصلاحات تدريجية بدل المواجهة المباشرة. المغرب أقرّ دستور 2011 الذي عزز صلاحيات البرلمان، والأردن أجرى تعديلات دستورية متكررة لتوسيع المشاركة السياسية، بينما اعتمدت ملكيات الخليج على سياسات توزيع الثروة وتوسيع الخدمات الاجتماعية لامتصاص الضغوط. وحتى في لحظة الربيع العربي، لم تسقط أي ملكية، بل أعادت إنتاج نفسها عبر إصلاحات محسوبة أو عبر تعزيز شبكات الولاء الاجتماعي والاقتصادي.
◙ جمهوريات وُلدت من رحم الانقلابات العسكريةعلى النقيض، الجمهوريات العربية التي وُلدت من رحم الانقلابات العسكرية رفعت شعارات الوحدة والاشتراكية والتحرر من الاستعمار، لكنها فشلت في بناء مؤسسات قوية. الدولة تحولت إلى زعيم فرد، والجيش إلى أداة حكم، والاقتصاد إلى رهينة الشعارات. في مصر، أنهت ثورة 1952 الملكية ورفعت شعارات العدالة الاجتماعية والوحدة العربية،
لكن بعد عقود من الحكم العسكري انتهت التجربة إلى دولة بيروقراطية مثقلة بالديون، شهدت انتفاضات متكررة ولم تستطع بناء مؤسسات ديمقراطية راسخة. في العراق، من انقلاب 1958 إلى سقوط صدام حسين عام 2003، عاش البلد تحت حكم عسكري وحزبي صارم، ورغم الثروة النفطية أُهدرت الموارد في الحروب، وانتهى الأمر بتفكك الدولة وصعود الطائفية. في سوريا، منذ انقلاب البعث عام 1963، تحولت الجمهورية إلى حكم أمني وراثي مقنّع، ومع اندلاع الثورة عام 2011 انكشفت هشاشة الدولة ودخلت البلاد في حرب أهلية مدمرة. ليبيا أطاح القذافي بملكيتها عام 1969 وأقام “الجماهيرية” بشعارات ثورية، لكن النظام انهار فور سقوطه عام 2011 تاركًا البلاد في فوضى مسلحة. أما اليمن فقد أطاح بالإمام عام 1962 وأعلن الجمهورية، لكن الدولة بقيت ضعيفة، ومع 2011 دخلت البلاد في حرب أهلية وانقسام دموي.
وسط هذا المشهد القاتم، برزت تونس كاستثناء نسبي. فهي التي أطلقت شرارة الربيع العربي، لكنها لم تنزلق إلى حرب أهلية أو انهيار شامل كما حدث في ليبيا أو سوريا أو اليمن. والسر في ذلك يرتبط بعوامل عدة، لكن أبرزها طبيعة الجيش التونسي ودوره المحدود في السياسة. فمنذ تأسيسه عام 1956، بُني الجيش التونسي على عقيدة واضحة: حماية الحدود والدولة، لا التدخل في الحكم. بخلاف جيوش عربية أخرى وُلدت من رحم حركات التحرر أو الانقلابات العسكرية، ظل الجيش التونسي بعيدًا عن اللعبة السياسية. لم ينفذ انقلابًا،
ولم يسعَ إلى الحكم، بل بقي في الثكنات وعلى الحدود. وعندما اندلعت الثورة في ديسمبر 2010 – يناير 2011، لعب دورًا حاسمًا: رفض إطلاق النار على المتظاهرين، ووقف على الحياد بين الشعب والنظام، بل ساهم في تأمين الانتقال بعد سقوط بن علي، دون أن يحاول الاستيلاء على السلطة. هذا الحياد لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة تاريخ طويل من الفصل بين السياسي والعسكري، إذ حرصت تونس منذ الاستقلال على أن لا يتحول الجيش إلى منافس سياسي. وهكذا، ظل القرار السياسي بيد الحزب الحاكم، بينما بقي الجيش مؤسسة مهنية. إلى جانب ذلك، لعب المجتمع المدني النشط دور الوسيط في الأزمات، من اتحاد الشغل إلى منظمات المحامين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، بينما وفرت الثقافة السياسية الإصلاحية المتراكمة أرضية للتفاوض بدل العنف.
◙ المفارقة أن الأنظمة التي وُلدت باسم الثورة والتغيير انتهت إلى الجمود والانهيار بينما الأنظمة التي وُصفت بالرجعية والوراثية أثبتت مرونة وقدرة على التكيف في منطقة عاصفة.
المفارقة أن الأنظمة التي وُلدت باسم الثورة والتغيير انتهت إلى الجمود والانهيار، بينما الأنظمة التي وُصفت بالرجعية والوراثية أثبتت مرونة وقدرة على التكيف. الملكيات لم تحتج إلى اختراع شرعية جديدة، بل ورثت شرعية تاريخية ودينية، واعتمدت على الإصلاح التدريجي بدل القفزات الأيديولوجية، واستندت إلى شبكات ولاء اجتماعي واقتصادي متينة. أما الجمهوريات فقد افتقدت إلى الشرعية التاريخية، وشخصنت السلطة في الزعيم، وأهدرت الموارد في الحروب والمغامرات، واعتمدت على القمع بدل المؤسسات. وتونس، وإن لم تكن ملكية، إلا أنها أثبتت أن وجود جيش محايد ومجتمع مدني قوي يمكن أن يوفر بديلًا عن الانهيار، وأن الدولة التي تُبنى على المؤسسات لا على الأشخاص قادرة على الصمود ولو بحدّه الأدنى.
في الحالة السورية، يصبح تداول فكرة “عودة الملكية” مؤشرًا على فراغ الشرعية أكثر من كونه مشروعًا واقعيًا. فالمجتمع السوري لا يملك سلالة ملكية معترفًا بها تاريخيًا يمكن أن تؤدي دورًا جامعًا، كما أن السوريين الذين ثاروا طلبًا للحرية قد يرفضون العودة إلى صيغة ملكية. لكن مجرد تداول الفكرة يعكس حاجة السوريين والإقليم إلى نموذج حكم بديل يعيد الشرعية والاستقرار. والدرس المستفاد أن الشعارات الكبرى لا تكفي لبناء دولة، وأن غياب المؤسسات يؤدي في النهاية إلى الفوضى.
الملكيات العربية ليست مثالية، لكنها قدمت نموذجًا للاستقرار النسبي في منطقة عاصفة. أما الجمهوريات الثورية فقد أثبتت أن الثورة بلا مؤسسات تتحول إلى عبء، وأن الدولة التي تذوب في شخص الزعيم تنهار بسقوطه. بالنسبة لسوريا، قد لا تكون الملكية خيارًا واقعيًا، لكن دروس الملكيات – الشرعية المتجذرة، الإصلاح التدريجي، والقدرة على لعب دور جامع – إلى جانب تجربة تونس في حياد الجيش وبناء المؤسسات، قد تكون مفاتيح لأي صيغة حكم مستقبلية.