تدويل أزمة النيل: هل يُجدي التعويل على المجتمع الدولي
في مواجهة الإجراءات الأحادية لإثيوبيا بشأن سد النهضة، صعّدت مصر تحركاتها الدولية دفاعًا عن أمنها المائي، الذي تعتبره قضية وجودية. ومع تعثر المفاوضات وغياب اتفاق ملزم، تطرح القاهرة تساؤلات مشروعة حول جدوى التعويل على المجتمع الدولي: هل يملك الإرادة والقدرة على ردع التهديدات؟ أم أن التدويل بات ورقة ضغط رمزية لا أكثر؟
القاهرة- يُمثل الأمن المائي قضية وجودية لمصر، التي تعتمد بشكل شبه كامل على نهر النيل كمصدر رئيسي لمواردها المائية، حيث يوفر أكثر من 97 في المئة من احتياجاتها للزراعة والصناعة والشرب.
وأكد وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي، خلال لقائه رئيس أوغندا يوري موسيفيني في عنتيبي، الاثنين 4 أغسطس أن مصر ستتخذ كافة الإجراءات اللازمة بما يتماشى مع القانون الدولي لحماية أمنها المائي، مشددًا على أن مياه النيل خط أحمر وأن أي إجراءات أحادية في حوض النيل الشرقي مرفوضة.
وتأتي هذه التصريحات في ظل تحديات متزايدة تهدد تدفق المياه إلى مصر، خاصة مع استمرار إثيوبيا في ملء سد النهضة دون اتفاق ملزم، ما يهدد حصة مصر السنوية البالغة 55.5 مليار متر مكعب، وفق اتفاقية 1959.
بدر عبدالعاطي: مياه النيل خط أحمر
ويعاني المصريون من نصيب فردي من المياه لا يتجاوز 550 مترًا مكعبًا سنويًا، وهو أقل بكثير من عتبة الفقر المائي العالمية البالغة 1000 متر مكعب، ما يجعل الأمن المائي أولوية إستراتيجية لضمان الأمن الغذائي والاقتصادي في بلد يعتمد على الزراعة كمحرك رئيسي للاقتصاد، حيث تستحوذ الزراعة على حوالي 80 في المئة من الموارد المائية.
وتتزايد هذه التحديات بفعل التغيرات المناخية التي تسبب تقلبات في الفيضانات وفترات الجفاف، ما يؤثر على استقرار تدفقات النيل.
ويضاف إلى ذلك النمو السكاني السريع، حيث تجاوز عدد سكان مصر 100 مليون نسمة، وهو ما يزيد الضغط على الموارد المائية المحدودة. كما يعاني النظام المائي من تدهور شبكات الري بسبب التعديات على مجاري النيل والقنوات الفرعية، ما يؤدي إلى هدر كبير في المياه.
وفي هذا السياق تبرز الإجراءات الأحادية من إثيوبيا كتهديد مباشر، حيث بدأت ملء سد النهضة منذ يوليو 2020 دون التشاور مع مصر والسودان، في انتهاك واضح لاتفاق إعلان المبادئ الموقع عام 2015، والذي ينص على عدم الإضرار بدول المصب.
وفي أغسطس 2024 أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد عن المرحلة الخامسة من ملء السد، ما أثار احتجاجات مصرية رسمية، حيث أشار وزير الري هاني سويلم إلى أن إثيوبيا تسعى إلى فرض هيمنة سياسية على نهر النيل، وليس فقط توليد الكهرباء.
وتعقد الأزمات الإقليمية، مثل الصراع في السودان والتوترات في ليبيا والقرن الأفريقي، جهود مصر لضمان استقرار التعاون على إدارة الموارد المائية، خاصة مع تزايد التهديدات الأمنية في منطقة الساحل والبحر الأحمر.وتعكس تصريحات عبدالعاطي موقفًا حازمًا يؤكد تمسك مصر بحقوقها المائية، حيث وصف مياه النيل بأنها قضية وجودية، مشيرًا إلى أن أي تهديد لها يؤثر على استقرار المنطقة بأكملها.
وفي سياقات سابقة، مثل خطابه في الأمم المتحدة في سبتمبر 2024 ومؤتمر أسبوع القاهرة للمياه في أكتوبر 2024، دعا إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن تشغيل سد النهضة، محذرًا من تداعيات الإجراءات الأحادية التي قد تؤدي إلى أزمات إنسانية واقتصادية في مصر والسودان. كما دعا إلى تعزيز التعاون مع دول حوض النيل لتحقيق منفعة متبادلة دون الإضرار بدول المصب، مشددًا على أهمية الالتزام بقواعد القانون الدولي لإدارة الأنهار العابرة للحدود.
ويتسق هذا الموقف مع جهود مصر التاريخية للحفاظ على حصتها المائية، كما نصت عليه اتفاقيات 1902 و1929 و1959 التي منحت مصر 55.5 مليار متر مكعب والسودان 18.5 مليار متر مكعب، مع استخدام حق النقض ضد أي مشروع يؤثر سلبًا على تدفق المياه.
هاني سويلم: إثيوبيا تسعى إلى فرض هيمنة سياسية على نهر النيل
وفي المقابل تثير اتفاقية إطار حوض النيل، المعروفة باسم “اتفاقية عنتيبي” الموقعة عام 2010 بين إثيوبيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا وبوروندي وانضمت إليها دولة جنوب السودان في يوليو 2024، قلقًا كبيرًا في مصر والسودان.
وتعتبر القاهرة والخرطوم أن هذه الاتفاقية تهدف إلى إنشاء مفوضية حوض النيل لإدارة الموارد المائية دون مراعاة الاتفاقيات التاريخية، ما يهدد حقوقهما المكتسبة.
وترفض مصر هذا الإطار وتطالب باتفاق ثلاثي ملزم بشأن ملء وتشغيل سد النهضة، خاصة في أوقات الجفاف، لضمان استمرار تدفق حصتها.
وفي المقابل تؤكد إثيوبيا أنها لا تحتاج إلى اتفاق ملزم، وتردد أنها لا تعتزم الإضرار بدول المصب، ما أدى إلى تجميد المفاوضات لثلاث سنوات حتى استئنافها في 2023، قبل أن تتوقف مجددًا في 2024.
وفي يوليو 2024 دعا رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي نظيره الإثيوبي آبي أحمد، خلال قمة “بريكس” في ريو دي جانيرو، إلى إبرام وثيقة تضمن عدم الإضرار بمصر، لكن هذه الدعوة لم تُترجم إلى تقدم ملموس.
ويرى محللون أنه لمواجهة هذه التحديات يمكن لمصر اتخاذ إجراءات متعددة الأبعاد. دبلوماسيًا، يمكنها مواصلة التصعيد في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كما فعلت في سبتمبر 2024 برسالة من عبدالعاطي إلى رئيس المجلس، تندد بالإجراءات الأحادية الإثيوبية. كما يمكنها حشد دعم الدول العربية ودول حوض النيل مثل أوغندا ورواندا من خلال تقديم مبادرات تنموية مشتركة، مثل آلية التمويل التي اقترحتها مصر لدعم مشاريع التنمية في دول المنبع.
وعلى سبيل المثال استثمرت مصر في مشاريع بنية تحتية في أوغندا وتنزانيا لتعزيز العلاقات الاقتصادية، ما يعزز نفوذها في المفاوضات المائية. كما يمكن لمصر الاستفادة من دورها في
الاتحاد الأفريقي، خاصة من خلال مبادرات مثل مبادرة التكيف والصمود المائي التي أطلقتها لدعم إدارة الموارد المائية في أفريقيا.
وقانونيًا يمكن لمصر اللجوء إلى محكمة العدل الدولية إذا استمرت إثيوبيا في رفض التفاوض، مع توثيق الانتهاكات الإثيوبية كدليل على خرق مبدأ عدم الإضرار المنصوص عليه في القانون الدولي. كما يمكنها الدعوة إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية محايدة تحت مظلة الأمم المتحدة لتقييم تأثير سد النهضة على دول المصب، مع التركيز على الأضرار المحتملة للزراعة والاقتصاد في مصر والسودان.
وعلى الصعيد الفني يمكن تحسين كفاءة استخدام المياه من خلال تحديث أنظمة الري، مثل اعتماد تقنيات الري بالتنقيط التي تقلل الفاقد المائي بنسبة تصل إلى 30 في المئة. كما أن استكمال مشاريع مثل قناة الري الجديدة في سيناء وتأهيل شبكات الري القديمة يمكن أن يوفرا الملايين من الأمتار المكعبة سنويًا.
وإلى جانب ذلك يمكن توسيع الاستثمار في تحلية مياه البحر، حيث أطلقت مصر محطات تحلية في العين السخنة والعلمين، بهدف توفير ما يصل إلى 3 ملايين متر مكعب يوميًا بحلول 2030، ما يقلل الاعتماد الكلي على النيل.
وإستراتيجيًا قد تلجأ مصر إلى تعزيز قدراتها العسكرية كرادع دبلوماسي، كما أشار الرئيس عبدالفتاح السيسي في 2021، عندما أكد أن أي تهديد لحصة مصر المائية سيواجه ردًا حاسمًا.
ويمكن للتعاون الأمني مع السودان وأوغندا أن يعزز هذا الردع، خاصة في مواجهة التحديات الأمنية في منطقة الساحل.
واقتصاديًا يمكن لمصر استغلال نفوذها في أفريقيا، من خلال دعم الاستثمارات في دول حوض النيل، لتشجيع هذه الدول على الضغط على إثيوبيا للوصول إلى اتفاق عادل.
وعلى سبيل المثال تقدم مصر مساعدات تنموية في مجالات الزراعة والطاقة لدول مثل بوروندي وتنزانيا، ما يعزز الروابط الاقتصادية ويخلق ضغطًا غير مباشر على إثيوبيا.
أما إعلاميًا فيمكن لمصر إطلاق حملات دولية لتسليط الضوء على تأثير سد النهضة على حياة الملايين، مع التركيز على انتهاكات إثيوبيا للقانون الدولي.
◄ التحديات تتزايد بفعل التغيرات المناخية التي تسبب تقلبات في الفيضانات وفترات الجفاف، ما يؤثر على استقرار تدفقات النيل
ومحليًا يمكن تشجيع وسائل الإعلام على توعية المواطنين بأهمية ترشيد استهلاك المياه، خاصة في القطاع الزراعي.
ويمكن للتعاون مع منظمات دولية مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن يعزز الوعي العالمي بالأزمة، خاصة من خلال تقارير توثق الأضرار المحتملة لسد النهضة. كما يمكن إشراك المجتمع المدني في حملات توعية لتعزيز الجهود الوطنية، مثل تنظيم ورش عمل ومؤتمرات حول ترشيد المياه. ويُوصى بإعطاء الأولوية للدبلوماسية الوقائية من خلال بناء تحالفات إقليمية قوية، مع تعزيز القدرات الداخلية لتقليل الاعتماد على النيل، والتصعيد القانوني بحذر إذا فشلت المفاوضات.
وفي النهاية تتطلب حماية الأمن المائي المصري نهجًا شاملاً يجمع بين الدبلوماسية الحازمة والإجراءات القانونية والتدابير الفنية والأمنية.
وتؤكد تصريحات عبدالعاطي التزام مصر بحماية حقوقها المائية بكل الوسائل المتاحة بما يتماشى مع القانون الدولي.
ومن خلال تعزيز التعاون الإقليمي وتحسين إدارة الموارد المائية وحشد الدعم الدولي يمكن لمصر مواجهة التحديات الراهنة وضمان استدامة مواردها المائية في ظل التهديدات المتصاعدة.
ويمكن للجمع بين هذه الجهود أن يحول الأزمة إلى فرصة لتعزيز الاستقرار الإقليمي والتنمية المستدامة، مع الحفاظ على حقوق مصر التاريخية في مياه النيل.