انتفاضة مؤجلة: محدودية الدعم الدولي تعرقل تحرك المعارضة الكردية الإيرانية
الجماعات الكردية الإيرانية المعارضة تشكل أحد أبرز مكونات المشهد السياسي المضطرب داخل إيران، حيث تمضي نحو تغيير النظام رغم التحديات الداخلية والخارجية التي تعيق تحركها الفعلي. ويتسم موقف هذه الجماعات بحذر واضح، ينبع من تاريخ طويل من القمع والتهميش، فضلاً عن غياب دعم دولي فاعل يضمن لها الحماية أو النجاح.
طهران- لا تزال الجماعات الكردية الإيرانية المعارضة متمسكة منذ عقود بهدف تغيير النظام في إيران، لكن هذه الرغبة تصطدم بحذر متزايد فرضته عوامل داخلية وإقليمية ودولية معقدة، تحد من قدرة هذه الجماعات على التحرك أو تبني أهداف الصراعات الأخيرة بشكل مباشر.
ويرى الباحث فلاديمير فان ويلجنبرغ في تقرير نشره معهد واشنطن أنه بينما تواصل المعارضة الكردية نضالها ضد النظام، تفرض التحديات المتشابكة واقعًا يحول دون إعلان مواقف جريئة أو تحركات عسكرية واسعة، ما يجعل أي انتفاضة كردية داخل إيران مؤجلة وغير واضحة المعالم.
ويرتبط هذا الواقع بشكل وثيق بتاريخ طويل من الصراع بين النظام الإيراني والحركة الكردية التي لم تنقطع منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979.
في ظل هذه الظروف، يظل احتمال تحرك كردي حاسم مؤجلا، في انتظار تغيرات جذرية في المشهد الإيراني أو الدعم الدولي.
وحينها، أصدر روح الله الخميني فتوى دعت إلى قتال الأحزاب الكردية التي طالبت بالحقوق السياسية والثقافية، ما أدخل الأقاليم الكردية في دائرة مستمرة من القمع العسكري والسياسي، وترسخت حالة التوتر والصراع التي لا تزال قائمة حتى اليوم.
وتكشف تجارب الحروب والاحتجاجات السابقة عن مدى عنف النظام في التعامل مع مطالب الأكراد، إذ لم تتردد السلطات في استخدام القوة المفرطة ضد أي تحركات شعبية أو مسلحة.
ومن الناحية الاجتماعية والاقتصادية، تعاني المناطق الكردية في إيران من إهمال طويل الأمد، مع ضعف في الخدمات والبنية التحتية، وتقييد حاد في استخدام اللغة والثقافة الكرديتين في الحياة العامة.
وجعل هذا التهميش شعور الإحباط واسعًا بين السكان، لكن في الوقت نفسه أثر على قدرة المعارضة على التعبئة الشعبية الواسعة، بسبب الفقر والضغط الأمني الذي يعيق تنظيم الاحتجاجات أو الانتفاضات بشكل مستمر وفعال.
وعلاوة على ذلك، تتسم هذه المناطق بتركيبة اجتماعية متعددة ومركبة، ما يجعل تحركات المعارضة معقدة، إذ يجب أن تراعي تنوع الآراء والانقسامات الأيديولوجية بين الفئات المختلفة.
وعلى الرغم من هذه الظروف، تطورت عدة أحزاب كردية في المنفى ومناطق داخلية، كل منها يحمل توجهات سياسية وأيديولوجية مختلفة. ومنذ أربعينيات القرن الماضي، تأسس حزب “الديمقراطي الكردستاني الإيراني” الذي ينادي بإيران فدرالية ديمقراطية، مستندًا إلى قاعدة واسعة في منطقة مكريان.

وفي المقابل، جاء حزب كومالا في أواخر الستينيات بتوجهات علمانية وديمقراطية، ليصبح لاحقًا منقسماً إلى جناحين، أحدهما يتبع الخط الشيوعي بقيادة إبراهيم عليزاده، والآخر بقيادة عبدالله مهتدي. كما ظهر حزب الحرية للحياة عام 2004، الذي يتبنى فكر الكنفدرالية الديمقراطية ويتميز بوجود عسكري نشط داخل إيران، لكنه يرفض الصراعات العسكرية المفتوحة، ويدعو بدلاً من ذلك إلى حكم ذاتي مشابه لتجارب في مناطق أخرى.
وأما حزب حرية كردستان فقد تأسس عام 1991 ويحمل توجهات قومية واضحة، مع قيادة واضحة بقيادة حسين يزدانبناه. وتعكس هذه التعددية في الأيديولوجيات والسياسات بين الأحزاب الكردية، الانقسامات التي تعاني منها الحركة، ما يعوق توحيد الصفوف وإطلاق تحرك شامل ضد النظام.
ويمتلك كل حزب إستراتيجيات مختلفة في التعامل مع الأزمة الراهنة، خاصة في ما يتعلق بالضربات الإسرائيلية الأخيرة التي طالبت بتغيير النظام. فبينما رحب حزب حرية كردستان بالضربات ودعا إلى انتفاضة وطنية، تبنى كل من حزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وكومالا مواقف أكثر تحفظًا، مع التركيز على رفض النظام عبر المنصات السياسية والتعبير عن الاحتجاج دون تبني كامل للحرب. وأما حزب الحرية للحياة فقد رفض الحرب بشكل قاطع، مدينًا كل من النظام الإيراني وإسرائيل، ومركزًا جهوده على بناء حكم ذاتي محلي.
ويرتبط هذا التباين بالمخاوف العميقة من ردود فعل النظام، الذي لطالما استخدم العنف لإخماد أي محاولة انتفاضة أو احتجاج شعبي. فالتاريخ يعلم الأكراد أن أي تحرك منفرد أو غير منسق قد يؤدي إلى موجة قمع دموي، كما شهدت احتجاجات مهسا أميني عام 2022، حيث اعتُقل المئات وأصيب كثيرون على يد الأجهزة الأمنية.
تجارب الحروب والاحتجاجات السابقة تكشف عن مدى عنف النظام في التعامل مع مطالب الأكراد
ويخشى الناشطون والمواطنون الأكراد من «رد فعل عنيف» قد يؤدي إلى خسائر كبيرة في الأرواح، ويمثل حائلًا كبيرًا أمام تصعيد أي شكل من أشكال المقاومة المسلحة أو المدنية.
ومن جانب آخر، تؤثر محدودية الدعم الخارجي على خيارات المعارضة الكردية، التي لا تجد نفسها في تحالفات دولية واضحة. فالجماعات الكردية في إيران تعبر عن تحفظها ورفضها لأي ارتباط وثيق بإسرائيل أو الولايات المتحدة، معتبرة أن ذلك قد يؤدي إلى فقدان الدعم الشعبي الداخلي ويفقدها مصداقيتها الوطنية.
وتزيد الشكوك الكردية بسبب السياسات المتباينة للدول الغربية تجاه قضية الأكراد؛ فبينما تدعم إسرائيل الحقوق الكردية في سوريا، تتجنب التطرق إلى قضايا الأكراد في إيران، ما يترك المعارضة في حالة من عدم اليقين حول مدى جدية هذه الدول في دعم مطالبهم الحقيقية.
ويقول أحد قادة المعارضة «لا علاقة لنا بإسرائيل أو الولايات المتحدة، وليس هناك بديل واضح للنظام أو نتائج معروفة.» وفي سياق هذه الخلفيات، يأتي الحذر الشديد الذي تتبناه الجماعات الكردية الإيرانية في تحركاتها الحالية. فبدلاً من الانجرار إلى صراعات قد لا تحقق أهدافها، يسعى قادة الأحزاب إلى إستراتيجية أكثر ترويًا، تهدف إلى المحافظة على وجودهم السياسي وتقوية قواعدهم الشعبية من خلال تنظيم إضرابات ومسيرات سلمية، كما حدث خلال احتجاجات مهسا أميني.
وأظهرت هذه الاحتجاجات قدرة الأحزاب على حشد دعم شعبي معتبر رغم القمع، لكنها لم تصل إلى مستوى اندلاع انتفاضة شاملة يمكنها أن تطيح بالنظام. وهذه الحالة من الترقب والانتظار ليست فقط نابعة من عوامل داخلية، بل تعكس واقعًا إقليميًا ودوليًا معقدًا. فالنفوذ الإيراني في المنطقة، علاوة على شبكة علاقاته الخارجية، يجعله لاعبًا صعب المواجهة، ويحد من قدرة المعارضة على الحصول على دعم خارجي فعال.
و بالإضافة إلى ذلك، فإن التحولات في المشهد الإيراني الداخلي بعد احتجاجات 2022 أكدت تراجع شرعية النظام، لكنه بقي قادرًا على استخدام أجهزته الأمنية لقمع أي محاولة تحرك شعبي جدي.
وفي هذا الإطار، تستمر حملات الاعتقال ضد ناشطي المعارضة والأكراد في المدن الكردية، حيث شهدت الأشهر الأخيرة اعتقال المئات منهم، وشن النظام حملات قمعية تشبه ما حدث عقب احتجاجات سنوات سابقة.

وتخشى المعارضة من أن يؤدي استمرار هذه الممارسات إلى «حمام دم» قد يعيد تكرار سيناريوات تاريخية مؤلمة مثل مجازر عام 1979 التي أودت بحياة آلاف الأكراد، وأثرت بشكل كبير على تحركات المعارضة لاحقًا.
ومع ذلك، لا يستبعد قادة الأحزاب الكردية احتمالية اندلاع انتفاضة شاملة في المستقبل القريب، خصوصًا مع تدهور الوضع الاقتصادي وتفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية التي تواجهها إيران. فالنظام يمر بمرحلة من التآكل في شرعيته، وهو ما يمكن أن يفتح أبوابًا أمام تحولات سياسية مفاجئة، رغم أن هذه الاحتمالات لا تزال غير مؤكدة وتعتمد على قدرة المعارضة على تجاوز الانقسامات الداخلية، وجمع دعم شعبي عريض، إضافة إلى إدارة العلاقة المعقدة مع القوى الإقليمية والدولية.
وفي النهاية، يبقى المستقبل السياسي للأكراد في إيران مرتبطًا بتطورات عدة، منها قدرة الأحزاب على بناء تحالفات داخلية وخارجية، وتحويل قاعدة دعمها الشعبي إلى حركة مقاومة موحدة وقوية، وكذلك مدى تغير موازين القوى في إيران والمنطقة.
وبينما لا تظهر حتى الآن مؤشرات واضحة لانهيار النظام، فإن التحديات التي يواجهها قد تؤدي إلى تغيير تدريجي في المشهد السياسي، مع إمكانية لعب الأحزاب الكردية دورًا محوريًا في أي تحولات مقبلة.
وإلى ذلك الحين، تظل الجماعات الكردية الإيرانية تعبر عن مواقفها بحذر وتنتظر الظروف الملائمة التي قد تتيح لها إطلاق انتفاضة أو حركة تغيير شاملة قادرة على تحقيق مطالبها العادلة دون دفع ثمن باهظ.