النجاح في غزة ليس نهاية الطريق بل بداية مسؤولية ثقيلة
واشنطن – بعد شهور من القتال الدموي في قطاع غزة، نجح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تحقيق ما بدا للكثيرين مستحيلا: وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، والإفراج عن آخر الرهائن الأميركيين والإسرائيليين المحتجزين في القطاع، غير أن هذا النجاح الكبير، الذي يُسوّق له البيت الأبيض كاختراق دبلوماسي تاريخي، لا يمثل نهاية المعركة السياسية، بل بدايتها. فالتحدي الحقيقي يبدأ الآن، حين يتحوّل الاتفاق من إعلان سياسي إلى خطة سلام متكاملة تتطلب جهدا ميدانيا، والتزاما أميركيا عميقا قد يمتد لسنوات.
ومنذ اللحظة التي أعلن فيها ترامب عن “الخطة المكوّنة من 20 نقطة” لإنهاء الصراع في غزة وبناء سلام إقليمي شامل، كان واضحا أن الأمر يتجاوز مجرد إيقاف إطلاق النار. إنه مشروع لإعادة هندسة الشرق الأوسط، وإعادة تعريف الدور الأميركي في المنطقة والعالم.
ويرى الباحث روبرت ساتلوف في تقرير نشره معهد واشنطن أن النجاح في الوصول إلى اتفاق لم يكن سوى نصف الطريق، أما النصف الآخر، وهو الأصعب، فيكمن في التنفيذ.
ومنذ بداية ولايته الثانية، سعى ترامب إلى تكريس عقيدة جديدة في السياسة الخارجية تقوم على “الصفقة الكبرى”، أي ربط الحلول الأمنية بالفرص الاقتصادية، والدمج بين النفوذ العسكري والدبلوماسية التجارية.
وقد تجلى هذا النهج بوضوح في خطة غزة، التي جمعت بين بنود لوقف القتال وأخرى لإعادة الإعمار، وأدرجت أطرافا عربية وإقليمية في قلب العملية السياسية.
ولم تولد الخطة من فراغ، فقد استندت إلى تجارب ترامب السابقة في “اتفاقيات أبراهام”، لكنها جاءت أكثر تعقيدا وطموحا. فبدلا من التطبيع الثنائي، تهدف الخطة إلى بناء منظومة إقليمية جديدة يكون فيها السلام بين إسرائيل والعرب جزءا من توازن سياسي واقتصادي شامل، يدمج الخليج ومصر وتركيا في معادلة واحدة.

لكن هذا الطموح الكبير جعل الخطة أكثر هشاشة. فكل بند فيها يرتبط بتحديات ميدانية ودبلوماسية معقدة: من نزع سلاح حماس، إلى إشراف قوات متعددة الجنسيات على الانسحاب الإسرائيلي، مرورا بتأسيس إدارة انتقالية لغزة تتولى إعادة الإعمار وضمان الأمن.
ويرى مراقبون أن ترامب، رغم رغبته المعلنة في تقليص انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يجد نفسه اليوم أمام التزام من نوع جديد. فبمجرد أن نجح في تحقيق اختراق غزة، أصبح مطالبا بالإشراف على تنفيذه وضمان استمراره.
وكما يقول أحد المحللين الأميركيين “لقد صنع ترامب نسخته الخاصة من قاعدة بوتيري بارن الشهيرة: إذا أصلحته، فقد أصبح ملكك”.
وإذا كان الرئيس الأميركي قد تمكن من وقف القتال، فإنه الآن يملك مسؤولية إدارة ما بعد الحرب: ضمان ألا يعود القتال، وأن تتحول الهدنة إلى سلام مستدام. وهي مهمة لا تقل صعوبة عن إنهاء الحرب نفسها، بل ربما تفوقها تعقيدا.
ترامب، يجد نفسه اليوم أمام التزام من نوع جديد. فبمجرد أن نجح في تحقيق اختراق غزة، أصبح مطالبا بالإشراف على تنفيذه وضمان استمراره
ويضع هذا النجاح واشنطن أمام معادلة دقيقة. فالمطلوب منها الآن الحفاظ على التوازن بين أطراف متباينة المصالح: إسرائيل التي تريد ضمان أمنها دون تقديم تنازلات كبيرة، والعرب الذين يسعون إلى دور أكبر في صياغة المستقبل الفلسطيني، وحماس التي تمسك بخيوط الداخل الغزي، والقوى الدولية التي تراقب كل خطوة من بعيد.
وتتابع الصين لترى إن كانت واشنطن قادرة على الحفاظ على التحالف العربي – الإسرائيلي تحت الضغط، بينما يراقب الروس مدى التزام ترامب بتطبيق بنود الصفقة في ظل انشغاله بملفات أوروبا وأوكرانيا.
وأما إيران، فهي تراهن على أن تستنزف الخطة واشنطن وتغرقها في تفاصيل غزة على حساب ملفات أخرى في المنطقة.
وإلى جانب هذه التحديات الخارجية، تواجه إدارة ترامب ضغطا داخليا متزايدا لتفسير سبب انخراط الولايات المتحدة مجددا في الشرق الأوسط. فبعد عقدين من محاولات الانسحاب وتقليص الالتزامات، يجد الأميركيون أنفسهم أمام خطة تتطلب وجودا سياسيا وعسكريا وإنسانيا واسع النطاق. وهنا تكمن المفارقة: رئيس رفع شعار “أميركا أولا”، يجد نفسه الآن في قلب أكثر النزاعات تعقيدا في العالم.
ويكمن أول وأصعب التحديات في نزع سلاح حماس وضمان عدم عودتها إلى النشاط العسكري. فكيف يمكن لحركة مسلحة أن تشارك في “انتحارها التنظيمي”، كما وصف أحد المحللين الأميركيين؟ قد تُقدَّم حوافز اقتصادية أو سياسية، لكن احتمالات التمرد أو الانقسام الداخلي تبقى قائمة.
والتحدي الثاني يتعلق بالترتيبات الأمنية. فانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة يتطلب نشر قوة متعددة الجنسيات لحفظ الأمن، وهو سيناريو محفوف بالمخاطر من الناحية العملياتية والسياسية. أي خطأ في التنسيق أو الاشتباك الميداني قد يعيد الأمور إلى نقطة الصفر.
وأما التحدي الثالث، فهو تأسيس إدارة انتقالية موحدة تشرف على الإغاثة وإعادة الإعمار وتطهير الأراضي من الذخائر غير المنفجرة. هذه الإدارة مطالبة بتنسيق عملها مع الأمم المتحدة ووكالاتها، لكن دون العودة إلى نموذج “الأونروا” الذي تتهمه واشنطن بإدامة الصراع أكثر من حله.
ومن جهة أخرى، على إدارة ترامب أن تدير بحذر العلاقة بين الحلفاء الإقليميين المشاركين في الخطة. فلكل من قطر وتركيا ومصر حساباتها ومصالحها الخاصة.

وتسعى الدوحة إلى الحفاظ على نفوذها عبر الوساطة، وأنقرة تريد تعزيز موقعها في السوق الأميركية عبر صفقات كبرى مع بوينغ ولوكهيد مارتن، بينما ترى القاهرة في الخطة فرصة لإعادة تثبيت دورها كقلب الدبلوماسية العربية.
لكن هذا التعدد في المصالح يمكن أن يتحول إلى صراع نفوذ إذا لم تتمكن واشنطن من ضبط الإيقاع. فالنجاح في جمع الحلفاء حول الطاولة لا يعني بالضرورة اتفاقهم على الأهداف النهائية.
وفي الجانب الإسرائيلي، يواجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مأزقا داخليا معقدا. فبينما يرى في الاتفاق فرصة لتثبيت موقعه السياسي، يخشى أن يدفع ثمن الإخفاقات التي سبقت هجوم حماس عام 2023. وقد يتحول أي قرار يتعلق بالانسحاب أو التنازلات السياسية إلى مادة انتخابية حساسة، خاصة مع اقتراب احتمال الدعوة إلى انتخابات جديدة.
وبالتالي، فإن نجاح الخطة يتوقف جزئيا على قدرة نتنياهو على تحقيق توازن بين ضرورات الأمن الداخلي ومطالب واشنطن بالالتزام الكامل ببنود الاتفاق. وهذه معادلة صعبة في مناخ سياسي إسرائيلي منقسم.
ويدرك المراقبون في واشنطن أن ترامب ليس رجل التفاصيل بقدر ما هو صانع أفكار كبيرة. غير أن تنفيذ خطة غزة يتطلب أكثر من رؤى إستراتيجية، يحتاج إلى جهاز تنفيذي ضخم يضم عسكريين وخبراء في إعادة الإعمار والاتصال المجتمعي. وهو ما لا يمكن لفريق صغير من مستشاري البيت الأبيض إنجازه وحده.
قد يتحول أي قرار يتعلق بالانسحاب أو التنازلات السياسية إلى مادة انتخابية حساسة، خاصة مع اقتراب احتمال الدعوة إلى انتخابات جديدة
وحتى مع وجود شركات استشارية أو شخصيات دولية مثل توني بلير، تبقى المهمة حكومية بامتياز، تتطلب تعبئة موارد وزارة الدفاع والخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية. فهذه الخطة تحمل اسم “ترامب”، لا اسم أي شركة.
وربما التحدي الأعمق يكمن في الداخل الأميركي نفسه. فالشعب الأميركي الذي تعب من الحروب الخارجية بحاجة إلى تفسير واضح: لماذا على بلاده أن تنخرط مجددا في الشرق الأوسط؟
والإجابة، كما يراها البيت الأبيض، أن السلام في غزة ليس قضية إنسانية فقط، بل ضرورة إستراتيجية لحماية المصالح الأميركية من الانهيار في المنطقة. فالفشل في إدارة ما بعد الحرب قد يفتح الباب أمام الفوضى، ويمنح الصين وروسيا وإيران فرصة لتوسيع نفوذها.
ومن هنا، يسعى ترامب إلى تسويق الخطة بوصفها مشروعا يخدم الأمن القومي الأميركي، لا عبئا عليه. لكنه يحتاج إلى تواصل فعّال مع الكونغرس والإعلام والرأي العام لضمان دعم طويل الأمد لهذه المهمة.
ويقول مستشار سابق في مجلس الأمن القومي الأميركي إن “اللحظة التي تُعلن فيها صفقة ناجحة، تكون هي اللحظة التي تبدأ فيها المشكلة”. وهذا ينطبق تماما على خطة غزة. فنجاح ترامب في جمع الأطراف على اتفاق لا يعني أن الطريق سيكون سهلا بعد ذلك. فكل خطوة في التنفيذ ستكون اختبارا جديدا للولايات المتحدة ولقدرتها على فرض الاستقرار.
وبقدر ما تمثل الخطة انتصارا دبلوماسيا، تحمل في طياتها مسؤولية ثقيلة: الحفاظ على سلام هش في منطقة تتقاطع فيها المصالح الدولية والإقليمية، وضمان أن لا يتحول “اليوم التالي لغزة” إلى فصل جديد من الفوضى.