العشائر المسلحة في غزة.. الوجه الآخر لتحديات الحكم بعد الحرب
حماس تواجه اليوم تحديا داخليا متصاعدا في غزة، حيث تتنامى قوة العشائر والجماعات المسلحة التي تنازعها النفوذ، ما يعكس تراجع هيمنتها المطلقة على القطاع ويضعها أمام اختبار صعب بين فرض الأمن والحفاظ على الشرعية الشعبية.
غزة- منذ سيطرتها على قطاع غزة في عام 2007 تسعى حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية، حماس، إلى ترسيخ سلطتها على القطاع عبر بناء مؤسسات أمنية وسياسية قوية، بالإضافة إلى إستراتيجيات اجتماعية تهدف إلى تعزيز حضورها بين السكان المحليين. غير أن السنوات الماضية كشفت عن هشاشة السيطرة المركزية في وجه التحديات الداخلية، التي تأتي في صورة عشائر وجماعات مسلحة محلية لها تاريخ طويل من النفوذ العسكري والسياسي، وغالبًا ما تمتلك القدرة على تعبئة مواردها ومقاتليها بشكل مستقل عن السلطة المركزية.
وتعكس هذه التحديات الداخلية تحولا مهمًا في موازين القوى داخل غزة، حيث لم تعد حماس اللاعب الوحيد الذي يمكنه فرض إرادته بسهولة على الأرض، بل أصبحت مضطرة إلى التعامل مع شبكة من الولاءات المتشابكة والمعقدة التي تتقاطع بين العشائر والتكتلات السياسية المختلفة.
وتتواجد عشيرة أبوشباب في منطقة رفح، وتعد من أبرز القوى المحلية المناهضة لحركة حماس. يقودها ياسر أبوشباب الذي استطاع استقطاب مئات المقاتلين عبر تقديم حوافز مالية مغرية، وهو ما يعكس قدرة العشيرة على تعبئة مواردها بطريقة إستراتيجية.
وتتهمه حماس بالتعاون مع إسرائيل، بينما ينفي أبوشباب هذه الاتهامات، ما يوضح حجم الصراع بين الهيمنة المركزية على الأمن المحلي والقدرة التقليدية للعشائر على الحفاظ على استقلاليتها.
مع وجود عشائر مسلحة يصبح من الصعب على أي سلطة فرض النظام بشكل كامل دون التسبب في احتجاجات أو مواجهات
وتظهر هذه العشيرة البدوية، التي يبلغ عدد مقاتليها نحو أربعمئة رجل، أن القوى التقليدية لا تزال تحتفظ بنفوذ كبير، خصوصًا في المناطق الشرقية من رفح، حيث لم يزل الاحتلال الإسرائيلي يحتفظ بوجود محدود، ما يضيف طبقة من التعقيد على العلاقات بين الفصائل الفلسطينية والسلطات الإقليمية والدولية.
وعلى الجانب الآخر، تمثل عشيرة دغمش نموذجًا آخر على القوة المحلية المقاومة للهيمنة المباشرة لحماس.
وهذه العشيرة، التي تُعد واحدة من أكبر وأقوى العشائر في قطاع غزة، لها تاريخ طويل في الانخراط في النزاعات المسلحة والسياسية.
وقاد ممتاز دغمش، زعيم العشيرة، الجناح المسلح للجان المقاومة الشعبية، وشكل لاحقًا تنظيم “جيش الإسلام”، الذي بايع تنظيم الدولة الإسلامية، الأمر الذي أضاف بعدًا دوليًا للصراعات الداخلية في غزة.
وعلى الرغم من أن ممتاز دغمش لم يظهر منذ سنوات، إلا أن أفراد عشيرته ما زالوا يشكلون قوة مؤثرة، وهو ما تجلى في الاشتباكات الأخيرة مع قوات حماس التي أسفرت عن سقوط قتلى من كلا الجانبين.
ويعكس هذا الصراع المستمر التحديات الهيكلية أمام حماس، حيث يصعب فرض نزع السلاح أو دمج العشائر المسلحة ضمن الإطار المركزي دون التسبب في صدامات قد تضر بشرعية الحركة ومصالحها الأمنية.
وأما عشيرة المجايدة في خان يونس فتجسد تعقيد الولاءات داخل القطاع. وتظهر هذه العشيرة انقسامات بين أفرادها، حيث يشارك البعض في أعمال مسلحة ضد حماس، بينما يعبر الزعيم الرسمي للعشيرة عن دعمه للحملة الأمنية التي أطلقتها الحركة.
وتشير هذه المرونة التكتيكية إلى قدرة العشائر على التكيف مع التغيرات السياسية والأمنية بما يحافظ على مصالحها ويجنبها خسائر فادحة.
هذا الوضع يضع الحركة أمام تحدٍ كبير في كيفية الحفاظ على الاستقرار
وتضم المجايدة أعضاء من حركتي فتح وحماس، ما يعكس التداخل بين الولاءات التقليدية والانتماءات الحزبية الحديثة، ويجعل المشهد الأمني أكثر هشاشة وتعقيدًا، خصوصًا في ظل اتهامات متبادلة بمحاولات تصفية خصوم أو تصعيد النزاعات العشائرية.
وحتى داخل حي الشجاعية في مدينة غزة، تظهر ديناميكيات مماثلة. وشكّل رامي حلس، مع أحد أعضاء عشيرة أخرى، مجموعة تعمل في تحدٍ لحركة حماس، مستغلة الوضع الأمني المتدهور في المناطق التي لا تزال تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي.
وتؤكد هذه التحركات أن السيطرة المطلقة للحركة على غزة ليست واقعًا ملموسًا، بل عملية مستمرة تتطلب إستراتيجيات أمنية وسياسية دقيقة للتوازن بين النفوذ العشائري والحفاظ على الاستقرار المحلي، بينما تحاول حماس تجنب خسارة الدعم الشعبي الذي تعتبره عنصرًا أساسيًا في بقائها.
ويشير عدد من الخبراء إلى أن هذه التحديات الداخلية لا يمكن فهمها بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي.
ويرى الباحث السياسي د. أحمد عبدالرحمن أن “حماس تواجه اليوم اختبارًا مزدوجًا، ليس فقط في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، بل في إدارة شبكة معقدة من الولاءات المحلية التي تتنوع بين الانتماءات العشائرية التقليدية والفصائلية الحديثة.”
ويضيف عبدالرحمن أن “أي خطأ في التقدير يمكن أن يؤدي إلى فقدان السيطرة أو اندلاع صراع داخلي واسع النطاق.”
ويتابع “الدعم الخارجي لبعض الجماعات المسلحة، سواء من أطراف إقليمية أو دولية، يزيد من تعقيد المشهد ويجعل من الصعب على حماس فرض سلطتها بشكل كامل.”
وتتجلى أهمية هذا التحليل في أن السيطرة على غزة لم تعد مسألة عسكرية بحتة، بل تتطلب مزيجًا من القدرة الأمنية والتفاهم السياسي والتوازن الاجتماعي.
وقد تؤدي الصراعات الداخلية بين العشائر والفصائل المسلحة المستقلة إلى تصعيد مستمر إذا لم تُدر بحكمة، ويبرز هذا في الحوادث الأخيرة التي شهدت عمليات تبادل إطلاق نار بين حماس وعدد من العشائر، ما أدى إلى سقوط قتلى من كلا الجانبين، وأثار مخاوف السكان المحليين من انفلات الوضع الأمني.
التحديات الداخلية تعكس تحولا مهمًا في موازين القوى داخل غزة، حيث لم تعد حماس اللاعب الوحيد الذي يمكنه فرض إرادته بسهولة على الأرض
ومن ناحية أخرى يلاحظ بعض المحللين أن العشائر تمتلك قدرة على النفوذ الاجتماعي والسياسي تجعلها لاعبًا لا يمكن تجاهله. فهي تسيطر على شبكات محلية للتجنيد والتمويل، ولديها القدرة على تعبئة المقاتلين بسرعة، ما يشكل تهديدًا لأي محاولة لفرض سلطة حماس المركزية بشكل صارم.
ويشير د. سمير حمدان، خبير شؤون الشرق الأوسط، إلى أن “التحديات الداخلية لحماس تُظهر أن الشرعية في غزة ليست مضمونة بالقوة العسكرية وحدها، بل تعتمد على قدرتها على إدارة شبكة الولاءات المعقدة والتوازن بين الضغوط المحلية والخارجية.”
وإضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤدي هذه الصراعات الداخلية إلى آثار بعيدة المدى على الاستقرار السياسي والاجتماعي في القطاع. فمع وجود عشائر مسلحة تمتلك تاريخًا طويلًا من النزاعات والمقاومة، يصبح من الصعب على أي حكومة أو سلطة فرض النظام بشكل كامل دون التسبب في احتجاجات أو مواجهات مسلحة.
وتضيف هذه العشائر، إلى جانب الجماعات المسلحة غير المنضبطة، بعدًا معقدًا للصراع، حيث يمكن استغلال أي فراغ أو ضعف في السلطة المركزية من قبل أطراف إقليمية أو دولية لتحقيق مصالحها.
وبالنظر إلى هذه الديناميكيات يبدو أن حماس تواجه اختبارًا حقيقيًا لقدرتها على إدارة غزة بعد الحرب. فهي مضطرة إلى تحقيق التوازن بين فرض السيطرة الأمنية والحفاظ على دعم السكان المحليين، بينما تتعامل مع شبكة من الولاءات العشائرية والجماعات المسلحة التي تتمتع بالقدرة على تحدي السلطة المركزية.
ويمكن لأي تصعيد أن يؤدي إلى نتائج كارثية على الصعيد الأمني والسياسي، ويزيد من تعقيد جهود إعادة الإعمار وإدارة شؤون الحياة اليومية في قطاع غزة.
وتشير الأحداث الأخيرة إلى أن حماس تواجه مرحلة حرجة، حيث يجب عليها التعامل مع صراعات داخلية عميقة، تتراوح بين تحديات العشائر التقليدية والصراعات الحزبية المعقدة.
ولم تعد السيطرة على القطاع مسألة قوة عسكرية فقط، بل تعتمد على القدرة على إدارة شبكة من الولاءات المتشابكة، وفهم الديناميكيات الاجتماعية والسياسية للأطراف المحلية، والتكيف مع التغيرات الإقليمية والدولية التي قد تؤثر على استقرار القطاع.
ويضع هذا الوضع الحركة أمام تحدٍ كبير في كيفية الحفاظ على الاستقرار، مع مراعاة مصالح السكان المحليين وتجنب الانزلاق نحو صراع داخلي قد يهدد مستقبلها في غزة.