السوريون في انتظار برلمان لا يُصفّق

استمرار سياسة التهميش والإقصاء، وإعادة إنتاج مركزية القرار التي لطالما جعلت الأطراف السورية مجرد هوامش في كتاب العاصمة.
الأحد 2025/09/14
الشرعية الحقيقية لا تُمنح من الخارج، بل تُبنى في الداخل

ليست الانتخابات في سوريا اليوم حدثا إجرائيا فحسب، ولا هي مجرد محطة عابرة في تقويمٍ سياسي يملؤه الغبار. إنها امتحان للقدرة على إعادة ترميم عقدٍ اجتماعي انكسر مراراً تحت وطأة الحرب والقمع والخذلان. ومن هنا، يبدو القرار الصادر عن اللجنة العليا للانتخابات والقاضي بتأجيل الاقتراع في محافظة الرّقة، أشبه بجرسٍ غليظ يذكّر السوريين بما يحاولون الهروب منه: فكرة الاستثناء، والإقصاء، وحرمان جزء من الجسد الوطني من حقه الطبيعي في أن يكون ممثَّلاً في صناعة القرار.

هذا الاحتجاج المرفوع إلى رئيس الجمهورية وأعضاء اللجنة العليا، لم يكن مجرد خطاب قانوني صريح يستند إلى مواد دستورية ومرسوم تشريعي. لقد كان أيضاً صرخة اجتماعية وسياسية ونفسية، نابعة من إدراك عميق بأن الديمقراطية ليست نصوصاً جامدة، بل ممارسة حية تتجذّر في تفاصيل الناس اليومية، في أسواقهم وبيوتهم وطرقاتهم، في أصواتهم حين يهتفون للكرامة، أو في صمتهم الطويل أمام ركام مدنهم.

الرّقة، المدينة التي استُهلكت في خطابات كثيرة، واحتُجزت في صور نمطية بين عاصمة للخوف وعاصمة للخذلان، تعود اليوم لتطالب بحقها البسيط: أن يكون لها صوت في البرلمان القادم.

◄ البرلمان الجديد يصبح اختبارا مزدوجا؛ اختباراً للسلطة في قدرتها على قبول المشاركة، واختبارا للشعب في قدرته على ممارسة المواطنة الواعية

حين نتأمل قرار اللجنة العليا الذي يعلّق مشاركة المحافظة بحجة “عدم توافر الظروف المناسبة”، يتبادر إلى الذهن سؤال بسيط وعميق في آن: متى كانت الظروف في سوريا مناسبة حقاً؟ هل كان النظام السابق، الذي مثّل الرّقة صورياً حتى وهي خارجة عن سيطرته، يملك بيئةً أكثر أمناً أو ظروفاً أكثر نضجاً؟ أم أن المسألة لا تعدو كونها استمراراً لسياسة التهميش والإقصاء، وإعادة إنتاج مركزية القرار التي لطالما جعلت الأطراف السورية مجرد هوامش في كتاب العاصمة؟

إن تأجيل الانتخابات في الرّقة ليس مجرد قرار تقني، بل هو إعادة ترسيم لخرائط الانتماء السياسي. فهو يكرّس، بطريقة أو بأخرى، انفصال جزء من التراب الوطني عن بقيته، ويحوّل أهل الرّقة إلى مواطنين من درجة ثانية، محرومين من أبسط حقوقهم، بينما تُحفظ “مخصصاتهم” على الورق. لكن أي معنى للمخصصات إن لم تتحول إلى حضور حيّ داخل قبّة البرلمان؟ وأي شرعية لمجلسٍ يسنّ قوانين تلزم مواطنين غُيّب ممثلوهم عن صياغتها؟

ما جاء في الاحتجاج من حجج قانونية يعكس وعيا متناميا بأن النصوص ليست ملكاً للسلطة وحدها، بل يمكن أن تصبح أداة بيد المجتمع لمساءلة السلطة نفسها. فالمرسوم التشريعي رقم 143 لعام 2025، لم يمنح اللجنة العليا أي صلاحية لتأجيل الانتخابات. بل إن مادته الحادية والخمسين طالبتها بالبحث عن آليات مبتكرة ومرنة لتجاوز العقبات. وهنا تبرز المفارقة: بدل أن تتحوّل اللجنة إلى ورشة اجتهاد دستوري وابتكار سياسي، اكتفت بإشهار سيف التأجيل.

في المقابل يتكئ المحتجون على مواد الإعلان الدستوري التي تنصّ على وحدة التراب السوري، وعلى المساواة في الحقوق والواجبات، ليؤكدوا أن القرار ينتهك روح الدستور قبل نصوصه. وهذا الوعي الجديد بالدستور كمرجع جماعي لا كأداة بيد السلطة، هو في ذاته تحوّل ثقافي عميق. إنه إعلان غير مكتوب بأن زمن “برلمانات التصفيق” قد ولى، أو أنه على الأقل يتهاوى تحت ثقل التجربة السورية المريرة.

◄ الرّقة، المدينة التي استُهلكت في خطابات كثيرة، واحتُجزت في صور نمطية بين عاصمة للخوف وعاصمة للخذلان، تعود اليوم لتطالب بحقها البسيط: أن يكون لها صوت في البرلمان القادم

في دمشق يقف مبنى مجلس الشعب القديم كتحفة معمارية مشبعة بالرمزية. جدرانه السميكة وحجارته الداكنة تحكي قصة قرنٍ من البرلمانات، بعضها وُلد من رحم الانقلابات، وبعضها الآخر عاش في ظل ديمقراطية مشوّهة، وبعضها الثالث كان مجرد ظلّ باهت لقرارات السلطة التنفيذية. تلك القبة التي كان يُفترض أن تكون فضاءً لصوت الناس، تحوّلت لعقود إلى قبة صمت، لا يُسمع فيها سوى صدى التصفيق والإجماع المصطنع.

اليوم، وبينما تستعد سوريا لانتخابات يُفترض أن تكون بداية لعصر جديد، يعود السؤال عن معنى البرلمان ذاته: هل هو مجرد مبنى تُعقد فيه الجلسات، أم أنه فضاءٌ رمزي يختزل توازنات المجتمع ووعيه بذاته؟ إذا غاب ممثلو الرّقة عن القبة، فهل يظل البرلمان فعلاً قبةً للكل، أم يتحول إلى قبّة ناقصة، كقبّة مهدّمة في مدينة ضربها القصف؟

التحقيقات الصحفية التي رصدت آراء المواطنين تعكس تنوعاً مدهشاً في التطلعات والمطالب. المواطن الذي يرفض أن يكون البرلمان مجرد مسرح دمى يُحرَّك بالريموت كونترول، يلتقي مع آخر يريد مجلساً يسنّ قوانين تخدم الزراعة، ومع ثالث يطالب ببرلمان غير “مشخصن” يعي أن المقعد النيابي ليس امتيازاً شخصياً بل ملك للشعب.

هذه الأصوات، وإن بدت متفرقة، ترسم معاً لوحة جديدة للوعي الشعبي: الناس لم يعودوا يرضون ببرلمان الموافقة بالإجماع، ولم يعودوا يقبلون أن يكونوا مجرد جمهور يتفرج على مسرحية سياسية متكررة. لقد اكتشفوا أن لهم الحق في أن يكونوا جزءاً من النص، لا مجرد هوامش في كتاب السلطة.

لا يمكن الحديث عن برلمان جديد دون ربطه بالهمّ المعيشي. فمن ذا الذي يهتم بالقوانين الكبرى إن كان عاجزاً عن شراء الخبز؟ المواطنون الذين تحدثوا عن ضرورة دعم الزراعة والصناعة والمشاريع الصغيرة، إنما يربطون بين السياسة وحياتهم اليومية. فالديمقراطية بالنسبة إليهم ليست مفهوما نظريا مجردا، بل هي قدرة البرلمان على سن قوانين تؤمّن الأسمدة والبذار، وتخفّض أسعار السلع، وتعيد توزيع الثروة المنهوبة.

بهذا المعنى يصبح البرلمان ليس فقط قبّة سياسية، بل أيضا مخبزا رمزيا يعجن خبز الحرية مع خبز القمح. وإذا فشل في ذلك، فلن يختلف كثيراً عن برلمانات الماضي التي كانت تُشرّع الفقر والجوع باسم الشعب.

من أكثر الأصوات قوّة تلك التي طالبت بتشريعات لمحاسبة من أجرم بحق السوريين، وهدم المدن فوق رؤوس سكانها، وهجّر الناس من بيوتهم. هذه المطالب ليست ثأراً بقدر ما هي بحث عن عدالة انتقالية، تُطفئ نيران الانتقام بقدر ما تفتح أبواب المصالحة.

لكن المصالحة لا تأتي من فراغ. إنها تحتاج إلى برلمان يملك الجرأة على الاعتراف بالانتهاكات، وعلى سن قوانين تُعيد الحقوق لأصحابها، وتُجرّم بث الفتن والأحقاد. إنها معادلة دقيقة بين الصفح والمحاسبة، بين العدالة والرحمة، بين القانون والذاكرة.

حين يُعلن النظام الانتخابي الجديد تخصيص 20 في المئة من المقاعد للمرأة، فإنه يفتح نافذة صغيرة على تغيير أوسع. لكن المرأة السورية، التي دفعت أثمان الحرب باهظة، لا تريد مجرد مقاعد محجوزة، بل تطمح إلى مشاركة فعلية في صياغة القوانين والسياسات. وكذلك الشباب، الذين شكّلوا عصب الثورة والاحتجاجات والحراك المدني، يتطلعون إلى أن يكونوا أكثر من مجرد صورة رمزية في البرلمان.

◄ تأجيل الانتخابات في الرّقة ليس مجرد قرار تقني، بل هو إعادة ترسيم لخرائط الانتماء السياسي. فهو يكرّس، بطريقة أو بأخرى، انفصال جزء من التراب الوطني عن بقيته

إنَّ مشاركة هؤلاء ليست ترفا سياسيا، بل هي شرط لبقاء الحياة السياسية نفسها. فالمجتمع الذي يقصي نصفه، أو يتجاهل شبابه، هو مجتمع يشيخ بسرعة ويفقد قدرته على التجدد.

إن التحديات أمام الاستحقاق الانتخابي جسيمة: من غياب الإحصاءات المحدثة، إلى عدم وجود حوكمة انتخابية شفّافة، إلى مناطق لا تزال خارج السيطرة. ومع ذلك، فإن مجرد وجود رقابة دولية ومجتمعية يُعتبر خطوة رائدة على مستوى المنطقة.

لكن الشرعية الحقيقية لا تُمنح من الخارج، بل تُبنى في الداخل، من خلال ثقة الناس بأن أصواتهم تُحتَرم، وأن البرلمان القادم سيكون مختلفاً عن كل ما سبق. وإذا لم تتحقق هذه الثقة، فإن أي شرعية دولية ستبقى ناقصة، وأي بناء سياسي سيظل هشّا.

إنّ السوريين الذين عانوا أربعة عشر عاماً من الحرب، وتحوّلوا إلى لاجئين ومهجّرين وفقراء ومعتقلين، لم يعودوا يطلبون المعجزات. هم يريدون فقط برلماناً يُمثلهم، لا يُمثل عليهم؛ برلماناً يكتب نصوصهم لا نصوص السلطة وحدها، ويعكس تنوعهم لا لونا واحدا.

يصبح البرلمان الجديد اختبارا مزدوجا؛ اختباراً للسلطة في قدرتها على قبول المشاركة، واختبارا للشعب في قدرته على ممارسة المواطنة الواعية. بين هذين الاختبارين تتشكل ملامح سوريا الجديدة، سوريا التي تحاول أن تخرج من ركام الحرب لتبني بيتا سياسيا جديدا، بيته الأساسي قبة البرلمان، حيث لا يعود التصفيق إجباريا، ولا تصبح الموافقة بالإجماع قدرا، بل يتحول الاختلاف إلى ثروة، والمساءلة إلى حق، والمواطنة إلى عقدٍ جديد يربط بين الدولة والناس.

6