السودان: جرح يتجاوز حدود الحرب

ما يجري في السودان يذكّرنا بأن بعض الأطراف ما زالت ترى في هذه الأسلحة وسيلة لتحقيق مكاسب عسكرية سريعة حتى لو كان الثمن آلاف الأرواح البريئة.
الخميس 2025/09/04
العقوبات لا تحمي المدنيين

منذ اندلاع الحرب في السودان في نيسان/أبريل 2023 يعيش السودانيون واحدة من أعقد المآسي الإنسانية في العصر الحديث. حرب بدأت كصراع على السلطة بين الجيش وقوات الدعم السريع ثم تحولت مع مرور الأشهر إلى كارثة شاملة تمس حياة كل مواطن. في البداية كانت المأساة مرتبطة بالرصاص والقذائف ثم بالنزوح والجوع والانهيار الاقتصادي. غير أنّ ما جرى لاحقاً تجاوز ذلك كلّه حين تكشفت تقارير تؤكد استخدام الأسلحة الكيميائية.

إن الأسلحة الكيميائية ليست مجرد سلاح إضافي في ميدان المعركة. هي أدوات تفتك بالحياة ذاتها ولا تفرّق بين جندي أو طفل ولا بين مقاتل أو امرأة نازحة تبحث عن مأوى. حين يتسرّب غاز الكلور مثلا إلى الجو يتحول الهواء إلى عدو خفي يهاجم الرئتين ويسبب الحروق والاختناق والموت البطيء. مشهد كهذا لا يحتاج إلى الكثير من الخيال لفهم فداحته إذ يكفي أن تتصور أمًّا تحتضن طفلها فيما يحاول كلاهما التنفس دون جدوى.

عندما ظهرت الأنباء الأولى عن هذه الهجمات تعامل البعض معها وكأنها مجرد تضخيم للأحداث بين أطراف الصراع. لكن المؤشرات أخذت تتزايد؛ منظمات حقوقية رصدت آثارا لا يمكن إنكارها على أجساد الضحايا. تقارير أميركية وأوروبية خلصت إلى أنّ الجيش السوداني استخدم الغاز في عملياته ضد قوات الدعم السريع، خصوصاً في المناطق المكتظة. الإعلان الرسمي جاء في مايو 2025 حين أعلنت الولايات المتحدة بشكل واضح أنّ لديها أدلة قاطعة على استخدام غاز الكلور، ما فتح الباب أمام عقوبات صارمة.

هذه العقوبات التي دخلت حيز التنفيذ في يونيو 2025، لم تكن عابرة. فقد شملت قيودا على صادرات التكنولوجيا والمعدات العسكرية وتعليق برامج المساعدة غير الإنسانية وتجميد جزء من التعاملات الاقتصادية. صحيح أنّها استثنت الغذاء والدواء وبعض أشكال الدعم الإنساني لكنّها حملت رسالة سياسية واضحة: المجتمع الدولي لن يقبل استخدام السلاح الكيميائي.

◄ السودان يقف الآن عند مفترق طرق؛ فإما أن تتحرك القوى الدولية لإيقاف الانتهاكات وحماية المدنيين وإما أن يستمر هذا الجرح مفتوحا ليبتلع أجيالا جديدة

ومع ذلك يبقى السؤال مؤلما: هل العقوبات كافية لحماية المدنيين؟ التجربة التاريخية تقول إن العقوبات الاقتصادية كثيرا ما تصيب الشعوب أكثر مما تضغط على الأنظمة. في السودان حيث الناس أصلاً يعيشون على حافة الجوع والنزوح يمكن أن تتحول هذه الإجراءات إلى عبء إضافي. ومن هنا تظهر الحاجة إلى تحرك آخر، أكثر جدية وإنسانية: تحقيق دولي مستقل يحدد المسؤوليات بوضوح ويقدم المتورطين إلى العدالة.

المأساة في السودان اليوم ليست أرقاما أو بيانات دبلوماسية فقط. هناك قصص إنسانية تتوالى كل يوم؛ مدنيون عاديون يستنشقون غازا ساما لم يختاروه، أطفال يموتون بصمت لأن الهواء حولهم تلوّث بالسموم، قرى كاملة تحولت إلى ساحات أشباح بعد أن هجرها سكانها خوفا من عودة الهجوم. هذه القصص لا تُروى كثيرا في نشرات الأخبار، لكنها تعيش في ذاكرة من بقي على قيد الحياة.

استخدام الأسلحة الكيميائية لا يجرّد الحرب من بعدها الإنساني فقط، بل يكشف أيضا حجم الانهيار في احترام القانون الدولي. منذ توقيع اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية كان هناك أمل في ألا تتكرر مشاهد الغازات السامّة التي ملأت خنادق الحرب العالمية الأولى. ما يجري اليوم في السودان يذكّرنا بأن بعض الأطراف ما زالت ترى في هذه الأسلحة وسيلة لتحقيق مكاسب عسكرية سريعة، حتى لو كان الثمن آلاف الأرواح البريئة.

الجانب الأخلاقي في هذه القضية أكبر من الجانب السياسي. العالم لا يمكن أن يسمح بمرور هذه الجريمة دون رد فعل حاسم. التهاون هنا يعني فتح الباب أمام دول أخرى لاستخدام السلاح نفسه متى ما وجدت نفسها في مأزق عسكري. لذلك فإن المطلوب اليوم ليس فقط عقوبات اقتصادية، بل بناء موقف دولي صارم، يتضمن محاسبة واضحة وعلنية.

السودان يقف الآن عند مفترق طرق؛ فإما أن تتحرك القوى الدولية لإيقاف الانتهاكات وحماية المدنيين، وإما أن يستمر هذا الجرح مفتوحا ليبتلع أجيالا جديدة. الناس في الخرطوم ودارفور وكردفان لم يعودوا يبحثون عن انتصارات سياسية، هم يبحثون عن شيء أبسط بكثير: أن يستيقظوا صباحا وهم قادرون على التنفس.

الأسلحة الكيميائية أضافت إلى الحرب السودانية بعدا أكثر ظلمة، بعداً يطال الضمير الإنساني نفسه. وما لم تتحرك الدول الكبرى والمؤسسات الدولية بشكل جاد، ستظل هذه المأساة شاهدا على عجز العالم عن حماية أبسط حقوق الإنسان: حقه في الحياة وحقه في أن يتنفس بحرية.

السودان لا يحتاج خطابات جديدة، يحتاج فقط أن ينتهي هذا الكابوس، وأن يُترك لشعبه حق العيش بسلام.

8