السودان الجديد: هل رؤية حميدتي أقرب إلى الواقع من رؤية البرهان
الحرب في السودان أكثر من مجرد نزاع عسكري؛ فهي صراع على مستقبل الدولة وهويتها السياسية بين نموذج الحكم المركزي التقليدي ورؤية التعددية واللامركزية. هذا الصدام يعكس تحديا حقيقيا في بناء حكم شامل يعكس التنوع العرقي والسياسي ويضمن العدالة والمساواة لجميع السودانيين، ويحدد فرص البلاد في تحقيق سلام مستدام وبناء دولة جديدة.
الخرطوم - يمثل الصراع في السودان اليوم أكثر من مجرد نزاع عسكري على السلطة؛ فهو حرب على المستقبل السياسي والاجتماعي للدولة السودانية.
ويرى الوزير البلجيكي السابق ومؤسس منظمة حقوق الإنسان بلا حدود ويلي فوتري في تقرير نشرته مجلة مودين بوليسي أن الحرب الجارية هي “حرب رؤى” بين نموذج الحكم المركزي التقليدي بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، ورؤية التعددية واللامركزية التي يطرحها محمد حمدان دقلو (حميدتي) وقوات الدعم السريع.
ويبرز حميدتي كرجل من الشعب، متجذر في دارفور والسودان الريفي، متخليا عن تقاليد النخبة الحضرية المركزية.
وتشير تحالفاته مع حركات مسلحة مثل حركة تحرير السودان – الشمال وجبهة العدالة والمساواة إلى فهمه لأهمية حكم لا مركزي يعكس التنوع العرقي والسياسي في البلاد.
ويستند خطاب حميدتي الشعبي والأفريقي إلى قيم العدالة والمساواة وحقوق المواطن، ويطمح إلى دولة شاملة تمثل كافة المناطق السودانية، بعيدًا عن إرث “الدولة العميقة الإسلامية” في الخرطوم.
حميدتي يطرح خيارا أقرب إلى التعددية واللامركزية، في حين يرمز البرهان إلى النموذج التقليدي المركزي العسكري الإسلامي.
ويمكن النظر إلى حميدتي وريثًا لرؤية جون قرنق للسودان الجديد، القائمة على الفيدرالية، التعددية السياسية، والحكم الشامل، والتي كانت جزءًا أساسيًا من اتفاقية السلام الشاملة 2005 قبل وفاة قرنق وانحرافها بفعل نظام عمر البشير الإسلامي.
وتمثل إستراتيجيات حميدتي الأخيرة لتعزيز صورته كفاعل سياسي تحولا من ميليشيا قمعية إلى قوة سياسية تمثل الأطراف المهمشة، وهو ما يضعه في موقع أقرب إلى تحقيق رؤية “السودان الجديد.”
وفي المقابل، يمثل البرهان والقوات المسلحة السودانية نموذج الحكم المركزي التقليدي، الذي يدمج بين الجيش والنخبة الحاكمة مع إرث الحكم الإسلامي.
وبعد انقلاب 2021، حاول البرهان إعادة إدخال الشخصيات الإسلامية في مؤسسات الدولة، وتوطيد قاعدة القوات المسلحة التقليدية، وإحياء عناصر الحرس القديم للمؤتمر الوطني.
وتعكس هذه الخطوات تمسكه بالنظام القديم الذي يهيمن فيه المركز على الأطراف، ويستبعد نموذج الحكم الفيدرالي والشامل الذي يطرحه حميدتي.
وتشير التقارير إلى أن هذا النهج المركزي يقود إلى تكرار فشل اتفاقيات السلام السابقة، مثل اتفاقية جوبا 2020، التي كانت مركزية ومتمركزة حول النخبة، ولم تحقق دمجا حقيقيا للقوى المتمردة ضمن قوة وطنية موحدة.
ويعزز هذا النهج السيطرة من الأعلى على حساب الشرعية الشعبية، ما يؤدي إلى صراعات أمراء الحرب المتخفية تحت غطاء الحكم.
ويبدو المستقبل السوداني مرتبطا بالقدرة على تجاوز ثنائية “الوحدة مقابل الانفصال”، وبناء نموذج حكم لا مركزي، متعدد الطبقات، مستند إلى شرعية محلية ومؤسساتية.
وهذا النموذج أقرب إلى موقف حميدتي منه إلى موقف البرهان، مما يضع الصراع في إطار صراع رؤى جوهري وليس مجرد صراع على السلطة العسكرية.
وإذا فشل صانعو القرار الدوليون في دعم الانتقال نحو حكم شامل وعادل، فإن السودان يواجه العودة إلى دائرة النزاع المسلح والانقسام، وهو ما يعكس ضرورة التفهم العميق للتاريخ السوداني والتوترات المركزية مقابل مطالب الفيدرالية والتعددية.
ويتطلب السلام المستدام في السودان تجاوز النموذج المركزي القديم، والانتقال إلى حكم مدني مسؤول، جذوره شعبية، وقادر على استيعاب التنوع العرقي والسياسي.
وستعيد أي حلول سريعة أو جزئية السودان إلى المربع الأول، بينما الحل الشامل يعتمد على الالتزام بالسلام وبناء المؤسسات وتوزيع السلطة بما يتوافق مع تطلعات جميع السودانيين.
ومنذ حصول السودان على استقلاله عن الحكم البريطاني والمصري عام 1956، شهدت البلاد صراعات مستمرة بين المركز والأطراف.
وكان الصراع الأكثر بروزا بين شمال السودان، المهيمن سياسيا واقتصاديا، وجنوب السودان الذي عانى من التهميش طويل الأمد، ما أدى إلى سلسلة حروب أهلية متقطعة استمرت لعقود.
وإضافة إلى ذلك، شهدت مناطق دارفور، والنيل الأزرق، وجنوب كردفان صراعات مسلحة متكررة بسبب التفاوت في توزيع الموارد والتمثيل السياسي، وهو ما جعل هذه المناطق بؤرا مستمرة للتوتر وعدم الاستقرار.
ويرجع جزء كبير من هذه الأزمة إلى ضعف سياسات التنمية المركزية التي ركزت على العاصمة الخرطوم والمناطق الشمالية، تاركة الأطراف الريفية تعاني من التهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
وكان للجيش السوداني دور محوري في المشهد السياسي منذ الانقلاب العسكري الأول في 1958. فقد شكل الجيش حجر الزاوية في الحفاظ على الحكم المركزي، حيث تولى الحكم مباشرة أو لعب دورا مهما في تثبيت سلطات مدنية محسوبة عليه.
منذ حصول السودان على استقلاله عن الحكم البريطاني والمصري عام 1956، شهدت البلاد صراعات مستمرة بين المركز والأطراف
ومع مرور الوقت، أدت سيطرة العسكر على السلطة إلى ضعف المؤسسات المدنية وغياب استقلالية الدولة، مما جعل السودان أكثر اعتمادا على السلطة المركزية ونخبة العاصمة، وهو ما أعاق تطوير نموذج حكم اتحادي أو لامركزي قادر على دمج الأطراف المهمشة.
وعلى المستوى السياسي، ساهمت سلسلة الانقلابات العسكرية المتعاقبة، بدءا من انقلاب إبراهيم عبود عام 1958، مرورا بالانقلاب العسكري بقيادة جعفر النميري في 1969، وانتهاء بحكم عمر البشير من 1989 وحتى 2019، في ترسيخ ثقافة الحكم المركزي القائم على الجيش والنخبة، مع تقليص دور المجتمعات المحلية والأقاليم في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية.
وأدى هذا النمط من الحكم إلى تفاقم شعور الأطراف بالإقصاء، وخلق أرضية خصبة للصراعات المسلحة والانشقاقات السياسية، كما ساهم في استمرار دور القوى الموازية مثل الحركات المسلحة التي تأسست للدفاع عن حقوق المناطق المهمشة.
كما أن التوتر بين المركز والأطراف لم يكن فقط سياسيا، بل امتد إلى الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ اعتمدت سياسات الخرطوم على توزيع الموارد بشكل غير متساوٍ، ما أضعف الاقتصاد الإقليمي وترك مناطق كاملة تعاني من الفقر، ونقص البنية التحتية، وانعدام الخدمات الأساسية.
وقد عزز هذا الواقع الشعور بعدم العدالة لدى سكان الأطراف، وجعل مطالبهم بالتمثيل السياسي الفعّال وإعادة توزيع السلطة أكثر إلحاحًا، وهو ما يعكس أهمية رؤية الحكم اللامركزي والتعددية التي يطرحها حميدتي في الوقت الراهن.