الخوارزميات نفط العالم الجديد والشرق الأوسط في قلب التحول

صناديق الثروة السيادية الخليجية قادرة على إعادة تشكيل خريطة الذكاء الاصطناعي.
الجمعة 2025/10/03
حين تتبدل الطاقة وتولد الرؤية

منذ منتصف القرن العشرين، حين غيّر النفط وجه الخليج، ارتبط اسم المنطقة بالطاقة والنفوذ. واليوم، يقف الشرق الأوسط أمام منعطف جديد، حيث يطل الذكاء الاصطناعي باعتباره “النفط الجديد” ليعيد تشكيل الاقتصاد والسياسة ويحدد ملامح المستقبل.

في منتصف القرن العشرين، حين اكتُشف النفط بكميات هائلة في الخليج، لم يكن أحد يتصور أن هذه المنطقة التي كانت تُعرف بالصحراء “القاحلة” ستتحول إلى مركز ثقل عالمي. بالنسبة إلى أهالي المنطقة النفط لم يكن مجرد مورد اقتصادي، بل كان بطاقة دخول إلى نادي القوى المؤثرة، وأداة لإعادة رسم خرائط النفوذ والتحالفات. واليوم، بعد مرور عقود، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه ولكن بأدوات مختلفة: الذكاء الاصطناعي يطل باعتباره “النفط الجديد”، والشرق الأوسط يستعد مرة أخرى ليكون في قلب التحول.

اليوم، لم يعد ينظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره تقنية عابرة، بل هو منظومة كاملة تحتاج إلى استثمارات ضخمة في مراكز البيانات، وأشباه الموصلات، والبنية التحتية الرقمية. هذه ليست مشاريع يمكن أن تمولها شركات ناشئة أو مستثمرون أفراد، بل تحتاج إلى مليارات الدولارات وصبر استراتيجي طويل الأمد. هنا بالضبط يبرز دور صناديق الثروة السيادية الخليجية، التي تدير أكثر من أربعة تريليون دولار، وتتحول تدريجيًا إلى قوة مالية وإستراتيجية قادرة على إعادة تشكيل خريطة الذكاء الاصطناعي عالميًا.

في القرن الماضي، كان النفط يمنح هذه الدول القدرة على التأثير في أسعار الطاقة العالمية، وبالتالي في اقتصادات الدول الكبرى. أما اليوم، فإن الذكاء الاصطناعي يمنحها القدرة على التأثير في البنية التحتية الرقمية التي ستحدد شكل الاقتصاد العالمي لعقود قادمة. وكما كان النفط موردًا لا غنى عنه لتشغيل المصانع والسيارات والطائرات، فإن الذكاء الاصطناعي أصبح موردًا لا غنى عنه لتشغيل المصارف، والمستشفيات، والجيوش، وحتى الحكومات.

في السعودية، يتجسد هذا الطموح في مبادرة “هيومين”، الشركة الجديدة التي تسعى إلى أن تكون منصة وطنية للذكاء الاصطناعي. دخول شركتي بلاكستون وبلاك روك في محادثات لتمويل مليارات الدولارات في مراكز البيانات والبنية التحتية المرتبطة بها ليس مجرد صفقة مالية، بل إشارة إلى أن المملكة تريد أن تكون في قلب السباق العالمي. ورغم التحديات التي تواجه “رؤية 2030″، مثل تقلب أسعار الطاقة وتراجع بعض مؤشرات الاستثمار الأجنبي المباشر، فإن الالتزام السياسي والمالي بتطوير “هيومين” يعكس إصرار القيادة السعودية على جعل الذكاء الاصطناعي ركيزة أساسية في مشروع التحول الاقتصادي.

الاستثمار في الذكاء الاصطناعي ليس خيارًا اقتصاديًا فقط، بل مشروع إستراتيجي يعيد تشكيل النفوذ

قطر بدورها اختارت أن تضع بصمتها عبر جهاز قطر للاستثمار، الذي ساهم بمبالغ ضخمة في جولة تمويل شركة “أنثروبيك” الأميركية، والتي بلغت 13 مليار دولار، لتصل قيمة الشركة إلى 183 مليار دولار. الاستثمار في الذكاء الاصطناعي ليس مجرد رهان مالي، بل جزء من إستراتيجية أوسع أعلن عنها محمد الحردان، رئيس قسم التكنولوجيا والإعلام والاتصالات في الصندوق، الذي أكد أن الجهاز يخطط لإتمام ما يصل إلى 25 صفقة تكنولوجية بحلول العام المقبل. قطر هنا لا تكتفي بدور الممول، بل تسعى إلى أن تكون شريكًا إستراتيجيًا في رسم ملامح صناعة الذكاء الاصطناعي العالمية، تمامًا كما فعلت سابقًا حين استثمرت في الإعلام والرياضة لتكسب نفوذًا يتجاوز حجمها الجغرافي.

أما الإمارات، فقد اختارت طريقًا مختلفًا لكنه لا يقل طموحًا. عبر شركة “إم جي إكس” التي تأسست العام الماضي في أبوظبي، تسعى الدولة إلى تجاوز أصول بقيمة 100 مليار دولار، وقد دخلت بالفعل في شراكة مع “سيلفر ليك” للاستحواذ على 51 في المئة من وحدة تابعة لشركة “إنتل” لإنتاج الرقائق القابلة للبرمجة. هذه الخطوة تعكس إدراكًا إماراتيًا بأن السيطرة على سلاسل توريد أشباه الموصلات – القلب النابض للذكاء الاصطناعي – هي مفتاح النفوذ في الاقتصاد الرقمي. ومن خلال هذه الاستثمارات، تضع الإمارات نفسها في موقع إستراتيجي حساس، حيث تلتقي التكنولوجيا بالسياسة بالاقتصاد.

لكن كما كان النفط في القرن الماضي ساحة صراع بين القوى الكبرى، فإن الذكاء الاصطناعي اليوم لا يخرج عن هذا السياق. خلال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للشرق الأوسط، وُقعت صفقات في مجال الذكاء الاصطناعي، لكن سرعان ما ظهرت خلافات داخلية في واشنطن، حيث أعرب مسؤولون أميركيون عن قلقهم من انخراط الصين في مشاريع الذكاء الاصطناعي بالمنطقة، محذرين من مخاطر محتملة على الأمن القومي والمصالح الاقتصادية الأميركية. هذه المخاوف تعكس الطبيعة الحساسة للتكنولوجيا، التي لم تعد مجرد صناعة، بل ساحة صراع إستراتيجي بين القوى الكبرى.

ورغم هذه العقبات، تصف سارة مارتينز غوميز، مديرة الذكاء الاصطناعي والبيانات في “ديلويت”، جهود الشرق الأوسط بأنها “مربحة للجميع”. فهي ترى أن المنطقة بحاجة إلى انفتاح عالمي، وأن الشركات الدولية ستستفيد من الشراكات مع صناديق الثروة السيادية الخليجية، التي لا توفر التمويل فحسب، بل تقدم أيضًا بيئة تشغيلية مميزة بفضل وفرة الطاقة الرخيصة، وهو عنصر أساسي لتشغيل مراكز البيانات الضخمة.

25

صفقة تكنولوجية من ضمنها الذكاء الاصطناعي يخطط جهاز قطر للاستثمار لإتمامها بحلول العام المقبل

المفارقة أن التاريخ يعيد نفسه بطريقة مختلفة. ففي القرن الماضي، كان النفط يمنح الخليج القدرة على شراء النفوذ عبر إمدادات الطاقة، واليوم يمنحه الذكاء الاصطناعي القدرة على شراء النفوذ عبر إمدادات البيانات. النفط كان يحدد من يملك مفاتيح المصانع، أما الذكاء الاصطناعي فيحدد من يملك مفاتيح المستقبل. النفط كان يحدد من يسيطر على حركة السفن والطائرات، أما الذكاء الاصطناعي فيحدد من يسيطر على حركة المعلومات والخوارزميات.

هذا التحول لا يقتصر على الاقتصاد، بل يمتد إلى السياسة الخارجية. فالدول التي تستثمر في الذكاء الاصطناعي لا تشتري فقط أسهمًا في شركات ناشئة، بل تشتري أيضًا مقعدًا على طاولة المفاوضات العالمية حول مستقبل التكنولوجيا. ومن خلال هذه الاستثمارات، تضمن دول الخليج أن تكون جزءًا من النقاشات حول معايير الذكاء الاصطناعي، وأخلاقياته، وتطبيقاته في الأمن والدفاع والاقتصاد.

كما أن لهذه الاستثمارات بعدًا داخليًا مهمًا. فهي تساهم في خلق فرص عمل جديدة، وتدفع الشباب نحو مجالات البحث والابتكار، وتفتح الباب أمام بناء منظومات تعليمية وبحثية متقدمة. وإذا نجحت هذه الدول في ربط استثماراتها الخارجية ببرامج تطوير محلية، فإنها قد تحقق قفزة نوعية في بناء اقتصاد معرفي مستدام.

في المحصلة، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي بالنسبة للشرق الأوسط ليس مجرد فرصة اقتصادية، بل هو مشروع استراتيجي شامل يعيد تعريف العلاقة بين المال والتكنولوجيا والنفوذ. وإذا كان النفط قد منح المنطقة وزنها في القرن الماضي، فإن الذكاء الاصطناعي قد يكون هو الذي يمنحها وزنها في القرن المقبل. وبينما ينشغل العالم بصراع القوى الكبرى على الذكاء الاصطناعي، تتحرك دول الخليج بثبات لتأمين موقعها في قلب هذا التحول.

10