الحسم العسكري ورغبة التوسع يهددان حلم الاندماج والتطبيع الإسرائيلي

سياسات الضم تقوض العلاقات مع دول اتفاقيات أبراهام مهما كانت المكاسب الاقتصادية أو الأمنية.
الاثنين 2025/09/08
توسع الاستيطان يعزل تل أبيب إقليميا

في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل عملياتها العسكرية في غزة، مدفوعة برغبة معلنة في الحسم الميداني وتكريس واقع جغرافي جديد، تتصاعد المخاوف من أن هذا النهج لا يهدد فقط الوضع الإنساني والسياسي في الأراضي الفلسطينية، بل يُقوّض أيضا مشروع التطبيع الإقليمي الذي شكّل حجر الزاوية في إستراتيجية إسرائيل للاندماج مع محيطها العربي.

تل أبيب- يهدد الحسم العسكري ورغبة التوسع بشكل مباشر مشروع الاندماج الإقليمي والتطبيع الذي طالما روجت له إسرائيل كتحول إستراتيجي في علاقاتها مع محيطها العربي.

وبينما تتصاعد العملية العسكرية الإسرائيلية في مدينة غزة، مصحوبة بتهجير قسري لعشرات الآلاف من السكان نحو الجنوب، وتهديدات بمواصلة الهجوم حتى “استسلام حماس”، تتجه الأنظار ليس فقط إلى مآلات الحرب، بل إلى التداعيات الأعمق التي قد تطيح بجوهر مشروع التطبيع، الذي راهنت عليه تل أبيب كمدخل لترسيخ وجودها الإقليمي.

ويعكس التوسع العسكري في القطاع، المقترن بعمليات قصف مكثفة واستهداف للبنية التحتية المدنية، إصرار حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل على فرض واقع جديد بالقوة، سواء في غزة أو في الضفة الغربية.

ولا يهدد هذا الإصرار فقط الوضع الإنساني ويُفاقم من الكارثة المستمرة، بل يكشف عن توجه واضح نحو مشروع تفريغ الأرض، عبر دفع المدنيين نحو الحدود المصرية، في تجاهل تام لتحذيرات القاهرة من المساس بأمنها القومي أو زعزعة الاستقرار الحدودي.

محمد التماوي: التصعيد يعكس أزمة داخل السياسة الإسرائي

وفي الخلفية، يُطرح مشروع ضم الضفة الغربية مجددًا داخل المؤسسة السياسية الإسرائيلية، مدفوعًا بضغط من أجنحة اليمين القومي والديني، الذين يرون في اللحظة الحالية فرصة لا تُعوّض لتكريس السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الأراضي الفلسطينية، خاصة مع غياب ردع دولي حقيقي، وانشغال القوى الكبرى بصراعات أخرى.

لكن هذه الحسابات، مهما بدت مغرية لبعض الساسة في إسرائيل، فإنها تصطدم بواقع إقليمي حساس، يتجسد في موقف إماراتي حازم عبّرت عنه أبوظبي بوضوح، عندما اعتبرت أن “الضم خط أحمر سيقوض اتفاقيات أبراهام”.

ولم تكن هذه الرسالة مفاجئة فقط للمؤسسة السياسية الإسرائيلية، بل كشفت أيضًا عن هشاشة فرضية فصل مسار التطبيع عن القضية الفلسطينية. فالدول العربية التي انخرطت في هذه الاتفاقيات ترى أن بقاء الاحتلال وسياسات الضم يقوض شرعية العلاقة مع إسرائيل، مهما كانت المكاسب الاقتصادية أو الأمنية.

ورغم أن الحكومة الإسرائيلية اضطرت إلى تجميد مؤقت لمناقشات الضم بعد ضغط إماراتي، كما أوردت وسائل إعلام عبرية، إلا أن الموقف العام لحكومة نتنياهو لا يزال غامضًا، وسط ضغوط داخلية تدفع باتجاه التصعيد، واستثمار اللحظة الراهنة لتوسيع السيطرة على الأرض.

ويتزامن ذلك مع تجاهل إسرائيل لمبادرات وقف إطلاق النار التي قبلت بها حركة حماس وفصائل فلسطينية أخرى، كان آخرها مقترح 18 أغسطس، الذي دعا إلى وقف دائم لإطلاق النار، انسحاب كامل للقوات، دخول المساعدات، وتبادل أسرى عبر وساطة دولية.

وفي هذا السياق، تبدو إسرائيل وكأنها تحرق المراحل، في محاولة لفرض أمر واقع جديد قبل أن يُعاد ترتيب الطاولة الدبلوماسية الدولية. لكنها تفعل ذلك وهي تضع على المحك أهم مكتسباتها السياسية خلال العقد الأخير: اندماجها الجزئي في المحيط العربي.

وكان مشروع التطبيع، لاسيما مع دول الخليج، يمثل انتقالا نوعيا في موقع إسرائيل الإقليمي، وانتزع لها مكانًا في معادلات اقتصادية وأمنية جديدة، كان يُفترض أن تُترجم إلى استقرار طويل المدى.

لكن هذا المشروع، الذي سُوّق له دوليًا على أنه “سلام من دون حل”، مهدد اليوم بالتآكل والانهيار إذا استمرت إسرائيل في تجاهل استحقاقات السلام الحقيقي، وفي مقدمتها إنهاء الاحتلال، ووقف سياسات الضم والاستيطان.

ولا يمكن فصل الرسائل التي صدرت من الإمارات عن هذا السياق، وهي تشير بوضوح إلى أن اتفاقيات التطبيع ليست شيكا على بياض، ولا يمكن أن تكون غطاءً لتصفية القضية الفلسطينية بالقوة.

ابتسام الكتبي: ضرب التوازن بين المكاسب الأمنية وشروط السلام هو خطر حقيقي

وتوضح د. ابتسام الكتبي من مركز الإمارات للسياسات أن “المزيد من العنف يرتد سلبًا على التطبيع وأن ضرب التوازن بين المكاسب الأمنية وشروط السلام هو خطر حقيقي، خصوصًا إذا استمرت إسرائيل في تجاهل أبعاد السلام والاستقرار الإقليمي “.

ولا تكمن الخطورة فقط في احتمالية انهيار الثقة مع دول التطبيع، بل في فتح جبهات تصعيد جديدة، خصوصًا في الضفة الغربية، حيث تشير تقارير أمنية إسرائيلية إلى أن أي محاولة لضم مناطق إضافية ستُشعل فتيل مواجهات أوسع، وتُنهي ما تبقى من التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، ما سيضع إسرائيل أمام جبهة داخلية غير مستقرة، في وقت تواجه فيه تحديات دولية متزايدة.

ومع اقتراب مؤتمر “حل الدولتين” في نيويورك هذا الشهر، الذي يُتوقع أن يشهد اعترافًا دوليًا أوسع بالدولة الفلسطينية، تجد إسرائيل نفسها محاصرة بتناقضات صارخة: فهي تريد الحسم العسكري والضم والتوسع، لكنها أيضًا تريد الحفاظ على شبكة علاقات إقليمية قائمة على افتراض حسن النية والانفتاح.

وبين هذين الخيارين، تبدو الحكومة الإسرائيلية عالقة في إستراتيجية قصيرة النظر، قد تحقق مكاسب ميدانية آنية، لكنها تُلحق أضرارًا إستراتيجية يصعب ترميمها.

ويقول د. محمد التماوي، الباحث في الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية، إن “التصعيد يعكس أزمة داخل السياسة الإسرائيلية” وأنه “يبرهن على أن الحل العسكري ليس بديلاً عن عملية سياسية عادلة ومستندة إلى الشرعية الدولية”.

ويتعرض حلم إسرائيل بالاندماج في المنطقة العربية اليوم لأخطر اختبار منذ انطلاق اتفاقيات أبراهام. فسياسات الحسم والتوسع لم تعد تُقرأ كأمن قومي فقط، بل كخطر إقليمي يقوّض فرص الاستقرار ويعيد المنطقة إلى دائرة المواجهات.

وإذا لم تتراجع تل أبيب عن هذا المسار، فإنها لا تُهدد فقط غزة أو الضفة، بل تُهدد أيضًا المشروع السياسي الذي أعاد صياغة موقعها في الشرق الأوسط.

والحقيقة الواضحة اليوم، أن من يريد الاندماج، لا يمكنه أن يفرض الإقصاء، ومن يسعى للتطبيع، لا يمكنه أن يستمر في الحرب.

وعملية “عربات جدعون” هي الاسم الذي أطلقه الجيش الإسرائيلي على عمليته العسكرية ضد قطاع غزة، والتي بدأت بشكل موسّع أواخر عام 2024، وتواصلت خلال عام 2025.

اتفاقيات أبراهام ليست شيكا على بياض، ولا يمكن أن تكون غطاءً لتصفية القضية الفلسطينية بالقوة

وتهدف العملية بشكل رئيسي إلى ضرب قدرات حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، وتقول إسرائيل إنها تسعى من خلالها إلى إجبار حماس على الاستسلام وإنهاء تهديدها بشكل كامل.

ومرت العملية بعدة مراحل. ففي البداية، ركز الجيش الإسرائيلي على مناطق شمال قطاع غزة، ثم امتدت إلى مدينة غزة نفسها، حيث بدأت مرحلة جديدة أُطلق عليها اسم “عربات
جدعون 2”.

وخلال هذه المرحلة، صعّدت إسرائيل من قصفها الجوي، واستهدفت أبراجًا سكنية وبنية تحتية، مما أدى إلى نزوح أكثر من 90 ألف فلسطيني نحو الجنوب.

وتحدث قادة الجيش الإسرائيلي عن احتمال الانتقال إلى “عربات جدعون 3″، في حال لم تُحقق الأهداف المعلنة، وعلى رأسها استسلام حماس.

وقد أثار هذا التهديد قلقًا واسعًا، خاصة في ظل التحذيرات المتكررة من منظمات إنسانية ودول عربية من تدهور الأوضاع في القطاع.

6