إعادة إعمار سوريا فرصة لتخفيف أزمات لبنان
عملية إعادة إعمار سوريا تفتح نافذة فرص نادرة للبنان الغارق في الأزمات. فالتداخل الجغرافي والتاريخي بين البلدين يمنح بيروت موقعا مميزا يمكن أن يحوله من ساحة أزمة إلى منصة إقليمية لإدارة التعافي السوري. غير أن تحويل هذه الإمكانية إلى مكسب فعلي يظل مشروطاً بإصلاحات داخلية عميقة وقدرة بيروت على استعادة ثقة المجتمع الدولي وتجاوز حساباتها السياسية الضيقة.
بيروت - بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية السورية وسقوط نظام بشار الأسد، تبدو سوريا أمام مهمة إعادة إعمار هائلة ومعقدة تتطلب موارد مالية ضخمة وتدخلا واسعا من المجتمع الدولي. فحجم الدمار غير مسبوق، إذ تحولت مدن وأحياء بكاملها إلى أنقاض، انهارت البنية التحتية الأساسية، وتعطلت المؤسسات العامة وغرق ملايين السوريين في الفقر والنزوح.
وترى الباحثة باتريشيا كرم في تقرير نشره المركز العربي لواشنطن دي-سي أنه رغم أن الأنظار تتجه إلى القوى الكبرى وشركات البناء الدولية، يبرز لبنان، الغارق بدوره في أزمة اقتصادية خانقة منذ عام 2019، كلاعب يمكن أن يحوّل هذه المأساة الإقليمية إلى فرصة لتخفيف أزماته الداخلية واستعادة بعض من دوره الاقتصادي التقليدي في المشرق.
ويعيش لبنان واحدة من أسوأ الانهيارات المالية في التاريخ الحديث، حيث فقدت عملته أكثر من تسعين في المئة من قيمتها، وانهار قطاعه المصرفي الذي كان يوصف ذات يوم بالصلابة، وارتفعت نسب الفقر إلى مستويات غير مسبوقة.
ومع ذلك، فإن الجغرافيا والروابط التاريخية بينه وبين سوريا تمنحه موقعا فريدا يمكن استثماره في سياق إعادة الإعمار.
يمكن للبنان أن يستعيد من خلال مشاريع إعمار سوريا بعضا من مكانته الاقتصادية ويمنح شعبه بارقة أمل للخروج من أزمته الممتدة
وكان لبنان لعقود بمثابة الرئة الاقتصادية لسوريا في فترات العزلة، إذ اعتمد النظام السوري على مصارف بيروت لإدارة معاملاته المالية، وعلى موانئه ومطاراته للتغلب على القيود والعقوبات.
كما لعبت العمالة السورية دورا محوريا في الاقتصاد اللبناني عبر قطاعات الزراعة والبناء والخدمات، بينما استفاد لبنان بدوره من الطرق والأسواق السورية لتصدير منتجاته إلى الأردن والعراق والخليج.
ولا يزال هذا الإرث التبادلي قائما، ويمكن أن يتحول اليوم إلى قاعدة لتعاون جديد قائم على منطق المصلحة المتبادلة.
إعادة إعمار سوريا، التي قدّر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي كلفتها بأكثر من تسعمئة مليار دولار، ليست مجرد عملية ترميم عمراني، بل مشروع استراتيجي ضخم سيحتاج إلى قنوات مالية ولوجستية وإدارية قادرة على استيعاب التدفقات الدولية.
وفي هذا السياق، يمكن للبنان أن يقدم نفسه كمنصة موثوقة نسبيا مقارنة بالمؤسسات السورية الهشة. فالمانحون الدوليون، رغم تخفيف بعض العقوبات، ما زالوا مترددين في التعامل المباشر مع دمشق بسبب ضعف الشفافية وخطر الفساد، ما يجعل من بيروت خيارا بديلا إذا تمكنت من استعادة ثقة المجتمع الدولي.
لكن تحويل هذه الفرصة إلى واقع يتطلب من لبنان القيام بإصلاحات بنيوية لم ينجح في تنفيذها حتى الآن.
ويعتبر إصلاح القطاع المصرفي شرطا أساسيا، إذ لا يمكن لأي تدفقات مالية أن تمر عبر نظام مصرفي فاقد للثقة محليا ودوليا. كما أن تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد وتطوير البنية التحتية اللوجستية، خصوصا ميناء طرابلس القريب من الحدود السورية وميناء بيروت الذي ما زال يعاني آثار انفجار 2020، تمثل ركائز لا غنى عنها لجعل لبنان بوابة طبيعية لإعادة الإعمار.
كما تحتاج الطرق البرية الرابطة بين بيروت ودمشق أو طرابلس وحمص بدورها إلى تحديث لتسهيل حركة البضائع والمواد، ما يمنح الشمال اللبناني دفعة اقتصادية ويختصر الكلفة على سوريا.
وإلى جانب ذلك، يمتلك لبنان شبكات واسعة من المهندسين والمقاولين والمكاتب الاستشارية التي كانت نشطة قبل الحرب في دمشق وحلب وحمص.
ويكتسب البعد التنافسي في ملف إعادة إعمار سوريا أهمية استثنائية، إذ لا يقتصر الأمر على رغبة لبنان في اغتنام الفرصة، بل يتعلق أيضاً بتنافس إقليمي محتدم بين عدة أطراف تسعى لتأمين موقع متقدم في هذه العملية الضخمة. تركيا، على سبيل المثال، تطرح نفسها بقوة عبر خبرتها الكبيرة في قطاع البناء، وقدرتها على الحشد السريع لشركاتها ومقاوليها الذين يمتلكون خبرة طويلة في مشاريع البنية التحتية في الشرق الأوسط، إضافة إلى حضورها العسكري والسياسي المباشر في شمال سوريا الذي يمنحها نفوذاً ميدانياً يسهّل الدخول إلى بعض المناطق.
وأما الأردن، فيعتمد على موقعه الجغرافي كمعبر بري نحو الخليج والعراق، ويقدّم نفسه كخيار أكثر استقراراً سياسيا وأمنيا إداريا، حيث تسعى عمّان إلى لعب دور الوسيط الموثوق بين المجتمع الدولي ودمشق.
ومن جانب آخر، تملك بعض دول الخليج، خصوصاً الإمارات والسعودية وقطر، القدرة المالية الهائلة والخبرة في تنفيذ مشاريع تنموية كبرى، وهي تدرك أن إعادة إعمار سوريا ليست مجرد عملية اقتصادية، بل ورقة نفوذ سياسي طويل الأمد في المشرق. كما أن هذه الدول قد تفضّل إدارة الأموال عبر مراكزها المالية المستقرة كبنوك دبي أو الرياض، ما يضع بيروت أمام منافسة شرسة في جذب التدفقات المالية.
وفي ظل هذه المعادلة، يصبح على لبنان أن يثبت أنه ليس مجرد ممر جغرافي بحكم قربه من سوريا، بل منصة موثوقة وفعالة يمكن الاعتماد عليها.
ويتطلب ذلك إصلاح نظامه المصرفي المنهار، وتطوير موانئه وبناه التحتية، والأهم إقناع الشركاء الإقليميين والدوليين بأنه قادر على توفير بيئة شفافة نسبياً تحمي الاستثمارات من الفساد أو النفوذ السياسي غير المتوازن.
وقد يعني أي تأخير في هذه الخطوات خسارة لبنان لفرصة تاريخية، في وقت تتسابق فيه العواصم الإقليمية لتأمين حصتها من كعكة إعادة الإعمار السوري.
الانقسامات السياسية والطائفية في لبنان تهدد بتحويل أي تدفقات مالية إلى محاصصة فئوية شبيهة بما جرى بعد الحرب الأهلية اللبنانية
ورغم أنه لا يستطيع منافسة شركات البناء التركية في الحجم والكفاءة، إلا أنه قادر على لعب دور تكميلي في المشاريع المتوسطة والمتخصصة، وهو ما يمكن أن يفتح مجالا أمام الشركات اللبنانية لتأمين عقود وفرص عمل تعزز دورة الاقتصاد الداخلي.
كما أن الشتات اللبناني، المعروف بدوره في تحويل الأموال وتوفير الخبرات، يمكن أن يكون رافعة إضافية لدعم المشاريع المرتبطة بسوريا، عبر استثمارات مباشرة أو شراكات مع المانحين الدوليين.
غير أن المخاطر كبيرة. فالانقسامات السياسية والطائفية في لبنان تهدد بتحويل أي تدفقات مالية إلى محاصصة فئوية شبيهة بما جرى بعد الحرب الأهلية اللبنانية.
ويعمّق استمرار نفوذ حزب الله الشكوك الدولية، ويثير ترددا لدى بعض المانحين الغربيين والخليجيين في الاستثمار عبر بيروت. كما أن تباطؤ الإصلاحات يهدد بجعل لبنان خارج المعادلة، خاصة مع وجود منافسين إقليميين كتركيا أو حتى بعض المراكز الخليجية القادرة على تقديم بيئة أكثر استقراراً.
ومع ذلك، فإن ربط تعافي لبنان بعملية إعادة إعمار سوريا يظل مسارا إستراتيجيا قد يخدم الطرفين معا. سوريا بحاجة إلى رأس المال والخدمات والبنية اللوجستية التي لا تستطيع مؤسساتها الضعيفة توفيرها، ولبنان بحاجة إلى تدفقات استثمارية ومصادر نمو جديدة تعيد إدماجه في الاقتصاد الإقليمي.
ويمكن للنجاح في اغتنام هذه اللحظة التاريخية أن يحوّل لبنان من دولة مهددة بالانهيار إلى شريك فاعل في مشروع إعادة إعمار إقليمي واسع، يستعيد من خلاله بعضاً من مكانته الاقتصادية ويمنح شعبه بارقة أمل للخروج من أزمته الممتدة.