أخطر ما في خلافاتنا المذهبية أنها بلا معنى
لماذا يصرّ بعض المسلمين، سنة وشيعة، على البقاء داخل دائرة النزاع وأسرى لخلافات هامشية؟ ولماذا تُستنزف الطاقات في نقاشات متكررة حول السجود على التربة، صيام يوم عاشوراء، صلاة التراويح، وتكتيف اليدين؟
هذه الأسئلة تفرض نفسها ونحن نرى كيف يعاد هذا الجدل بإصرار وتعمد في بعض القنوات الفضائية والدينية ومنصات التواصل الاجتماعي، وكأن الفكر الإسلامي لم يورّث أتباعه إلا هذا الهامش المرهق من المعرفة الجدلية، وكأن العالم الإسلامي بلا هموم وصراعات تهدد وجوده.
المشكلة بكل تأكيد ليست في وقوع الخلاف، فالاختلاف سنة كونية، وجزء من حيوية الفكر الإسلامي، إنما الإشكال العميق هو في الإصرار على البقاء داخل “دائرة الخلاف الأدنى”، حيث تدور المعارك حول الشكل لا المضمون، أما حين يُدار الخلاف بعقل نقدي ومنهج علمي، فإنه لا يعطّل الفكر بل يرتقي به.
منذ البدايات الأولى، كان الخلاف حاضرًا في التجربة الإسلامية، وكان في أحيان كثيرة مدخلًا لتوسيع الفكر وتطوير أدوات الفهم. فقد عرف المسلمون، رغم التباين، كيف يحوّلون الاختلاف إلى فرصة لبناء مدارس علمية، أسهمت في تأسيس علوم لا تزال حية حتى اليوم، مثل أصول الفقه، وعلم الكلام، والمنطق.
هناك محاولات جادة لتوسيع دائرة المقاصد لكنها تحتاج إلى تثبيت في العقل الفقهي العام لاسيما في ظل تحديات مفاهيم من قبيل الكرامة الإنسانية والتحول البيئي والعدالة الرقمية
خذ مثلًا الجدل حول “العقل والنص” في القرن الرابع الهجري، حين خاض القاضي عبدالجبار المعتزلي، والشيخ المفيد الإمامي، والباقلاني الأشعري نقاشًا عميقًا وحادا حول حدود العقل وموقع النص. فالمعتزلة جعلوا للعقل المرجعية، والأشاعرة قيدوه بالنقل، بينما ضبطه المفيد بالمعصوم، هذه الخلافات وسّعت أفق الاجتهاد وفتحت المجال لنقاشات وعلوم لا تزال حيوية حتى اليوم في المعرفة الدينية.
ما نحتاجه إذًا ليس إنهاء الخلاف، بل ترشيده نحو قضايا تستحق الجدال على سبيل المثال:
مقاصد الشريعة: لم تعد الضرورات الخمس كافية لمواكبة تعقيدات الواقع المعاصر، نعم هناك محاولات جادة لتوسيع دائرة المقاصد، لكنها تحتاج إلى تثبيت في العقل الفقهي العام، لاسيما في ظل تحديات مفاهيم من قبيل الكرامة الإنسانية، والتحول البيئي، والعدالة الرقمية. هذا الخلاف البنّاء لا يعطل المقاصد، بل يعيد تفعيلها كأداة لضمان مواكبة الشريعة لمتغيرات الزمان.
حدود وظيفة المرأة: والذي يتعلق بإعادة قراءة البنية الفقهية التي حددت أدوار المرأة لعقود، ورغم التقدم الملحوظ، يبقى النقاش ملحّا حول مدى أهلية المرأة للمرجعية الدينية، أو القيادة السياسية، في ضوء مبدأ التكليف العام، وهذا الخلاف يتصل بجوهر التصور الإسلامي للكرامة والمساواة.
فهم التاريخ: ثمة جهود علمية لا تنكر لمقاربة التاريخ الإسلامي خارج سطوة التقديس، لكنها ما زالت محاصرة بمنطق التعصب المذهبي. من هنا تأتي أهمية التعاطي النقدي مع التاريخ بوصفه مجالا للتحليل والفهم، وليس بوصفه نزاعا عقائديا، فعلم التاريخ مهمته فهم عوامل الصعود والانهيار وليس التعبد في محرابه.
هذه أمثلة لقضايا تستحق النقاش والجدل، وتؤكد أن الخلاف إذا خرج من أسر الهوية إلى أفق المعرفة، صار دافعا للتطور. فالمشكلة اليوم ليست في تنوع المذاهب وإنما في غياب المنهج الذي يدير التنوع، وما نحتاجه هو حوار جاد يعيد ترتيب علاقتنا مع الزمن وقضايا الإنسان.
أما الأخطر فهو أن نعيش الخلاف بلا وعي، ونكرّره بلا سؤال. فحين تُفتح دفاتر الخلاف عند وقوع المجازر في بلد إسلامي، وحين يُستدعى الجدل المذهبي لحظة اشتداد القصف في غزة، لا بد أن نتوقف ونتساءل: من يكتب سيناريو هذه المصادفات المتكررة؟ ولماذا نتفاعل معها بذات الحماسة، وكأننا نراها لأول مرة؟