عصام أبوشندي لـ"العرب": الأدب يمكنه توثيق الأحداث السياسية والعسكرية والثقافية

"شلالات بئر السبع".. رحلة توثق تاريخ البدو المهمل.
الأربعاء 2025/07/23
تأريخ للبدو المنسيين (لوحة للفنان مهنا الدرة)

أصدر الروائي الأردني عصام أبوشندي الكثير من الأعمال الروائية، وديوان شعر وحيدا، وعددا من الكتب النقدية والبحثية، مقدما تجربة أدبية مختلفة المشارب. وفي روايته الأخيرة "شلالات بئر السبع" نقرأ عن عنصر مهمل نسبيا هم البدو. "العرب" كان لها معه هذا الحوار حول روايته هذه.

لا تمثل الرواية مجرد سرد لسيرة حياة الشخصية الرئيسية “حماد” من مولده عام 1960 م حتى بلوغه الكهولة، بل هي لوحة بانورامية ترصد التحولات العميقة التي شهدتها الأمة العربية، وتأثيرها على حياة بدو بئر السبع، الذين أجبروا على النزوح واللجوء.

سيرة شخص وعائلة

تتناول رواية “شلالات بئر سبع” أحداثا تاريخية مهمة مثل حرب 1967 م وحرب 1973 م، والحرب العراقية – الإيرانية، وانتفاضة الحجارة، وغزو الكويت.

حول هذه الأحداث ومساهمتها في تشكيل شخصية حماد وعائلته، يقول عصام أبوشندي لـ”العرب”: “لا أظن أن هذه الأحداث السياسية أو العسكرية المشار إليها في الرواية، كان لها دور في تشكيل شخصية حماد، بقدر ما هي محطات زمنية رغب الكاتب في الإشارة إليها، على اعتبار أنها السياق الزمني الذي مرت به الأمة العربية في القرن العشرين، ومن بينهم بدو بئر السبع، حالهم كحال غيرهم من المكونات البشرية سواء في المجتمع الأردني أو غيره من المجتمعات العربية الأخرى، على اعتبار أنهم لاجئون اكتسبوا الجنسية الأردنية بعد عام 1951 م، وفي هذه الثنايا يعمد الكاتب إلى الإيماء لعدد من الموضوعات والثيمات، التي تهم هذه الفئة البشرية من أبناء المجتمع الأردني، ما يمكن أن يكون ميزات لهذه الفئة، أو مثالب تقدح في الطباع الجمعية العمومية لديهم.”

عصام أبوشندي: كوني من البدو هو ما دفعني لكتابة روايتي بهذه الصورة، لأعبّر به عمّا يجيش في الوجدان الجمعي لهذه الفئة
عصام أبوشندي: كوني من البدو هو ما دفعني لكتابة روايتي بهذه الصورة، لأعبّر به عمّا يجيش في الوجدان الجمعي لهذه الفئة

تظهر الرواية صراعا بين البدو والفلاحين، وبين حياة البداوة والحياة المدنية. لكن أبوشندي لا يظن أن المسألة مسألة صراع بين البدو والفلاحين في متن الرواية، بقدر ما هي رصد لمراحل تطور هذه الفئة من الناس “بدو بئر السبع” وتحولهم من طور البداوة والسكنى في بيوت الشعر، إلى بناء البيوت الطينية فالإسمنتية، وصولا إلى حالة الثراء التي جسدتها أسرة “حماد” بعد أن باتت تمتلك مجموعة اقتصادية ضخمة، كان لها في ما بعد دور مهم في الحراك الاقتصادي في الأردن، وما يمكن أن يفهمه القارئ من رغبة الكاتب في رسم صورة مشرقة لهذه الفئة من خلال هذه النمو والتطور البنّاء.

تبرز الرواية بشكل واضح الفروقات بين اللهجات البدوية والحضرية. تسأل “العرب” الكاتب هل كان اختياره لهذا التنوع اللغوي مقصودا ليعكس تنوع الهويات الاجتماعية أم كان له غرض أدبي آخر؟ وكيف أثّر هذا التنوع اللغوي على سرد القصة؟

يجيبنا أبوشندي “من المعروف أن لهجة بدو بئر السبع تمتاز بما يمكن وصفه بالثقل والتقعر، الذي قد يصعب فهمه على فئات مجتمعية عربية أخرى، وحالهم في هذا كحال الفئات البدوية القريبة منهم كبدو سيناء أو شمال غرب السعودية وجنوب الأردن، وأنا هنا أرجح أن الكاتب تعمد الإشارة إلى بعض السمات اللهجية لهذه الفئة، رغبة منه في المساس ببعض مما يعتز به هؤلاء القوم ويفتخرون به، وهم يستشعرون في قرارة الوجدان الجمعي لديهم، شيئا من عقدة النقص بسبب اللجوء وهجر الوطن الأم فلسطين، عبر الأجيال المتوالية خلال الخمس وسبعين سنة الماضية، من عمر القضية الفلسطينية بعد عام 1948 م.”

الرواية تتحدث عن الهجرة القسرية لأهل بئر السبع. ويصور الكاتب تجربة النزوح واللجوء وتأثيرها على الشخصيات، يقول “تشكل شخصية حماد امتدادا لشخصية والده سليمان السجايدة، المولود في بادية بئر السبع عام 1930م، الذي هجّر قسرا منها عام 1948 م وعمره ثماني عشرة سنة، بحيث يولد له حماد عام 1960 م مرورا بالأحداث التاريخية التالية، وقد لا تكون الرواية تناولت بشكل درامي دقائق من صور التهجير واللجوء، وما يتخللهما من آلام تعرض لها أبناء الشعب الفلسطيني، كما هو الحال في روايات أخرى، كروايات غسان كنفاني أو روايات رضوى عاشور على سبيل المثال، ولكن الرواية تومئ ولو إيماء إلى آلام اللجوء ما ترتب عليه بعد ذلك من شعور بالنقص في الوجدان الجمعي لهذه الفئة من أبناء المجتمع الأردني، وهم يرون غيرهم من المتعلمين من الفئات الأخرى، تسند لهم المناصب الحكومية والعسكرية وما شابه، في حين يكتفون هم بالفرجة على هذا الحراك وحسب.”

وبسؤاله إن كان هناك هدف من إظهار “الصورة المغلوطة عن البدو” في الرواية، يعلق أبوشندي “لا شك في ذلك، لأن هذه الفئة البشرية كغيرها من الفئات البشرية الأخرى، لها ما لها وعليها ما عليها، ولا ينتظر من الرواية أن تظهر صورهم ناصعة ومشرقة وحسب.”

الرواية ترصد التحولات العميقة التي شهدتها الأمة العربية وتأثيرها على حياة بدو بئر السبع الذين أجبروا على النزوح

شخصية حماد معقدة، فهو يعتز بأصوله البدوية وفي الوقت نفسه يتوق إلى الحياة المدنية. ويقر الكاتب بأن هذا الشعور المتناقض بين الاعتزاز بالأصول البدوية، والتوق إلى التحول للحياة المدنية لدى شخصية حماد، نابع مما يلاحظه وهو أحد أبناء هذه الفئة، من شعور كهذا الشعور لدى شريحة ليست بقليلة لدى أبناء هذه الفئة، من حيث الاعتزاز بالأصول البدوية العريقة من جهة، ونزوع من جهة ثانية نحو التطور والتمدن الذي قد يكون نابعا من الرغبة في تولي مناصب في جسد الدولة الأردنية سياسيا وعسكريا ومدنيا، حالهم كحال الفئات الأخرى التي يرونها لا تفوقهم في شيء سوى أنهم ليسوا بلاجئين ولا أبناء لاجئين، كما هو حال هذه الفئة. ويوضح أنه بلا شك أن هذا الشعور لدى حماد كان له دور في الإسهام في دفع حبكة الرواية.

شخصية “وليد” تمثل الجانب المتمرد في الأسرة. تسأل “العرب” أبوشندي هل يعتبر شخصية وليد شخصية سلبية أم أنها تعكس صراع الأجيال؟ ليجيبنا “لا أعتقد أن حدث غياب وليد ابن حماد له تلك الدلالة المهمة في متن الرواية، سوى أنه يمثل جانبا من جوانب السوء لدى هذه الأسرة خاصة وهذه الفئة البدوية عامة، الأمر الذي لا يخرج عما يمكن تسميته بـ‘طبائع الأشياء‘، من حيث توفر خصال الخير، في الوقت نفسه الذي تتوفر فيه خصال السوء لدى هذه الأسرة ومن ثم هذه الفئة.”

ويضيف “لا شك أن غياب الفتى أثّر في نفسية والده ووالدته وبقية أسرته، ما يمكن أن تكون له صور مشابهة على أرض الواقع في الحياة المعيشة التي يلمسها الكاتب، بوصفه واحدا من أبناء هذه الفئة.”

الرواية غنية بالتفاصيل اليومية، وكأنها تسجل سيرة ذاتية. يعلق أبوشندي “تعمدت بصفتي كاتبا اختيار هذه الأسلوب السيري في الكتابة، من حيث اتخاذه سيرة حياة حماد الحدث الرئيس في بناء الرواية، هذه السيرة التي قد ترمز لهذه الفئة وهذا المكون من مكونات المجتمع، وخط سيره في العموم في سياق حياة المجتمع الأردني، عبر هذه العقود من عمر الدولة الأردنية الحديثة، بعد عام 1948 م وما تبعها من أحداث على الصعيدين الخاص بالأردن، والعام الذي يشمل الأمة العربية عامة.”

ويرجّح الكاتب أن هذا التسلسل لم يشتت ذهن القارئ، بقدر ما عمد إلى تجسيد الدور الذي لعبته هذه الفئة المختزلة في عائلة حماد.

يظهر في الرواية العديد من الحوادث العائلية والاجتماعية والسياسية، وهذه الأحداث المختلفة، وفق الكاتب، تتعلق بشخصيات حماد أو ابنه عبدالله أو شقيقته شادية، ينتظمها شيء من الترابط الذي يفضي بالنهاية إلى تصوير وتجسيد الدور الذي لعبته هذه الأسرة في سياق المحيط البشري الذي تعيش فيه، وفيها تختزل صورة هذه الفئة البشرية “بدو بئر السبع” في سياق هذه المجتمع إيجابا وسلبا، وهذه الأحداث جاءت من وجهة نظره متراتبة قدما في سياق حبكة الرواية.

توثيق أدبي

الرواية ترصد التحولات العميقة التي شهدتها الأمة العربية وتأثيرها على حياة بدو بئر السبع الذين أجبروا على النزوح
الرواية ترصد التحولات العميقة التي شهدتها الأمة العربية وتأثيرها على حياة بدو بئر السبع الذين أجبروا على النزوح

يتحدث عصام أبوشندي لـ”العرب” حول رمزية عنوان “شلالات بئر السبع”، يقول “في ظني أن كلمة ‘شلالات‘ قد تمثل دعوة وجدانية نابعة من قلب الكاتب، بـ‘سقيا‘ تلك الديار التي تشتاق لها أرواح بنيها من البدو، مع العلم أن نسبة كبيرة منهم ممن يعيشون في سياق المجتمع الأردني في الآن الحالي، لم يعايشوا بئر السبع البيئة والمكان والأرض، وإنما تربطهم بها رابطة الروح والوجدان التي ورثوها عن آبائهم، على اعتبار أن جيلا أو جيلين أو ثلاثة لحقهم الفناء والموت ممن سبق في سياق التراتب الزمني، والأجيال الحالية وارثة لتلك المحبة والتعلق عن الآباء والأجداد.”

ويضيف “الذي لا شك فيه أن الأدب يمتلك من الإمكانيات ما يمكنه من توثيق الأحداث السياسية والعسكرية والثقافية في سياقات الأعمال الأدبية، ناهيك عن أنه قد يكون وثيقة يمكن أن تقرأ في ثنياتها كثير من الأبعاد الوجدانية، التي قد يتمكن القارئ الذكي من استخلاصها من ثنيات أرواح النصوص النثرية والشعرية.”

حول ما ألهمه لكتابة “شلالات بئر سبع”، يقول الكاتب الأردني “لا ريب أن كوني أحد أفراد هذه الفئة، هو ما دفعني للكتابة وإخراج هذا النص الأدبي بهذه الصورة، لأعبّر به عمّا يجيش في الوجدان الجمعي لدى نسبة كبيرة من أبناء هذه الفئة، ما يستشعرونه ويتحسسونه في وجداناتهم، من أشواق لديار الآباء والأجداد، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية، ما يستشعرونه من انتقاص يلحق بهم وهم يرون الفئات المجتمعية الأخرى تتسيد عليهم في سياق هذا المجتمع، الذي باتوا جزءا لا يتجزأ منه مع طول السنين، وهم لا حول لهم ولا قوة، مع أن فئات كثيرة منهم باتوا أساتذة جامعات وأطباء ومهندسين ومعلمين وخطباء مساجد إلخ”.

ولا يخفي أنه زج ببعض التجارب الشخصية التي مرت به في عالم الواقع، في البناء الفني لهذه الرواية، وأخيرا فإن شخصية “حماد” هي بلا شك اختزال لشخصية الرجل البدوي من بئر السبع، الذي يجد نفسه متعلقا بالأرض الأصل بئر السبع، وفي الوقت نفسه يجد حقه منقوصا في أن يكون له دور أكثر تأثيرا وفاعلية، في سياق المجتمع الأردني الذي يعيش فيه.

13